ابداع من الجلفة
المقامة المطعمية ( الريسطو )
* تأليف : بوزيدي عباس، السنة الثالثة، دراسات أدبية، جامعة الجلفة *
حدثنا عيسى بن هشام قال:
خرجت ناعس الطرف، من امتحان الصرف، وفي بطني عصافير تزقزق، وجماهير تصفق. فلا أدري أمن فرط الجوع ! أم من جمع الجموع !
وكان معي خمسون دينارا... ثمن علبة عصير، مع كعكٍ صغير، فأدرت يدي في جيبي أستدرجها واستخرجها، فوجدته صفرا، وفلاة قفـرا، فأدركت أنها ضاعت أو ظعنت ، وفي مضارب تميم أو عبسٍ سكنت. فأنشدتُ لامرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلي... بسقط اللوى بين الدخول فحوملي.
وقوفا بها صحبي علي مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجملي.
فصبرت وتجملت، وكتمت وتحملت. وأزمعت الصرم، وعقدت العزم أن أسافر من كلية الآداب إلى المطعم المركزي. فشددت رحلي وتركت أهلي، وكتبت وصيتي وتركت تحيتي ثم انطلقت...
وبعد أن صرت أشعث اغبر، ظهرالصرح الاكبر، ذو السقف الأخضر . وسمعت الجلبة، يحدثها الطلبة. إذ كانوا مصطفين كالأسراب، من آخر الطريق إلى أول الباب. يصرخ أكثرهم بغضب، من جوع وتعب : ( أيها العمال، قد حان الزوال، فافتحوا الأقفال ...)
قال عيسى بن هشام : ثم اخذت من الصف مكاني، وأظهرت أسناني، حتى يقال شرير، أو صاحب تدبير، أو سالما الزير... كل ذلك لئلا يتجرأ أحدهم ويحرجني بطلب، أو يخدعني بكذب... وكان منهم من يخرج الجوال ويلعب، أو يطول به الزمان فيذهب. وكنت أفرح لذلك رغم أني أتعاطف مع آلام بطنه، وشحوب وجهه، وقلة حيلته....
وبينما نحن نتهادى إذ فُتحت الأبواب، ودخلتُ ضمن الطلاب، فغمرنا ريح عَدَسْ، يثير الهوَس، وينعش النَّفَس. وكانت المسافة بين الباب ونافذة المطبخ نصف دائرة، قطعتها في نصف ساعة، مرت كنصف سنة...
ولما اقترب الطعام، واضطرب الكلام، نطق شخص من خلفي قائلا: سلَطَةٌ ويا ليْت، لو أن فيها زيت. وحساءٌ بالشحم، ظنناه باللحم. وخبز من أمس، قد شارف اليُبس. وحبيبة برتقال، فيها ما يقال، تراها بالمجهر، وقشرها لا يقشر. ورقاقة ( كاشير )، بسماكة قطمير ...
قال عيسى بن هشام: فضاق الصدر، ونفذ الصبر. وتركتُ الصف وأقسمت ألا آكل طعاما كهذا، ثم دققت النظر، وقلبت البصر، لأعرف سر حاله، بعد أن أدهشني بمقاله. فإذا هو أبو الفتح الإسكندري قد جرّني إلى القَسم، كي يكسب أماني، ويشغل مكاني . فلم يكن الطعام بذاك السوء ... فقلت :
أبا الفتح حقا غنمتَ المكان...فقل لي بربك سر البيان ؟
فرد قائلا:
إذا شئتَ أن تستفيد اللآلي ... وتنطق بالتبر في كل آن .
فلازم كتاب الإله الخبير ... وقولَ الحبيب رسول الأمان.
وجالس كتاباتِ خير العصور ...وطالع نصوصَ بديعِ الزمان .