والحديث عن أحداث السماء السادسة يحتاج إلى قليلٍ من التفصيل؛ لأن هناك اختلافًا بين الرواة في تحديد النبي الذي كان في استقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، الذي قد جاء في بعض الروايات أنه موسى عليه السلام؛ بينما جاء في روايات أخرى أنه إبراهيم عليه الصلاة والسلام!

في رواية البخاري عن مالك بن صعصعة رضي الله عنه ذكر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام هو الذي استقبله في السماء السادسة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: مَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ. فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا مُوسَى، قَالَ: هَذَا مُوسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ بَكَى، قِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لأَنَّ غُلاَمًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي".



وفي رواية الرؤيا عند مسلم عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما أكَّد على وجود موسى عليه السلام في السماء السادسة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَأَتَيْتُ عَلَى مُوسَى عليه السلام، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. فَلَمَّا جَاوَزْتُهُ بَكَى، فَنُودِيَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: رَبِّ، هَذَا غُلاَمٌ بَعَثْتَهُ بَعْدِي يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِهِ الجَنَّةَ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي" [1].



ومع ذلك ففي رواية أنس بن مالك عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنهما قال أنس بعد أن ذكر الأنبياء بشكل إجمالي دون ترتيب: "وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ" [2].



وفي رواية الرؤيا الثانية عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ".. كُلُّ سَمَاءٍ فِيهَا أَنْبِيَاءُ قَدْ سَمَّاهُمْ، فَأَوْعَيْتُ مِنْهُمْ إِدْرِيسَ فِي الثَّانِيَةِ، وَهَارُونَ فِي الرَّابِعَةِ، وَآخَرَ فِي الخَامِسَةِ لَمْ أَحْفَظِ اسْمَهُ، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ، وَمُوسَى فِي السَّابِعَةِ بِتَفْضِيلِ كَلاَمِ اللهِ، فَقَالَ مُوسَى: رَبِّ لَمْ أَظُنَّ أَنْ يُرْفَعَ عَلَيَّ أَحَدٌ" [3].



في هذه الرواية الأخيرة اختلافات تُوحي بوجود خطأ في الحفظ عن أنس رضي الله عنه؛ حيث إنه ذكر إدريس عليه السلام في الثانية، وذكر هارون عليه السلام في الرابعة، وهذا خلاف المشهور كما هو معلوم، وبالتالي قد يفترض البعض أن حفظ اسم إبراهيم عليه الصلاة والسلام في السادسة، وموسى عليه السلام في السابعة هو خطأ كذلك، لولا أن أنس رضي الله عنه قد علَّل وجود موسى عليه السلام في السابعة بتفضيل كلام الله له؛ مما يُعطي الانطباع أنه مطمئن للمعلومة، ويُدرك أبعادها وخلفياتها.



نتيجة هذا الاختلاف بين الرواة، وأحيانًا بين كلام الصحابي نفسه في روايتين، اتَّجه كثير من العلماء إلى افتراض الخطأ في إحدى الروايتين، واتَّفق الجمهور على أن موسى عليه السلام هو الذي في السادسة، وأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو الذي في السابعة، ومع ذلك فأنا أميل إلى وجود موسى عليه السلام في السماء السابعة! وذلك لأكثر من سبب، وسنأتي بإذن الله للحديث عن ذلك عند ذكر السماء السابعة.



إذن كيف الجمع بين الروايات في هذه الحالة؛ خاصةً وأن الروايات التي ذكرت إبراهيم عليه الصلاة والسلام في السماء السابعة ذكرت له موقفًا له علاقة بالبيت المعمور، وهو موجود يقينًا في السماء السابعة؟



الذي أعتقده في هذا الموقف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قابل موسى عليه السلام في السادسة، ودار بينهما حوار هناك، ثم صعد معه إلى السماء السابعة لتحدث مواقف أخرى مهمَّة لا بُدَّ من وجود موسى عليه السلام فيها كما سيأتي، أمَّا إبراهيم عليه الصلاة والسلام فمكانه الرئيس هو السماء السابعة، ولا يمتنع أن يكون قد نزل إلى السماء السادسة لمقابلة رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك، ثم الصعود معه إلى السماء السابعة، أو أن الراوي قد وضعه في السادسة على سبيل الخطأ.



ويبقى أن الذي يمكن أن نجزم به في الأمر هو حدوث مواقف في السماء السابعة مع النبيين الكريمين موسى وإبراهيم عليهما السلام.



ماذا حدث مع موسى عليه السلام في السماء السادسة؟

لقد حدث الترحيب المعتاد الذي تكرَّر من كل الأنبياء، غير أن موسى عليه السلام بكى بعد مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم!



لماذا بكى؟!

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ بَكَى، قِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لأَنَّ غُلاَمًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي".



ويقينًا فإن هذا القول والبكاء من موسى عليه السلام بعد مرور الرسول صلى الله عليه وسلم عليه لا يجب أن يُؤخذ على أنه حسد منه عليه السلام على رسولنا صلى الله عليه وسلم، فموسى عليه السلام نبي كريم من أولي العزم من الرسل، وهو المعصوم، وسنرى -إن شاء الله- في موقفه التالي مع الرسول صلى الله عليه وسلم خوفه وحرصه عليه وعلى أُمَّة الإسلام؛ ولكن كان بكاؤه ذلك لشدَّة حرصه عليه السلام على بني إسرائيل، وحزنه لما فعلوه معه وتكذيبهم لآيات الله تعالى على الرغم من طول المدَّة التي عاشها معهم، وبذل فيها أقصى ما يستطيع هو وأخوه هارون عليهما السلام.



وأما كلمة: "غُلاَمًا". فلا شكَّ أنه لم يرد بها التقليل من شأن النبي صلى الله عليه وسلم، وحاشا لله أن يُريد ذلك، وإنما أراد صغر سنه بالنسبة إليه، وبالنسبة إلى مَنْ كان أكبر منه سنًّا من الأنبياء؛ لأننا إذا قسنا عمر النبي صلى الله عليه وسلم بأعمار نوح، وإبراهيم، وموسى عليهم السلام وجدناه صلى الله عليه وسلم أصغر عمرًا منهم بكثير، ومع هذا فقد أعطاه الله على صغر سنه، وقصر مدَّة بعثته، ما لم يُعْطِ أحدًا ممن هو أسنُّ منه، وأطول زمنًا في البعثة، وتبعه على دينه الحقِّ من غير تحريف ولا تبديل ما لم يتبع أحدًا من الأنبياء. وإضافة إلى ذلك نقل قال الْخَطَّابِيِّ في تفسيره لهذه الكلمة: "الْعَرَبُ تُسَمِّي الرَّجُلَ الْمُسْتَجْمِعَ السِّنَّ غُلاَمًا مَا دَامَتْ فِيهِ بَقِيَّةٌ مِنَ الْقُوَّةِ" [4]. وقال ابن حجر: "وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ مُوسَى عليه السلام أَشَارَ إِلَى مَا أَنْعَمَ اللهُ بِهِ عَلَى نَبِيِّنَا عَلَيْهِمَا الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ مِنِ اسْتِمْرَارِ الْقُوَّةِ فِي الْكُهُولِيَّةِ، وَإِلَى أَنْ دَخَلَ فِي سِنِّ الشَّيْخُوخَةِ وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى بَدَنِهِ هَرَمٌ، وَلاَ اعْتَرَى قُوَّتَهُ نَقْصٌ؛ حَتَّى إِنَّ النَّاسَ فِي قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ لَمَّا رَأَوْهُ مُرْدِفًا أَبَا بَكْرٍ أَطْلَقُوا عَلَيْهِ اسْمَ الشَّابِّ وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ اسْمَ الشَّيْخِ، مَعَ كَوْنِهِ فِي الْعُمْرِ أَسَنَّ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَاللهُ أَعْلَمُ" [5].



وهذا قول وجيه من الخطَّابي رحمه الله، وعلى كلٍّ فالمؤكَّد أن موسى عليه السلام لا يُضمر في نفسه إلا كلَّ تقدير وتعظيم لرسولنا صلى الله عليه وسلم، وليس من المحتمل -ولا يجوز في حقِّه- أن ينتقص الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مِنْ أعلم الناس بقدر الأنبياء.



وصف وشكل موسى عليه السلام

ولقد وصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم شكل موسى عليه السلام، وهو وصف مهمٌّ؛ لأنه يُساعد في تكوين صورة ذهنية تُفيد في متابعة القصص الكثير الذي جاء في القرآن الكريم عنه عليه السلام، فقال في رواية: "لَقِيتُ مُوسَى". قَالَ: فَنَعَتَهُ: "فَإِذَا رَجُلٌ -حَسِبْتُهُ قَالَ- مُضْطَرِبٌ، رَجِلُ الرَّأْسِ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ" [6]. مضطرب هو مفتعل من الضرب؛ والضَّرْبُ من الرِّجال الخفيف اللحم الممشُوق [7]، و"رَجِلِ الرَّأْسِ"؛ أي: شعره ليس شديد الجُعُودَة، ولا شديد النعومة؛ بل بينهما، وشنوءة قبيلة عربية معروفة، لهم هذا الشكل الذي وصفه صلى الله عليه وسلم، وقال في رواية أخرى: "رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مُوسَى رَجُلاً آدَمَ طُوَالاً جَعْدًا كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ" [8]. والرجل الآدم: هو شديد السمرة، والطوال؛ أي: الطويل، والجعد إما صفة لشعره عليه السلام، ومعناها أنه شعر فيه التواء، وإما صفة للجسم، وتعني اكتنازه؛ أي: أنه قليل اللحم، ولا شكَّ أن هذه الصفات هي صفات قوَّة وبأس، ويكفي أن الله تعالى قد وصفه بالقوَّة، فقال -كما جاء على لسان ابنة الشيخ الكبير-: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26].



ولم تنقل الروايات التي ذكرت إبراهيم عليه الصلاة والسلام في السماء السادسة حوارًا دار بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل بدا لنا في بعض الروايات أن الرسول صلى الله عليه وسلم تعرَّف عليه في السابعة؛ مما يدعم احتمال حدوث خطأ أو نسيان في مسألة وجود إبراهيم عليه الصلاة والسلام في السادسة؛ لأنه ليس من المعقول أنه قابله فيها دون أن يتحاور معه، أو على الأقل يتعرَّف عليه.

________________

[1] مسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات، (164).

[2] البخاري: كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء، (342)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات، (163).

[3] البخاري: كتاب التوحيد، باب قوله: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، (7079).

[4] الخطابي: أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري 3/1480.

[5] ابن حجر: فتح الباري 7/212.

[6] البخاري: كتاب الأنبياء، باب {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} [مريم: 16]، (3254)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات، (168).

[7] انظر: ابن منظور: لسان العرب، 1/547.

[8] البخاري: كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين. والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى، (3067).

د. راغب السرجاني