عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من السماء بصحبة جبريل عليه السلام إلى بيت المقدس مرَّة ثانية، حيث كانت هناك فقرات ختامية مهمَّة لهذه الرحلة المهيبة رحلة الإسراء والمعراج، ثم استكمل طريقه إلى مكة.



عودة لبيت المقدس

روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ".. وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي، فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ، جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَإِذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عليه السلام قَائِمٌ يُصَلِّي، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ عليه السلام قَائِمٌ يُصَلِّي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي نَفْسَهُ - فَحَانَتِ الصَّلاَةُ فَأَمَمْتُهُمْ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلاَةِ قَالَ قَائِلٌ: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا مَالِكٌ صَاحِبُ النَّارِ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَبَدَأَنِي بِالسَّلاَمِ" [1].



والذي يدعونا إلى توقُّع أن تكون هذه الصلاة السابقة بعد رحلة السماء، وليس قبلها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرف موسى وعيسى وإبراهيم عليهم السلام؛ بينما كان لا يعرف مالك خازن النار؛ لأنه لم يره في السماء، ومع ذلك فهناك من العلماء مَنْ يُثبت هذه الصلاة قبل العروج إلى السماء، ولا بأس بهذا الخلاف فهو طفيف؛ لأن الجميع تقريبًا مجمعون على حدوث هذه الصلاة، وإمامة الرسول صلى الله عليه وسلم فيها للأنبياء.



ولا يخفى علينا ما في هذه الإمامة من شرف وتكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ خاصة أنهم يسبقونه جميعًا في النبوة، كما أن جلَّهم أكبر منه سنًّا، فكان هذا دليلاً على فضل نبينا صلى الله عليه وسلم ومكانته.



ووقفة مع سلام مالك خازن النار على رسول الله صلى الله عليه وسلم..

لقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة، وغالب الأمر أنه قابل هناك رضوان خازنها؛ لأنه كان دومًا يُعَلِّق على سلام خزنة كل سماء عليه عندما يدخلها، فأغلب الظنِّ أنه التقى رضوان عند لحظة دخوله الأولى، فهذا لقاء مع رئيس ملائكة الجنة.



ومن هنا كان لا بُدَّ له من لقاء مع رئيس ملائكة النار؛ ليتعرَّف بذلك على زعماء الملائكة في العالم الآخر؛ وحيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يذهب إلى النار لكي يرى مشاهدها، إنما عُرِضَتْ له وهو بعيد عنها، فقد أتى اللهُ تعالى بمالك خازن النار لكي يتعرَّف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُسَلِّم عليه، وهذا من تمام التشريف لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.

طريق العودة إلى مكة

انتهت الرحلة المجيدة، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، وفي طريق عودته كان حدث مشهد مهم جعله الله تعالى برهانًا لرسوله الصادق صلى الله عليه وسلم يُثَبِّت حجَّته أمام الكافرين، ويُؤَكِّد لهم حدوث الرحلة العجيبة.



لقد مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق عودته من بيت المقدس إلى مكة بقافلة تجارية مكِّيَّة عائدة إلى مكة المكرمة من الشام، وهذا ما رواه البيهقي -بإسناد صحيح- عن شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ".. ثُمَّ انْصَرَفَ بِي -أي من بيت المقدس- فَمَرَرْنَا بِعِيرٍ لِقُرَيْشٍ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا..". وكان له صلى الله عليه وسلم أربعة مواقف مع هذه القافلة:



الأول: أنه صلى الله عليه وسلم رأى أنهم قد فقدوا بعيرًا، ثم وجده أحدهم، وقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الذي وجد البعير الضالَّ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ".. قَدْ أَضَلُّوا بَعِيرًا لَهُمْ فَجَمَعَهُ فُلاَنٌ".

والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم قد ألقى عليهم السلام وهو طائر على ظهر البراق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ".. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا صَوْتُ مُحَمَّدٍ..".

والثالث: أنه صلى الله عليه وسلم عَرَفَ طريق القافلة وحدَّده، وعَرَفَ كذلك موعد وصول القافلة إلى مكة، وهذا الموعد إمَّا عرفه حسابًا، وإما أخبره الوحي به، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ".. وَإِنَّ مَسِيرَهُمْ يَنْزِلُونَ بِكَذَا ثُمَّ بِكَذَا وَيَأْتُونَكُمْ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا".

أما الرابع: فإنه صلى الله عليه وسلم حدَّد صفة الجمل الأول في القافلة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ".. يَقْدُمُهُمْ جَمَلٌ آدَمُ عَلَيْهِ مِسْحٌ أَسْوَدُ وَغِرَارَتَانِ سَوْدَاوَانِ" [2].



ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته الشريف وقد انتهت الرحلة الهائلة في جزء من الليل، ومَنْ عرف قدرة الله تعالى نظر إلى الأمر على أنه إحدى آيات الله التي لا تنتهي، وإنما كانت هذه الرحلة كلها في جزء بسيط من ملكوت الخالق سبحانه، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85].

________________

[1] مسلم: كتاب الإيمان، باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، (172)، والنسائي (11480).

[2] البيهقي: دلائل النبوة 2/356، 357، واللفظ له، وقال البيهقي: هذا إسناد صحيح. الطبراني: المعجم الكبير (7158)، والبزار: البحر الزخار 8/411.

د.راغب السرجاني