كانت هذه متابعة مباركة لأخبار ثلاثة من المؤمنين والمؤمنات، ثم كان بعدها -على الأغلب- لقاء مع ثلاثة كرام من الأنبياء، وهم موسى وعيسى وإبراهيم عليهم السلام!
وهذا الذي نفهمه من إحدى الروايات التي ذكرت أمر زيارته صلى الله عليه وسلم للجنة؛ وذلك بعد ذِكْر قصة بلال رضي الله عنه؛ روى أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِنَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، دَخَلَ الجَنَّةَ، فَسَمِعَ مِنْ جَانِبِهَا وَجْسًا، قَالَ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا بِلالٌ الْمُؤَذِّنُ. فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ جَاءَ إِلَى النَّاسِ: "قَدْ أَفْلَحَ بِلاَلٌ، رَأَيْتُ لَهُ كَذَا وَكَذَا". قال: "فَلَقِيَهُ مُوسَى عليه السلام فَرَحَّبَ بِهِ، وَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الأُمِّيِّ. فَقَالَ: وَهُوَ رَجُلٌ آدَمُ طَوِيلٌ، سَبْطٌ شَعَرُهُ مَعَ أُذُنَيْهِ، أَوْ فَوْقَهُمَا فَقَالَ: مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا مُوسَى عليه السلام. قَالَ: فَمَضَى فَلَقِيَهُ عِيسَى، فَرَحَّبَ بِهِ، وَقَالَ: مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا عِيسَى. قَالَ: فَمَضَى فَلَقِيَهُ شَيْخٌ جَلِيلٌ مَهِيبٌ فَرَحَّبَ بِهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَكُلُّهُمْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ. قَالَ: مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا أَبُوكَ إِبْرَاهِيمُ" [1].
نلحظ في هذه الرواية أن رؤية الأنبياء الثلاثة كانت بعد سماع صوت أقدام بلال بن رباح رضي الله عنه في الجنة؛ فهي مقابلة لهم غير التي سبقت في السموات الثانية والسادسة والسابعة، كما أن ترتيب رؤيتهم في هذه الرواية مختلف عن ترتيب رؤيتهم في السموات؛ فقد رأى هناك عيسى أولاً، ثم موسى، فإبراهيم عليهم السلام، ويتعارض مع افتراض الرؤية لهم في الجنة أنه سأل عن أسمائهم مع أنه رآهم في السموات، ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان مأخوذًا بما يراه؛ ومن ثَمَّ لا يتيقَّن من حقيقة كل واحد منهم، فيضطر إلى سؤال جبريل عليه السلام، خاصة أنه رأى العديد من الأشخاص والمشاهد العجيبة، ولا شكَّ أن كل موقف من هذه المواقف الباهرة يظلُّ عالقًا بذهنه فترة بعد انقضائه؛ مما لا يتيح له فرصة الاسترسال الكامل مع كل حدث.
ثم عقد نبيُّنا صلى الله عليه وسلم اجتماعًا مع الأنبياء الثلاثة عليهم السلام، وهذا الاجتماع إما أن يكون محلُّه هنا في الجنة، أو يكون في بيت المقدس بعد ذلك، وسياق الحديث الذي ذكر اجتماعهم يُوحي أن اللقاء كان في الجنة؛ حيث إنه اجتمع بالأنبياء الثلاثة أنفسهم الذين رآهم في الجنة!
روى أحمد والحاكم -بإسناد صحيح- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: "لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لَقِيَ إِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ، فَتَذَاكَرُوا السَّاعَةَ مَتَى هِيَ، فَبَدَءُوا بِإِبْرَاهِيمَ فَسَأَلُوهُ عَنْهَا، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْهَا عَلْمٌ، فَسَأَلُوا مُوسَى فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْهَا عَلْمٌ، فَرَدُّوا الْحَدِيثَ إِلَى عِيسَى، فَقَالَ: عَهْدُ اللهِ إِلَيَّ فِيهَا دُونَ وَجْبَتِهَا، فَلاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللهُ عز وجل، فَذَكَرَ خُرُوجَ الدَّجَّالِ، وَقَالَ: فَأَهْبِطُ فَأَقْتُلُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ النَّاسُ إِلَى بِلاَدِهِمْ، فَيَسْتَقْبِلُهُمْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، لاَ يَمُرُّونَ بِمَاءٍ إِلاَّ شَرِبُوهُ، وَلاَ بِشَيْءٍ إِلاَّ أَفْسَدُوهُ، فَيَجْأَرُونَ إِلَيَّ فَأَدْعُو اللهَ فَيُمِيتُهُمْ، فَتَخْوَى الأَرْضُ مِنْ رِيحِهِمْ [2]، فَيَجْأَرُونَ إِلَيَّ، فَأَدْعُو اللهَ فَيُرْسِلُ السَّمَاءَ بِالْمَاءِ فَيَحْمِلُهُمْ، فَيَقْذِفُ بِأَجْسَامِهِمْ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ تُنْسَفُ الْجِبَالُ، وَتُمَدُّ الأَرْضُ مَدَّ الأَدِيمِ، فَعَهْدُ اللهِ إِلَيَّ أَنَّهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَنَّ السَّاعَةَ مِنَ النَّاسِ كَالْحَامِلِ الْمُتِمِّ، لاَ يَدْرِي أَهْلُهَا مَتَى تَفْجَؤُهُمْ بِوِلاَدَتِهَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا".
قَالَ الْعَوَّامُ -وهو أحد رواة الحديث-: فَوَجَدْتُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ عز وجل. ثُمَّ قَرَأَ: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء: 96، 97] [3].
فهذا لقاء قمَّة رباعي مهيب! يتدارس فيه أربعة من أولي العزم من الرسل أمرًا هو الأهم عندهم؛ وهو أمر الساعة، ولم يسأل أي واحد منهم الآخر عن تفاصيل مُشَوِّقة كثيرة في قصصهم؛ إنما كان الاهتمام الأكبر بذلك اليوم الذي يعود فيه الناس إلى ربِّ العالمين، وكما شَغَل هذا اليوم أذهان هؤلاء العظماء فإنه ينبغي أن يكون ذلك هو الشغل الشاغل لكل المؤمنين، ولا يفوتنا أن نلفت الأنظار إلى تواضع الأنبياء وأدبهم؛ حيث لم يتطوَّع أحدهم بالكلام أو الإفتاء ما دام أنهم لا يعلمون، وكان المتحدِّث هو عيسى عليه السلام بما اختصَّه الله تعالى بأمر النزول إلى الدنيا قبيل الساعة كما هو معلوم.
كانت هذه هي رحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، وهي رحلة لم يسبقها -ولن يلحق بها- مثلُها، وكانت بكل مواقفها المجيدة مشهدًا من مشاهد زيارته للسماء السابعة وما حولها؛ ولكن يبدو أنها لم تكن المشهد الأخير في رحلة السماء
_______________
[1] أحمد (2324)، وقال ابن كثير: إسناد صحيح ولم يخرجوه. انظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 5/27، 28، وقال الهيثمي: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير قابوس وقد وثق، وفيه ضعف. انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 9/300.
[2] خَوَتِ الدارُ؛ أي: بادَ أَهْلُها وهي قائمة بلا عامِرٍ، وقيل: خَوَى البيتُ إذا ما خَلا من أهله. ابن منظور: لسان العرب، 14/245، وفي رواية ابن ماجه: «فَتَنْتُنُ الْأَرْضُ مِنْ رِيحِهِمْ». وفي رواية أحمد: «حَتَّى تَجْوَى الْأَرْضُ مِنْ نَتْنِ رِيحِهِمْ». وفي رواية أبي يعلى: "فَتَجْوَى الْأَرْضُ مِنْ رِيحِهِمْ". وتجوى الأرض؛ أي تُنْتِن. وفي رواية للحاكم (3448): "فَتَجْأَرُ الْأَرْضُ إِلَى اللَّهِ مِنْ رِيحِهِمْ وَيَجْأَرُونَ إِلَيَّ".
[3] ابن ماجه (4081)، وأحمد (3556)، والحاكم (8502)، واللفظ له، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. وأبو يعلى (5294)، وقال حسين سليم أسد: إسناده حسن. وقال البوصيري: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه 4/202.
د.راغب السرجاني