هناك بعض المشاهد التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج لكن لم يَرِدْ على وجه التحديد موضع رؤية هذه المشاهد؛ فقد تكون أثناء إسرائه من مكة إلى بيت المقدس، أو أثناء معراجه من الأرض إلى السماء، أو أثناء زيارته للسموات المختلفة، أو أثناء رحلته في الجنة، أو أثناء عودته من السماء إلى بيت المقدس أو مكة؛ إنها مشاهد ثابتة في الأحاديث الصحيحة؛ لكن لم نتحقَّق من توقيت حدوثها في الرحلة؛ ومن ثَمَّ أثبتناها هنا جميعًا.
رائحة ماشطة فرعون
من هذه المشاهد مروره صلى الله عليه وسلم على رائحة ماشطة فرعون!
روى أحمد -بإسناد صحيح- عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي أُسْرِيَ بِي فِيهَا، أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلادِهَا". قَالَ: "قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهَا؟ قَالَ: بَيْنَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ؛ إِذْ سَقَطَتِ الْمِدْرَى مِنْ يَدَيْهَا، فَقَالَتْ: بِسْمِ اللهِ. فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: أَبِي؟ قَالَتْ: لاَ، وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللهُ. قَالَتْ: أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ. قَالَتْ: نَعَمْ. فَأَخْبَرَتْهُ فَدَعَاهَا، فَقَالَ: يَا فُلانَةُ، وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ. فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُلْقَى هِيَ وَأَوْلادُهَا فِيهَا، قَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً. قَالَ: وَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَتَدْفِنَنَا. قَالَ: ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا مِنَ الحَقِّ". قَالَ: "فَأَمَرَ بِأَوْلادِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا، وَاحِدًا وَاحِدًا، إِلَى أَنِ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ، كَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ، قَالَ: يَا أُمَّهْ، اقْتَحِمِي، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآخِرَةِ. فَاقْتَحَمَتْ" [1].
فهذا تخليد عجيب لذكرى امرأة بسيطة كانت تعمل خادمة في قصر فرعون؛ زعيم البلاد وملكها؛ ليخبرنا الله تعالى أن المجد الحقيقي هو مجد الآخرة؛ فهذه امرأة قد بلغت الدرجات العلا، حتى وصل الأمر إلى أن يختارها الله سبحانه لتكون برائحتها الطيبة إحدى محطات تكريم خير الخلق صلى الله عليه وسلم؛ بينما كان مصير مَلِك البلاد فرعون ما نعرفه جميعًا من سوء العذاب.
صورة مهيبة لجبريل عليه السلام
ومشهد آخر -لعلَّه كان في السماء- يُبْرِز جبريل عليه السلام في صورة تبعث خشية الله ورهبته في القلوب. روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بِالْمَلأِ الأَعْلَى وَجِبْرِيلُ كَالْحِلْسِ الْبَالِي مِنْ خَشْيَةِ اللهِ" [2].
والحِلْسُ كساء رقيق يلي ظهر البعير، والبالي هو الكساء الذي بَلِيَ من كثرة الاستعمال، وهذه صورة خشية كبيرة من الله تعالى، مع أنه -وكذا كل الملائكة- بلا ذنوب ولا خطايا، فكأن الغرض من رؤية هذا المشهد هو تذكير العباد بدرجة الخشية التي ينبغي أن يكونوا عليها.
وصية عجيبة من الملائكة لرسول الله
أما المشهد الأخير من هذه المشاهد فقد يكون أثناء الصعود إلى السماء، وفيه أوصت الملائكة رسولنا صلى الله عليه وسلم وصية عجيبة!
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "حَدَّثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَمُرَّ عَلَى مَلإٍ مِنَ المَلاَئِكَةِ إِلاَّ أَمَرُوهُ أَنْ مُرْ أُمَّتَكَ بِالحِجَامَةِ" [3].
وقال عكرمة رحمه الله: كَانَ لاِبْنِ عَبَّاسٍ، غِلْمَةٌ ثَلاَثَةٌ حَجَّامُونَ "فَكَانَ اثْنَانِ مِنْهُمْ يُغِلاَّنِ [4] عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ وَوَاحِدٌ يَحْجُمُهُ وَيَحْجُمُ أَهْلَهُ" قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نِعْمَ العَبْدُ الحَجَّامُ، يُذْهِبُ الدَّمَ، وَيُخِفُّ الصُّلْبَ [5]، وَيَجْلُو [6] عَنِ البَصَرِ" وَقَالَ: "إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى لله عليه وسلم حِينَ عُرِجَ بِهِ مَا مَرَّ عَلَى مَلإٍ مِنَ المَلاَئِكَةِ إِلاَّ قَالُوا: عَلَيْكَ بِالحِجَامَةِ". وَقَالَ: "إِنَّ خَيْرَ مَا تَحْتَجِمُونَ فِيهِ يَوْمَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَيَوْمَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَيَوْمَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ". وَقَالَ: "إِنَّ خَيْرَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ السَّعُوطُ [7] وَاللَّدُودُ [8] وَالحِجَامَةُ وَالمَشِيُّ [9]"[10].
ووجه العجب في الأمر أن الملائكة تُوصي هذه الوصية الجماعية المتكرِّرة بأمر يظنُّ الناس أنه لا يُفْعَل إلا في ظروف محدودة؛ بل قد يعيش المسلم عشرات السنين دون أن يفعله، ولو مرَّة واحدة؛ بل قد يتفاقم الأمر مع البعض فيعتبره من الطب القديم؛ الذي صار بلا نفع ولا جدوى مع تقدُّم الطب في زماننا.
إن هذه الوصية الملائكية تُثبت بما لا يدع مجالاً للشكِّ أن علمنا ما زال محدودًا، وأن ارتباط معظمنا بالسُّنَّة ما زال ضعيفًا، وأننا نحتاج أن نعيد تقييم الأشياء وفق رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظرته، وما أجدر الأطباء -بل كل المسلمين- أن يقفوا متدبِّرين أمام هذه الوصية، وأمام أمثالها في السُّنَّة المطهَّرة.
________________
[1] أحمد (2822)، واللفظ له، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. وابن حبان (2904)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده قوي. وأبو يعلى (2517)، وقال حسين سليم أسد: إسناده صحيح. والحاكم (3835)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، والطبراني: المعجم الكبير (12308)
[2] الطبراني: المعجم الأوسط (4679)، وابن أبي عاصم: السنة 1/276، وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح. انظر: مجمع الزوائد 1/78، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (2289)، وقال السيوطي: وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه بسند صحيح. انظر: السيوطي: الدر المنثور 5/216، والخصائص الكبرى 1/261، وزاد السيوطي في الدر المنثور: وفي لفظ لابن مردويه: "مَرَرْتُ عَلَى جِبْرِيلَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ فَإِذَا هُوَ كَأَنَّهُ حِلْسٌ بَالٍ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ". الدر المنثور 5/216.
[3] الترمذي: كتاب الطب، الحجامة (2052)، واللفظ له، وقال: حديث حسن. وابن ماجه (3479)، والطبراني: المعجم الأوسط (3176)، وصححه الألباني، انظر: صحيح سنن الترمذي 2/401، 402.
[4] يُغِلاَّن: من الإغلال أي يعطيان الغلَّة؛ وهي ما يحصل من أجرة العبد. المباركفوري: تحفة الأحوذي 6/177.
[5] ويخف من الإخفاف، والصلب؛ أي الظهر. المباركفوري: تحفة الأحوذي 6/177. أَخفَّ الرَّجل أي خَفَّت حالُه ورَقَّت. ابن منظور: لسان العرب، 9/79. والمقصود أن الحجامة تفيد الظهر وتعالجه من الأمراض.
[6] يجلو أي: يجلو (يُذْهِب) عن البصر القذى والرمص -وهو وسخ أبيض جامد يجتمع في مؤخر العين مما يلي الصدغ- ونحو ذلك. المباركفوري: تحفة الأحوذي 6/177.
[7] السعوط: ما يجعل في الأنف من الأدوية. انظر: ابن حجر: فتح الباري 1/132.
[8] اللدود: هو الدواء الذي يُصَبُّ في أحد جانبي فم المريض ويُسقاه أو يدخل هناك بأصبع وغيرها ويُحَنَّك به. انظر: النووي: المنهاج 14/199.
[9] قال المباركفوري: المَشِيُّ: فعيل من المَشْي، وفي بعض نسخ المشكاة بضمٍّ فبكسرٍ -أي الـمُشِيّ، وقال: وهو ما يُؤكل أو يُشرب لإطلاق البطن. قال التوربشتي: وإنما سُمِّيَ الدواء المسهل مَشِيًّا لأنه يحمل شاربَهُ على المشي والتردُّد إلى الخلاء. انظر: المباركفوري: تحفة الأحوذي 6/170.
[10] الترمذي: كتاب الطب، الحجامة (2053)، وقال: حديث حسن. وصحح الألباني بعضه، انظر: صحيح سنن الترمذي 2/401، 402. ورُوِيت أجزاء من الحديث في مصادر أخرى مثل: ابن ماجه (3477)، وأحمد (3316)، والحاكم (7473)، والطبراني: المعجم الكبير 11/325 (11914)، والمعجم الأوسط 2/313، والبيهقي: السنن الكبرى (20019)، وأبو داود الطيالسي (2788)، وابن أبي شيبة: المصنف (23674).
د.راغب السرجاني