حتى تتعادل الصورة في رحلة الإسراء والمعراج كان لا بُدَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرى بعض المشاهد من النار؛ لتكتمل بذلك له رؤية العالم الغيبي ودار الجزاء بشقَّيْهَا: الجنة والنار؛ ولكن من المؤكَّد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدخل النار ليتعرَّف عليها كما فعل في الجنة، إنما هي فقط الرؤية والنظر من بعيد، أو لعلَّها مشاهد تجسيمية رآها رسول الله صلى لله عليه وسلم وهو في مكان آخر بعيد تمامًا عن حرِّ النار وسمومها.
مشاهد من النار!
وسياق بعض الأحاديث يُوحي أن رؤية هذه المشاهد المؤلمة من مشاهد النار كان بعد دخول الجنة؛ حيث جاء ذلك في الرواية نفسها التي ذكرت أمر بلال بن رباح رضي الله عنه، ثم ذكرت لقاءه صلى الله عليه وسلم مع الأنبياء الثلاثة عليهم السلام، فإنها ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -بعد لقاء موسى وعيسى وإبراهيم عليهم السلام- نظر في النار!
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "فَنَظَرَ فِي النَّارِ فَإِذَا قَوْمٌ يَأْكُلُونَ الْجِيَفَ، قَالَ: مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ. وَرَأَى رَجُلاً أَحْمَرَ أَزْرَقَ جَعْدًا شَعِثًا إِذَا رَأَيْتَهُ، قَالَ: مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا عَاقِرُ النَّاقَةِ" [1].
وفي مشهد آخر رأى عذابًا آخر للعصاة أنفسهم، وهم الذين يقعون في أعراض الناس؛ روى أبو داود -وصحَّحه الألباني- عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ [2] وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ" [3].
كان هذا هو أحد مشاهد النار الشنيعة التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هو المشهد الوحيد؛ فقد رأى مشهدًا آخر له وجه علاقةٍ به.
فقد روى ابن حبان -وصحَّحه الألباني- عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالاً تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِضَ مِنْ نَارٍ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ؟ فَقَالَ: الْخُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ، يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ، وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ" [4].
ووجه العلاقة بين الموقفين أن كليهما من آفات اللسان؛ فالموقف الأول يصف عذاب قومٍ يقعون في الغيبة، والموقف الثاني يصف عذاب خطباء السوء، والإشارة التي وصلت إلينا واضحة؛ وهي أن اللسان هو أكثر ما يُدْخِل العبدَ النارَ، وهو ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لمعاذ بن جبل رضي الله عنه في حوارهما الإيماني الجميل.
روى الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عَنِ النَّارِ. قَالَ: "لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللهَ وَلاَ تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ البَيْتَ". ثُمَّ قَالَ: "أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلاَةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ". قَالَ: ثُمَّ تَلاَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}، حَتَّى بَلَغَ {يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16 - 17]، ثُمَّ قَالَ: "أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ، وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟" قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: "رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ". ثُمَّ قَالَ: "أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمَلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟" قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللهِ. فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ: "كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا". فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ- إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ" [5].
فبعد كل هذه الأعمال الصالحة من صلاة وصيام وصدقة وجهاد.. وغيرها يمكن للسان أن يذهب بكل هذا الخير، ويُورد صاحبه النار!
لهذا كانت هذه المشاهد المفجعة التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلته إلى السماء! ومع هذا فمشاهد النار لم تكن كثيرة، فأحد أهداف الرحلة هو إسعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسليته؛ ومن ثَمَّ كان الانتقال بسرعة لمشهد آخر سعيد!
________________
[1] أحمد (2324)، وقال ابن كثير: إسناد صحيح ولم يخرجوه. انظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 5/27، 28، وقال الهيثمي: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير قابوس وقد وثق، وفيه ضعف. انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 9/300.
[2] يخمشون؛ أي: يخدشون، وخمش وجهه: جرح بشرته. انظر: ابن منظور: لسان العرب، 6/299، المعجم الوسيط 1/256.
[3] أبو داود: كتاب الأدب، باب في الغيبة (4878)، وأحمد (13364)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (532).
[4] أحمد (12232)، وقال شعيب الأرناءوط: حديث صحيح. وابن حبان (53)، واللفظ له، وقال شعيب الأرناءوط: الحديث صحيح. وأبو يعلى (3992). والطبراني: المعجم الأوسط (8223)، والبزار: البحر الزخار 13/456، وذكر الهيثمي روايات الحديث المتعددة ثم قال: رواها كلها أبو يعلى، والبزار ببعضها، والطبراني في الأوسط، وأحد أسانيد أبي يعلى رجاله رجال الصحيح. انظر: مجمع الزوائد 7/276، وصححه الألباني، انظر: التعليقات الحسان 1/183.
[5] الترمذي: كتاب الإيمان، حرمة الصلاة (2616) وقال: هذا حديث حسن صحيح. والنسائي (11394)، وابن ماجه (3973)، وأحمد (22069)، وقال شعيب الأرناءوط: صحيح بطرقه وشواهده. والحاكم (3548) وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، انظر: صحيح سنن الترمذي 3/42، 43.
د.راغب السرجاني