بعد أن استعرضنا أساليب تعذيب المشركين للمسلمين، وسبل مواجهة المسلمين لذلك، وكذلك سمات تلك الفترة، تتبقى نقطة مهمَّة تحتاج إلى وقفة؛ وهي لماذا الاهتمام ببحث مدى طول فترة التعذيب الجسدي، ولماذا الاهتمام بإثبات أنها كانت محدودة في الزمان والأفراد؟

الواقع أن هذا لإثبات حقيقة لو أدركها المسلمون لاطمأنُّوا كثيرًا، ولساعدهم ذلك على إكمال الطريق بثبات وعزيمة..

وهذه الحقيقة هي أن التصعيد الكافر للصدام حتى يصل إلى هذا المستوى الشرس من التعذيب والقتل لا يكون في المعتاد إلَّا لفترة محدودة، وعلى عدد محدود من الناس؛ لهذا فإن الأزمة على المسلمين لا تكون عادةً طويلة بصورة تُوقِف مدَّ الدعوة تمامًا..

إن الله عز وجل لطيف بعباده المؤمنين، وهو أرحم من الأمِّ بولدها، ولا يبتلي المسلمين إلا ليرفع من درجاتهم، ويُطَهِّرهم من ذنوبهم، ويختبر إيمانهم وصدقهم، فإذا تحقَّق ذلك رفع الله عنهم البلاء، وخفَّف عليهم المصيبة، وألقى في قلوبهم سعادة واطمئنانًا يُثَبِّت عزيمتهم؛ بل يَسَّر ظروفًا حولهم تُشعرهم بأنه سبحانه وتعالى معهم، يُمَهِّد لهم الطريق، ويدفع عنهم الأعداء، ويهديهم إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة..

إذن لا نحتاج إلَّا إلى صبر ساعة! فالبلاء سيُرفع قريبًا، وسيظهر الفجر بعد ظلمات الليل..

وهذا الذي أقوله نشاهده في كل مراحل بناء الأُمَّة الإسلامية، وشاهدناه في واقعنا المعاصر، فإن هناك فتراتٍ معينةً نعرفها ارتفعت فيها وتيرة الصدام جدًّا، حتى شملت صور التعذيب والقتل؛ لكنها لا تلبث أن تنتهي؛ لأن أهل الباطل ليست لهم طاقة برفع مستوى الإيذاء لمدد طويلة، وليس عندهم طول النفس الذي يسمح لهم بالحفاظ على مستوى التوتر عاليًا في البلاد، وكما أن على المسلمين ضغوطًا من حكومة مكة؛ فإن على المشركين ضغوطًا كثيرة من المجتمع والعالم والأعراف والظروف الاقتصادية، وفي حالتنا هذه في مكة فإننا نعرف أن زعماء مكة عليهم أمثال هذه الضغوط النفسية والمادية، التي لا تجعلهم متحمِّسين لإكمال مسيرة التعذيب إلى النهاية.. إن الحرب الأهلية في داخل البلد متوقَّعة، وقد يتحزَّب لكل مسلم واحد من الكبراء، كما فعل أبو طالب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما سيفعل لاحقًا ابن الدَّغِنَة مع الصديق رضي الله عنه، وكما سيفعل الوليد بن المغيرة مع عثمان بن مظعون رضي الله عنه، وهذا كلُّه قد يقود إلى حرب أهلية تُقَوِّض أركان مكة، كما أنهم لا يُريدون للبلد الآمن أن يأخذ شكل البلد المضطرب غير المستقرِّ؛ فهذا قد يُؤَثِّر على التجارة، وهي عصب الحياة لأهل مكة وزعمائها، بالإضافة إلى اضطرار زعماء الكفر إلى أن يُخالفوا دينهم وأعرافهم وتقاليدهم وأخلاقهم في حربهم مع المسلمين؛ لأنهم يُخالفون بوضوح قانون مكة الذي وضعوه معًا على مدار العقود المتتابعة، أو توارثوه عن الآباء والأجداد، الذي يقضي بالأمن والأمان لمن دخل البلد الحرام، ويقضي بحُرْمة الأشهر الحُرُم، ويقضي -كذلك- بمنع الظلم، ويقضي -أيضًا- باحترام القبائل والعشائر المختلفة، هذا غير القواعد الأخلاقية الكثيرة التي تعارفوا عليها منذ زمن؛ مثل: الوفاء والصدق والكرم والنخوة، وغير ذلك من أخلاق أُهْدِرت في هذه المرحلة الأخيرة من عمر مكة.

إنَّ مخالفة كل هذه القوانين كانت تُسَبِّب لهم حرجًا كبيرًا أمام أنفسهم، وأمام العرب جميعًا، ولأجل كلِّ هذا كان زعماء الكفر يرغبون في أن تهدأ وتيرة العنف في البلد قدر المستطاع.. نعم هم في أشدِّ حالات الحنق والغضب، ويُريدون أن يفتكوا بالمسلمين جميعًا؛ لكن الضغوط التي عليهم تدفعهم إلى تغيير وسيلة الحرب إلى الأهدأ كلما سمحت الظروف بذلك؛ ومع ذلك فإن هناك بعضَ المواقف التي يضطر فيها الظالمون إلى التصعيد المجنون؛ ويكون ذلك لفترة محدودة؛ ثم تهدأ الأمور نسبيًّا، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده المؤمنين؛ حتى لا تمرَّ عليهم السنوات الطويلة في الإيذاء الكبير، وبالتالي لا يُفتنون في دينهم؛ بل يثبتون ويصمدون؛ لأنهم عرفوا من سنن الله عز وجل أن هذا الألم الشديد سيكون إلى أجل محدود.

إنها رسالة أوجهها إلى المؤمنين الذين يعيشون ظروفًا صعبة وقاسية، ويتعرَّضون لأشدِّ ألوان التعذيب، أقول لهم فيها: اصبروا واحتسبوا، فلن يطول هذا الألم كثيرًا.. نعم لن يُرْفَع الألم بالكلية؛ لأن الحياة الدنيا بشكل عامٍّ دار ابتلاء؛ ولكن وتيرته ستنخفض إلى الدرجة التي يُمكنكم أن تتعايشوا معها، وهذه الفترة المحدودة التي تتعرَّضُون فيها للأذى الشديد لن تنال إلَّا عددًا محدودًا منكم، أمَّا الأغلب فسيحفظهم ربُّهم من التعرُّض لهذا التنكيل، فتُكْمِل الدعوة طريقها دون تعطُّل، وهذا ينبغي أن يرفع من همَّتكم، ويشدَّ من أزركم، فلا يملأ الرعب قلوبكم من تعرُّضكم لتعذيب الظالمين أو تنكيلهم.

وإذا قال أحدهم: إنني أخاف أن أكون أنا من العدد المحدود الذي يتعرَّض للتعذيب الشديد. فأقول له عدَّة أمور:

أولًا: قدر الله نافذ، وأسماء الذي سيتعرَّضون للتعذيب في هذه المرحلة معروفة عنده سبحانه وتعالى قبل أن يخلق الخلق، فلا فكاك، ولا مهرب من القدر المقدور؛ قال تعالى: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ [الأحزاب: 38]

ثانيًا: ليس من الأخذ بالأسباب البُعد عن طريق المؤمنين، مع إدراكنا أنه قد يتعرَّض بعضهم للأذى الشديد، فإن بناء الأُمَّة أمر واجب، والجماعة المؤمنة الصالحة هي نواة هذا البناء، وبغيرها لا تقوم الأُمَّة، وما لا يتمُّ الواجب إلَّا به فهو واجب، فلا يرهبنَّكم احتمال وقوع الأذى عن القيام بواجب أنتم منوطون به.

ثالثًا: هذه المجموعة التي تتعرَّض للتعذيب الشديد هي المجموعة المنتقاة، وهم الصفوة حقًّا، وقد اختارهم الله عز وجل ليدفع بهم الأذى عن بقية إخوانهم، ومن داخل هذه المجموعة المنتقاة سينتقي الله مجموعة أقل، ليُقْتَلوا في سبيله، ويصيروا شهداء الأُمَّة، وهذا اختيار رفيع من إله كريم؛ قال تعالى: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ [آل عمران: 140]، فلا تحزن إن اختارك الله لسجن أو تشريد أو تعذيب، أو قتل، فإنك -ولله الحمد- من المصطَفَيْنَ.

رابعًا: لا يُرسل الله عز وجل هذا البلاء إلَّا ويُرسل معه القوَّة لتحمُّله، والمُعَذَّب في الله يصبر على ما لا يصبر عليه الناس عادة، وإذا راجعنا ما حدث مع خباب رضي الله عنه، ومن كونه تعرَّض للإلقاء فوق الفحم الملتهب، ثم عرفنا أن الله عز وجل مكَّنه من التحمُّل، ثم الشفاء، ثم البقاء حتى رأيناه يُحاور أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في زمان خلافته؛ بينما مات كلُّ المعذِّبين له، إذا رأينا كل ذلك أدركنا أن هناك قوَّة خفية يُثَبِّت الله عز وجل بها الذين آمنوا؛ قال تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ﴾ [إبراهيم: 27]، فلا تَخَفْ من آلام التعذيب؛ فإنها بالنسبة إليك ستكون أقلَّ من طبيعتها المعتادة؛ بل إن آلام القتل نفسها تكون أقلَّ من المعتاد بكثير، ما دامت في سبيل الله، وهناك تصريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك حيث قال صلى الله عليه وسلم: «مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ القَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ القَرْصَةِ»[1]. فلا تجزع، فإن الفرج قريب.

خامسًا: اعْلَم أيها المبتلى بهذه الشدَّة أن أجرك لا ينحصر في عملك الذي قمتَ به، وصبرك في موقف التعذيب الذي تعرَّضْتَ له؛ بل إن أجرك يتعدَّى ذلك حتى يشمل أجور المؤمنين الكُثُر الذين رُفِع عنهم الألم بتعرُّضك أنت له؛ فقد انشغل الظالمون بكَ عنهم، وخُفِّف بكَ عليهم، وصارت نجاتهم بسببك، ولو أكملوا الدورة، وأقاموا الأُمَّة، لكان قيامها كلُّه في ميزان حسناتك، فلا تشعرنَّ بشيء من الندم على انخراطكَ في دعوة تعرَّضت فيها للأذى؛ بينما غيرك آمن لم يتعرَّض لشيء، فكلٌّ مُيَسَّر لما خُلِقَ له، فأنت في مكانك تعمل، وأخوك في مكانه الآمن يعمل كذلك، والمحصِّلة لعمليكما يكون فيها نجاح الأُمَّة ككلٍّ، وسنرى في قصتنا هذه أن بعض المؤمنين سيُعانون الشدَّة والألم في مكة، بينما نجد إخوانًا لهم آمنين في الحبشة في الوقت نفسه، وقد تمرُّ الأيام، وتتبدَّل الأحوال، فيأتي أهل الحبشة من المؤمنين ليُعانوا في ظرف من ظروف بناء الأُمَّة، كما عانى جعفر بن أبي طالب في مؤتة لاحقًا، وقُطِّعت يداه تباعًا؛ بينما ينعم في ذلك الوقت خباب وبلال رضي الله عنهما بالعافية في المدينة؛ حيث لا ألم ولا تعذيب، وهذا ترتيب ربِّ العالمين لا يقدر عليه أحد من البشر.

سادسًا: ليس معنى أن هناك فريقًا يتلقَّى التعذيب أن اختباره وابتلاءه أصعب من ابتلاء أولئك الذين ينعمون بالعافية؛ فقد يكون اختبار المعافى أشدَّ وأصعب، وقد يصبر بعض الناس على الفقر ولا يصبرون على الغنى، وقد يصبرون على المرض ولا يصبرون على الصحَّة، بمعنى أنهم يُفتنون بأموالهم وعافيتهم فيتركون طريق الدين، ويلتهون بهما عن العمل في سبيل الله، وكانوا في زمان فقرهم وضعفهم من المجاهدين، فلما رُفِع عنهم الضرُّ صاروا من المترفين القاعدين! فأيُّ الفريقين أسعد؟ وأي الحالتين أفضل؟ وفي هذا يقول تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [الشورى: 27]. وهذا ليس كلامًا نظريًّا، فلا يُظنَّنَّ أحد بنفسه القدرة على النجاح في ابتلاءات المال والدنيا والراحة والسعة، فإنها تكون خفيَّة متدرِّجة بعكس ابتلاءات الشدَّة والضرِّ، وقد قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: «ابْتُلِينَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا، ثُمَّ ابْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ بَعْدَهُ فَلَمْ نَصْبِرْ»[2]. وهذا كلامُ رجلٍ من السابقين الراسخين في الإيمان، ومن الذين «مارسوا» ابتلاء الشدَّة وابتلاء الرخاء، فخِبْرَته أكيدة، ونظرتُه واقعية، فلا تحزننَّ على أمر قد اختاره الله لك، فهو العليم الخبير، ولا تتمنَّيَنَّ أمرًا في يد إخوانك، فقد تأتي المصيبة من حيث ترجو الفرج!

وقبل أن نترك هذه النقطة نودُّ الإشارة إلى أن الرموز الكبرى للدعوة ستكون غالبًا من أولئك الذين ينالون القسط الأكبر من الأذى؛ لأن الناس بهم يقتدون، ومن ورائهم يسيرون، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؛ فقد تحمَّل هو العبء الأكبر في هذا الأمر، ثم كان أشدُّ الناس بلاءً بعده أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وهو خليفته الأول، وصاحبه المقرَّب، وأحد رموز الدعوة المعروفة، ولم يكن تعرُّض الاثنين للأذى بأمر مستغرب؛ إنما هو السُّنَّة الماضية والطريقة الثابتة، التي تنشأ بها الأمم، وتُبنى بها الحضارات، فليعلم كلُّ قائد أو زعيم أن القيادة ليست تشريفًا، إنما هي تكليف، وأن الزعامة ليست مكاسب ومنافع، إنما هي تضحيات وتبعات؛ ومَنْ وعى ذلك سأل الله السلامة والثبات؛ فاللهم ارزقنا الفهم وحُسْنَ العمل!

[1] الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه: كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل المرابط (1668)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. والنسائي (4369)، وابن ماجه (2802)، وأحمد (7940)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده قوي. والدارمي (2408)، قال حسين سليم أسد: إسناده حسن. وصححه الألباني، انظر السلسلة الصحيحة (960).

[2] الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع (2464)، وقال: حديث حسن.

د. راغب السرجاني