تعد الانهار فضلا عن اهميتها في الاغراض الزراعية والبيئية والصناعية والخدمية وغيرها من الاستخدامات رابطة للتقارب الانساني والاجتماعي وحلقة وصل طبيعية بين الشعوب والامم التي تعيش على مياهها . ولهذا قامت عند احواضها أعرق الحضارات وشيدت على ضفافها أقدم المدن التأريخية ووجدت المجتمعات الانسانية بقربها الاستقرار والطمانينة .
ولاشك ان لموضوع استغلال الانهار الدولية في شتى جوانب الحياة أهمية كبيرة على الصعيدين الحالي والقادم خاصة بعد ان وضع العلم الحديث تحت تصرف الدول قدرات وإمكانات تقنية عالية في هذا المضمار أسهمت بشكل واضح في تطور أساليب واغراض هذا الاستغلال وانتقالها من الميادين البسيطة كالملاحة والصيد وسقي المزروعات الى الاهتمام بمجالات اخرى أكثر قيمة وفائدة لاسيما في مجال إنشاء السدود والخزانات المائية العملاقة التي تستخدم في توليد الطاقة الكهربائية وتنفيذ مشاريع الارواء الكبرى ومدّ المدن والتجمعات السكانية والمنشآت الصناعية الحديثة بالمياه بل وحتى في تصدير او نقل المياه الى دول اخرى كما هو الحال في مشروع ( انابيب السلام) الذي خططت تركيا لتنفيذه لصالح بعض دول الشرق الاوسط منذ عام 1986 (1). ولاشك ان لهذه العوامل ومارافقها من زيادة مستمرة في عدد سكان العالم ومن تطور في العادات الاجتماعية نحو حياة التحضر والتمدن الاثر البالغ في التنامي المطرد في استغلال الموارد الطبيعية بوجه عام وموارد المياه على وجه الخصوص (2).
وإذا كان استغلال الانهار الجارية ضمن حدود دولة واحدة والتي تسمى بـ (الانهار الوطنية) يعد من الامور الميسورة فان استغلال الانهار التي تجري ضمن أقاليم عدد من الدول أو تشكل حدودا فيما بينها والتي تسمى بـ (الانهار الدولية) يثير صعوبات ومشاكل في الغالب بين الدول المتشاطئة او المتقاسمة لهذه الانهار ويشكل على الدوام بؤرة للخلافات والنزاعات المستمرة فيما بينها لاسيما اذا كان هناك تباين واضح فيما بينها في الرؤى والمسائل الايديولوجية والسياسية والاجتماعية والثقافية وتفاوت في المستوى الاقتصادي لكل منها. ولذلك أشارت العديد من الدراسات الحديثة التي أجرتها بعض المراكز العالمية للبحوث السياسية والعلمية والاستراتيجية كما أكد الخبراء المعنيون بشؤون المياه الى ان القرن الحالي سيشهد صراعات وازمات حادة بين الدول فيما اصبح يعرف بـ (حروب المياه) بسبب النقص المحتمل في موارد المياه العذبة للانهار والتي قد تتجاوز أهميتها الاقتصادية أهمية النفط نفسه. وقد حذرت الامم المتحدة في آذار من عام 2009 من ان التغييرات المناخية الحاصلة في العالم قد تثير الصراعات حول المياه لاسيما في منطقة الشرق الاوسط التي تضم عددا كبيرا من الانهار الدولية المهمة كدجلة والفرات والنيل والاردن والتي تعد من بين أكثر المناطق الساخنة بهذه الصراعات وأشدها حساسية تجاه هذا الموضوع على المدى المنظور بالنظر الى محدودية موارد هذه الانهار ازاء الاحتياجات المتصاعدة والمتنامية من جهة
وازدياد استغلال مياهها على نحو واسع ومضطرد دون الاكتراث بحقوق الدول المتشاطئة الاخرى فيها من جهة ثانية. لذلك يعد وضع الدول العربية في هذا الاطار الاكثر حراجة وخطورة في هذا الموضوع. ذلك ان نحو 67% من المياه الواردة اليها تنبع من أراضي دول مجاورة مما يجعلها أكثر تأثرا من المشاريع والاعمال التي تنفذها تلك الدول على هذا الصعيد (3). وفي مقدمة الدول المتاثرة بهذا النوع من الاستغلال العراق. وهذا مايمكن ان نراه الآن من خلال سياسة تنفيذ المشاريع المائية الكبرى او المتوسطة او الصغرى التي تنتهجها كل من تركيا وسوريا في حوضي نهري دجلة والفرات وايران في احواض الانهار الحدودية المشتركة معها البالغة نحو 42 نهرا حدوديا. اذ انه وبسبب موقعه الجغرافي بوصفه دولة المصب لنهري دجلة والفرات يعد المتاثر الاول والمباشر من أي أعمال او مشاريع مائية تجريها تركيا او سوريا في حوضي هذين النهرين لاسيما نهر الفرات الذي يمثل أهمية بالغة الخطورة للعراق لايمكن التغافل عنها بأي حال من الاحوال (4). فمنذ مدة طويلة والاراضي العراقية تتاثر سلبا بتناقص المياه الواردة اليها عبر هذين النهرين مما جعل هذا الموضوع بحسب تقديرات الخبراء أخطر ازمة مائية في تاريخ العراق. اذ سببت هذه الازمة خسارة كبيرة للاراضي الزراعية تقدر بنسبة (40%) من مساحتها لاسيما في ظل العلاقات المتوترة التي مارسها النظام البائد مع دول الجوار. فبنيت سدود وخزانات مياه عملاقة في تلك الدول أثرت كثيرا على مياه الانهار المنحدرة نحو العراق حتى اصبح مايصل اليه لايكفي لسد احتياجات الزراعة والصناعة والطاقة وتربية المواشي بل ووصل الامر الى مياه الشرب والحاجات الانسانية وبدأ اللسان الملحي القادم من الخليج العربي بعملية المد والجزر يضرب عمود المياه العذبة في وسط شط العرب كما تغلغلت الاوبئة في مياه الشرب حتى لوثتها بسبب تدني مناسيب مياه الانهار وتغير نوعيتها الطبيعية. وفي هذا السياق كشف تقرير لأحدى وكالات الامم المتحدة عشية اليوم العالمي للمياه بان نصف كميات المياه في العراق تضيع هدرا في حين لايتمكن ستة ملايين نسمة من الحصول على مايحتاجونه منها. وأشار صندوق الامم المتحدة للطفولة (اليونسيف) الى تقرير دولي يثير احتمال جفاف نهري دجلة والفرات بحلول عام 2040 بالنظر الى التغييرات المناخية وانخفاض كميات المياه والاستخدام المكثف لأغراض الصناعة والاستخدام المنزلي (5).



وهكذا يتبين لنا بجلاء أهمية وحساسية هذا الموضوع وحجم علاقته بحياة الافراد والشعوب وما يمكن ان يثيره من مشاكل وخلافات دولية قد تصل الى حد النزاعات المسلحة (6). ولذلك يتوجب علينا ونحن نسعى الى توضيح وابراز حقوق العراق المائية الثابتة في نهري دجلة والفرات من خلال دراسة أحكام قواعد القانون الدولي بهذا الشأن ان نبين أولا المقصود بالانهار الدولية وانواعها واساس استغلالها ثم نتناول ثانيا بشيء من الايجاز أحكام القواعد الدولية المتعلقة باستغلال الانهار الدولية لغير الملاحة بوجه عام واحكام القواعد المتعلقة باستغلال نهري دجلة والفرات بوجه خاص ثم نتعرض بعد ذلك الى الموقف العراقي التركي السوري من هذه المسالة وذلك من خلال الفقرات الاربع الاتية :
اولا : تعريف الانهار وانواعها واساس استغلالها :
أ : تعريف الانهار :
النهر لغة يراد به مجرى المياه العذبة أو هو الماء العذب الغزير في حالة الجريان. وهو عبارة عن مجرى مائي طبيعي لتصريف المياه في المناطق التي تجري فيها سواء نتجت هذه المياه بفعل الثلوج الذائبة ام بفعل سقوط الامطار ام كان مصدرها العيون والينابيع. ولذلك فأن حوض النهر يشمل جميع الجبال والوديان والهضاب والسهول المنحدرة عادة الى مجراه (7).
ب : انواع الانهار :
تصنف الانهار على نحو عام الى عدة انواع يختلف احدها عن الاخر بحسب الاساس الذي تستند اليه. فقد تصنف على أساس مناخي او طبقا لمصادر تغذيتها الرئيســـــــــة ونسبتها في تكوين مياهها كالثلوج أو المياه الجوفية او الامطار . كما تقسم الى أنهار ملاحية واخرى غير ملاحية وفقا لقابليتها او ملائمتها للملاحة.
وقد تصنف على اساس جغرافي الى انهار وطنية واخرى دولية تبعا لتحديد مناطق جريانها في أقاليم الدول وهذا هو التصنيف الشائع والمستخدم قانونا (8).
فالانهار الوطنية وتسمى بالانهار القومية او الانهار الداخلية تقع مجاريها الطبيعية من منبعها حتى مصبها فضلا عن جميع روافدها وفروعها في اقليم دولة واحدة كنهر التايمز في بريطانيا ونهر السين في فرنسا. ويعد النهر في هذه الحالة جزءاّ من اقليم الدولة ويخضع لسيادتها المباشرة شانه في ذلك شان بقية اجزاء اقليمها حيث يحق لها ان تقوم بجميع انواع الاستغلال المشروع مالم تتقيد بمعاهدة او اتفاقية خارجية0 أما الانهار الدولية فهي الانهار التي تجتاز أو تفصل بين بين اقليمي دولتين او اكثر كنهر دجلة والفرات والنيل والكونغو والهندوس والامازون والدانوب والراين وغيرها.
وتمارس كل دولة اختصاصها الاقليمي على الجزء النهري الجاري في اقليمها. حيث تباشر حقها في استغلال مياهه في مختلف المجالات الزراعية والصناعية والخدمية شريطة ان لاتؤثر على حقوق الدول الاخرى المتشاطئة في النهر. وتنقسم الانهار الدولية الى انهار محاددة او متاخمة وهي الانهار التي تمثل حدا فاصلا بين اقليمي دولتين او اكثر كنهر الراين الذي يفصل بين المانيا وسويسرا وبين المانيا وفرنسا أيضا . والى انهار متتابعة او مشتركة وهي الانهار التي تخترق او تجتاز اقليمي دولتين او اكثر كنهر دجلة والفرات والنيل والدانوب والراين (9). واذا كان التمييز بين الانهار المحاددة والانهار المتتابعة غير ذي اهمية فيما يتعلق بتعريف النهـر الدولي او تحديد ماهيته حيث تتساوى المراكز القانونية للدول الواقعة عليها فأن الدولة التي تشترك في نهر دولي متتابع تستطيع ان تجري على الجزء النهري المار باقليمها وبحرية كاملة جميع التصرفات المشروعة الداخلة في اختصاصها الاقليمي من دون مشاركة أي دولة اخرى فيها. أي انها تتمتع بحق خالص في السيادة على هذا الجزء والتحكم بطريقة استغلاله مادامت تراعي في ذلك حقوق الدول الاخرى المتشاطئة في هذا النهر (10).
جـ : أساس استغلال الانهار الدولية :
من المبادئ العامة المعروفة في نطاق القانون الدولي العام ان لكل دولة الحق في ان تمارس السيادة الكاملةعلى عموم اقليمها أو ان تباشر اختصاصها الداخلي فيه على نحو فردي مستقل طالما لاتوجد هناك قواعد دولية تحد من هذا الاختصاص (11) .
ومن نافلة القول ان استغلال الدولة المتشاطئة للجزء النهري الجاري في اقليمها وفقا لمبدأ المساواة بين الدول الذي اكدته المادة (الثانية) من ميثاق الامم المتحدة ومبدأ سيادةالدول على مواردها الطبيعية الذي أقرته الجمعية العامة لهذه المنظمة في عدة مناسبات يعد حقا من حقوق السيادة المسلم بها دوليا (12). بيد ان علينا ان نشير هنا الى ان هذا الاستغلال قد يكون غير مشروع وفقا للقواعد الدولية فيما اذا الحق أضــرارا بالدول المتشاطئة الاخرى سواء أنجمت هذه الاضرار عن خطأ من هذه الدولة ام بدون خطأ منها وهو مايعرف بالتعسف في استخدام الحق (13) .
وقد كان الاتجاه الفقهي القديم يرى بأن سيادة الدولة على اقليمها على نحو عام وعلى الانهار الجارية فيه على نحو خاص هي سيادة مطلقة لاتتقيد الا بارادتها المنفردة غير ان هذا الاتجاه قد تغير بعد ذلك وبات لزاما على كل دولة ان تتقيد بما تفرضه القواعد الدولية من التزامات تعلو على ارادة أي منها (14). ومع ذلك لايزال مبدأ السيادة في مقدمة المبادئ التي يقوم عليها النظام القانوني الدولي المعاصر على الرغم من الانتقادات الفقهية الموجهة الى مفهومه النظري بدليل ان جميع الدول ولاسيما دول العالم الثالث التي استقلت حديثا تحرص على تأكيد سيادتها واستقلالها الوطني (15) . وعلى ذلك فأن الدول المتشاطئة وطبقا للمبادئ والقواعد الدولية تقف على قدم المساواة فيما يتعلق باستغلال الانهار الدولية مالم توجد قيود دولية تنص على خلافها أو تحد منها وهذه المساواة لاتنصرف الى الحقوق والواجبات في طبيعتها وانما تعني المساواة في القدرة أو الاهلية القانونية التي تتمتع بها هذه الدول لأكتساب الحقوق والتقيد بالالتزامات. ومع ذلك فأن على هذه الدول أن تراعي حقوق بعضها البعض عند ممارستها ذلك الاستغلال والا عدّ ذلك انتهاكا منها للقواعد الدولية المعنية (16).
ثانيا : القواعد الدولية في استغلال الانهار الدولية :
يمكن دراسة هذه القواعد تبعا لأهميتها ووفقا للتسلسل الوارد لمصادر القواعد الدولية في المادة (38) من النظام الاساس لمحكمة العدل الدولية على الوجه الآتي :
أ : الاتفاقيات والمعاهدات الدولية : وتعد المصدر الاول لانشاء القواعد الدولية وهي على نوعين :
1 : الاتفاقيات العامة : وفي مقدمتها اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الاغراض غير الملاحية الموقـــع عليهـــا في نيويــورك في 21/5/1997 (17).
وهي اتفاقية اطارية بوجه عام حددت المبادئ الاساسية التي يتم بمقتضاها تقاسم مياه الانهار الدولية وقررت حق جميع دول المجرى المائي الدولي في الانتفــــاع والمشاركة في مياه النهر الدولي بطريقة منصفة ومعقولة وبشكل لايسبب ضررا ذا شان لدول المجرى المائي الدولي الاخرى. كما بينت الكيفية التي يتم بها حــل المنازعات المائية في حالة فشل المفاوضات بين الدول المتشاطئة مـن خلال تشكيل لجنة لتقصي الحقائق والتوفيق بين الدول المتنازعــة او اللــجوء الـــــى التحكيم او القضاء الدوليين في حالة موافقة هذه الدول صراحة.

وهناك أيضا اتفاقية جنيف المعنية بتنمية الطاقة المائية المؤثرة في اكثر من دولة واحدة التي عقدت في جنيف في 9/كانون الاول 1923برعاية عصبة الامـــــــم واثناء انعقاد المؤتمر العام الثاني للنقل والمواصلات (18).
2 : الاتفاقيات الخاصة (الثنائية أوالجماعية) وهي كثيرة جدا وقد عقدتها الــــدول المتشاطئة في انهار دولية سعيا منها الى تحديد حقوقها المائية في هذه الانهار وتعيين الالتزامات المتقابلة فيما بينها وتعزيز روابط التعاون المشترك والتنسيق المتبادل في مجال أنشطة الاستغلال المائي المختلفة.
ب : قواعد العرف الدولي : وهي المصدر الثاني لأنشاء القواعد الدولية. وتلعب هذه القواعد دورا كبيرا في مجال استغلال الانهار الدولية عند غياب القواعد الاتفاقيــة المعنية بهذا الجانب. وتقر اغلب هذه القواعد للدول المتشاطئة في انهار دوليــة بالسيادة على الاجزاء الواقعة في اقاليمها من هذه الانهار وبحقها الكامل فـــي استغلال مياه هذه الاجزاء شريطة ان يكون ذلك على وجه عادل ومعقول وبما لايشكل مساسا بالحقوق المماثلة للدول المتشاطئة الاخرى (19).
جـ : المبادئ العامة للقانون : وتعد المصدر الثالث في تكوين القواعد الدولية طبقا للمادة (38) الآنفة الذكر. ويراد بها تلك المبادئ التي اقرتها وطبقتها الامم والدول على نحو فعلي وليس المبادئ المثالية او الطبيعية. ويكفي لهذه المبادئ ان تمثل النظم القانونية الاساسية في العالم دون الحاجة الى الاعتراف بها من قبل الدول كافة (20) . وفي مقدمة هذه المبادئ (21) :
ـ مبدأ الحقوق المكتسبة.
ـ مبدأ عدم جواز التعسف في استعمال الحق.
ـ مبدأ حسن الجوار.
ـ مبدأ حسن النية.
ـ مبدأ استخدام اقليم الدولة بما لايضر الآخرين.
ـ مبدأ التعويض عن الاضرار التي تصيب الغير.
د : الاحكام القضائية والآراء الفقهية : تعد الاحكام الصادرة عن القضاء والتحكيم الدوليين وكذلك الآراء التي يدلي بها كبار فقهاء القانون بمثابة مصادر احتياطية او مساعدة او ثانوية او استدلالية في انشاء القواعد الدولية طبقا لما اشارت اليه المادة (38) المارة الذكر. اذ يستعان بها على نحو أساس للدلالة على وجود هذه القواعد ومدى تطبيقها في المحيط الدولي. وقد حرصت معظم الاحكام القضائية والتحكيمية الصادرة بهذا الخصوص على حق كل دولة متشاطئة في استغلال الجزء الواقع تحت سيادتها من النهر الدولي بما يضمن حقوق بقية الدول فيه ويعزز من روابط التعاون وحسن الجوار فيما بينها (22).
أما الفقه الدولي فيكاد ينعقد اجماعه على ضرورة تقييد سيادة الدول المتشاطئة في استغلالها النهر الدولي بما يضمن ويصون حقوق الدول المتشاطئة الاخرى. ولذلك فأن
عليها ان لاتقوم بأي عمل انفرادي من شأنه المساس بهذه الحقوق (23).
وقد انبرت في هذا السياق بعض الهيئات الدولية المشهورة المعنية بتدوين ودراسة وتطوير قواعد القانون الدولي كمعهد القانون الدولي وجمعية القانون الدولي ومنذ عهد مبكر الى التصدي لهذا الموضوع من خلال العديد من المبادئ والقواعد والمقررات التي أصدرتها بهذا الشأن لاسيما المبادئ الاساسية التي أصدرها المعهد عامي 1911 و 1961 والقواعد التي أصدرتها الجمعية عام 1966 المعروفة بقواعد هلسنكي والقواعد التكميلية التي أصدرتها عام 1986.
ومن خلال مراجعة مجمل هذه الاعمال والاصدارات يتبين لنا بانها رفضت الاخذ بمفهوم النظرية التقليدية في السيادة المطلقة للدول المتشاطئة في نهر دولي لما فيها من إجحاف واضح لحقوق الدول المتشاطئة الاخرى وعدم توافقها مع مبادئ ومفاهيــم القانون الدولي المعاصر وتبنت بدلا عن ذلك الاتجاه الفقهي الحديث الداعي الى تقييد سيادة الدول وحثها على التعاون المشترك في هذا المجال طبقا لمبادئ حسن الجوار وحسن النية وعدم إضرار الآخرين وبالنظر الى مايمثله النهر من وحدة طبيعية متكاملة لاتقبل التجزئة.
وعلى الرغم من ان أحكام المبادئ والمقررات الصادرة عن مثل هذه الهيئات هي أحكام ارشادية او توجيهية خالية من عنصر الالزام الا ان الدول المعنية كثيرا ما تستهدي بها في حل خلافاتها المتعلقة بتقاسم المياه في الانهار الدولية.
ومن جانب آخر (24) واغنت جوانبه المتعددة بشكل كبير من خلال المناقشات الفقهية المستفيضة التي رافقت جهودها المضنية المستمرة في صياغة مشاريع مواد قانون خاص بهذا الموضوع وعبر العديد من التقارير المهمة التي قام باعدادها المقررون الخاصون المكلفون بهذه المهام.وقد توجت هذه الاعمال باتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الاغراض غير الملاحية لعام 1997 التي سبقت الاشارة اليها.
مما تقدم يمكن تلخيص أحكام القواعد القانونية التي استقرت في المحيط الدولي بشأن استغلال مياه الانهار الدولية سواء استندت الى المصادر الاصلية للقانون الدولي العام من اتفاقيات واعراف ومبادئ قانونية عامة أو الى مصادره الاحتياطية من أحكام قضائية أو آراء فقهية على الوجه الآتي (25) :
1 ـ يمثل النهر الدولي من منبعه حتى مصبه وحدة طبيعية متكاملة غير قابلة للتجزئة بصرف النظر عن أقاليم الدول التي يجري فيها.
2 ـ لكل دولة متشاطئة حصة عادلة ومعقولة من مياه النهر لايجوز المساس بهــــا أو انقاصها ولها الحق في استغلالها على نحو مباشر أو غير مباشر بما يتفــــــــــق والقواعد الدولية المعنية وبما لايضر بالدول المتشاطئة الاخرى. ويتم احتساب هذه الحصة في ضوء عوامل موضوعية عديدة وفي اطار كل حالة على حدة.
3 ـ على كـل دولـة متشاطئـة ان تحتـرم عنــد استغلالهــا لميــاه النهــر الحقـــــوق المكتسبة للدول المتشاطئة الاخرى في هذه المياه وان تسعى جهد إمكانها لصيانة هذه المياه والمحافظة عليها وبما ينسجم ومبادئ حسن الجوار وحــــسن النية وعدم التعسف في استخدام الحق.
4 ـ على كل دولة متشاطئة ان تمتنع عن تنفيذ أي أعمال انفرادية في حوض النهر من شانها المساس بحقوق الدول المتشاطئة الاخرى مالم تتفق معها مسبقا على ذلك.
5 ـ تمتنع الدول المتشاطئة عن إجراء التغييرات او التحويرات الماسة بالنظام الطبيعــي للنهر التي تهدد على نحو مباشر او غير مباشر حقوق الدول المتشاطئة الاخرى في هذه النهر مالم تتفق معها مسبقا على ذلك.
6 ـ على الدول المتشاطئة التي تخطط لتنفيذ مشروع مائي في حوض النهر من شانــــه التاثير سلبيا في مصالح الدول المتشاطئة الاخرى ان تقوم باخطار هذه الدول بذلك قبل وقت مناسب وان تزودها بالوثائق والمعلومات المهمة المتصلة بالمشـــروع بغية اتاحة الفرصة الكافية لها لتقويم آثاره المحتملة عليها وابداء رأيها فيه خلال مدة مناسبة. وعلى الدول المخططة للمشروع عند اعتراض تلك الدول عليـه أن تمتنع عن البدء بتنفيذه حتى يسوى الخلاف نهائيا.
7 ـ يحق لكل دولـــة متشاطئــة ان تعتــرض على أي استغـلال مقترح من قبل دولة متشاطـئة اخرى لمياه النهر اذا كان من شأنه ان يلحق أضرارا بمصالحها او يهدد باحداثها لاحقا.
8 ـ على كل دولة متشاطئة ان تقوم على وجه السرعة بابلاغ الدول المتشاطئة الاخرى عن حالات الطوارئ او الاحداث الفجائية الخطيــرة المتعلقـــة باوضاع النهر او بالمنشآت المقامة في حوضه بغية تفادي وقوع كوارث او خسائر بشرية او مادية فادحة في هذه الدول والعمل على التصدي لها بكل الوسائل المتاحة لديها.
9 ـ على الدول المتشاطئة ان تبذل الجهود المشتركة الهادفة الى تنمية الموارد المائية لحوض النهر والعمل على حماية بيئته الطبيعية واتخاذ الاجراءات الفعالة لمـنع حدوث تلوث فيها او العمل على تخفيف حدة التلوث الحاصل وخفضه الى أدـنى مستوى ممكن.
10 ـ ليس هناك أولوية او أفضلية لأستغلال مائي على آخر مالم يكـن هنــاك التــــزام دولي يقضي بخلاف ذلك. ومع ذلك يجب ان يعطي الاستغلال المتعلق بالمصالح الحيوية ذات الاتصال الوثيق بحياة السكان ومعاشهم أهمية استثنائية في مثل هـذه الامور .
11 ـ تكون كل دول متشاطئـة مسؤولـة دوليـا عن أي أضرار تسببهـا مشروعاتها المقامة في حوض النهر لدولة متشاطئـة اخرى ويبقى للأخيرة الحق في ان تطالبها باصلاح هذه الاضرار او التعويض عنها .
ثالثا : القواعد الدولية الخاصة باستغلال مياه نهري دجلـة والفـــرات
توجد في هذا الاطار ثلاث اتفاقيات أساسية بشان استغلال مياه نهري دجلة والفرات هي على التوالي:
1 : الاتفاقية التي عقدت في باريس في 23/12/1920 بين بريطانيا وفرنسا بصفتهما الدولتين المنتدبتين لتنظيم الاوضاع الخاصة بالاقاليم التي خضعت لنظام الانتداب ومنها تنظيم استغلال مياه نهري دجلة والفرات بين العراق وسوريا بغية ضمان حقوق الاقليم الواقع في أسفل هذين النهرين (العراق). حيث نصت المادة (الثالثة) من هذه الاتفاقية على أن : ( تعقد حكومتا بريطانيا وفرنسا اتفاقا لتعيين لجنة تتولى مهمة الفحص الاولي لأي مشروع إروائي تقوم به حكومة الانتداب الفرنسي من شأنه ان ينقص الى حد كبير مياه دجلة والفرات عند نقطتي دخولهما منطقة الانتداب البريطاني في بلاد مابين النهرين ).
2 : اتفاقية صلح لوزان بين تركيا ودول الحلفاء المعقودة في 24/7/1923 التي نظمت موضوع استغلال مياه نهري دجلة والفرات بين كل من تركيا وسوريا والعراق حيث نصت المادة (109) منها على : ( يتعين على الدول المعنية عند عدم وجود احكام مخالفة أن تعقد اتفاقا فيما بينها من أجل حماية المصالح والحقوق التي اكتسبتها كل منها وذلك عندما يكون من شأن تعيين الحدود الجديدة أن يجعل من النظام المائي لدولة ــ حفر القنوات الفيضان الري التصريف او المسائل المشابهة ــ معتمدا على الاعمال المنفذة في اقليم دولة اخرى او اذا كان استغلال المياه في اقليم دولة اخرى او استغلال القوى المائية التي يكون مصدرها في اقليم دولة اخرى يتم طبقا لما كان معمولا به قبل الحرب ).
3 : معاهدة الصداقة وحسن الجوار المعقودة بين العراق وتركيا في 29/3/1946 : وتعد من أهم الاتفاقيات التي عقدت لحد الآن بين الطرفين ذات الصلة بتنظيم استغلال مياه نهري دجلة والفرات. وتنص المادة (السادسة) منها على ستة بروتوكولات ملحقة اختص البروتوكول الاول منها بتنظيم جريان مياه نهري دجلة والفرات وروافدهما على نحو طبيعي او السيطرة على الفيضانات التي قد تسببها هذه المياه سواء تعين ان يكون هذا التنفيذ في الاراضي العراقية أم في الاراضي التركية فيما اذا تحمل العراق تكاليف انجازها. وتنص المادتان (الاولى) و(الثانية) من هذا البروتوكول على حق العراق في إرسال هيئات من الفنيين الى تركيا على وجه السرعة لغـــــــرض
إجراء التحريات والمسوحات والاعمال الاخرى المتعلقة باختيار مواقع السدود التركية ومحطات المقاييس المقامة على نهري دجلة والفرات. وعلى تركيا السماح لهؤلاء الفنيين بزيارة الاماكن الضرورية وان تقدم لهم مايقتضي من المساعدات والتسهيلات والمعلومات لانجاز أعمالهم هذه . أما المادة (الخامسة) فتعد الأهم من بين مواد هذا البروتوكول اذ نصت على إلزام تركيا باطلاع العراق على أي مشاريع متعلقة باعمال الوقاية التي تقرر انشائها على أحد النهرين او روافده وذلك من أجل ان تكون هذه المشاريع في خدمة مصالح الطرفين.
وفضلا عن أحكام هذه الاتفاقيات الثلاث ومدى إلزامها للدول الاطراف فيها كما سيتبين لنا لاحقا فقد عقدت هذه الدول ( العراق ـ تركيا ـ سوريا ) بعض الاتفاقات التنظيمية المرحلية التي حاولت من خلالها علاج المشاكل الخطيرة المتفاقمة الناشئة عن المشاريع المائية التركية الكبرى في حوضي النهرين. ومن هذه الاتفاقات :
ــ البروتوكول الثنائي للتعاون في مجال مراقبة التلوث في المياه الجارية بين دول المنطقة الموقع بين الحكومتين العراقية والتركية في كانون الاول من عام 1980. وقد نص هذا البروتوكول على تأليف لجنة فنية مشتركة تجتمع خلال شهرين لدراسة المسائل المتعلقة بالموضوع المذكور بوجه عام وتحديد الحصة المناسبة والمعقولة في المياه المشتركة لكل من العراق وتركيا وسوريا بوجه خاص.
ــ الاتفاق المرحلي المعقود بين العراق وسوريا عام 1990 وهو اتفاق مهم جدا قضى بتحديد حصة العراق من مياه نهر الفرات الواردة على الحدود التركية السورية بنسبة (58%) مقابل نسبة (42%) لسوريا ولحين التوصل الى اتفاق ثلاثي ونهائي مع تركيا حول قسمة مياه نهر الفرات.
رابعا : الموقف العراقي التركي السوري بشأن استغلال مياه نهري دجلة والفرات
لم يكن استغلال مياه نهري دجلة والفرات في العراق وليد متطلبات الحاضر او لدواعي الحاجة الماسة وانما كان قائما منذ أقدم العصور التاريخية وقد بقي كذلك على الرغم من جميع الحقب المظلمة التي مرت بهذا البلد. بل يمكن القول ان هذا الاستغلال يعد السبب الرئيس في إستيطان الانسان ونشوء الحضارات القديمة في بلاد مابين النهرين. ولذلك فأن العراق قد إكتسب حقا تاريخيا أزليا لايجوز إنكاره او إنتقاصه او التغافل عنه. وهذا ماتقره القواعد الدولية المعنية التي تجعل للحقوق التاريخية او المكتسبــــة في المياه مكانا متميزا على غيرها من الحقوق بوصفها حقوقا سابقة على أي حقوق اخرى تنشأ من إستغلال مائي لاحق. ولهذا فأن على الدول المتشاطئة بوجه عام ان تعترف بهذه الحقوق وتراعيها عند تحديد الحصص المائية فيما بينها وهذا مايتفق ومبادئ العدل والانصاف بهذا الخصوص وفي مقدمتها مبدأ الاستغلال العادل للمياه (26) .

ولكي نتعرف على المقدار الطبيعي لحصة العراق المائية في كل من نهري دجلة والفرات لابد لنا ان نقف أولا على معدلي وارداتهما المائية الداخلة الى أراضيه خلال الاعوام السابقة اللذان يمثلان الاساس الحقيقي في تحديد حقوقه المائية في هذين النهرين. اذ بلغ معدل إيراد نهر دجلة في العراق مع جميع روافده نحو (3 ر47) مليار متر مكعب من المياه سنويا. منها نحو (9ر30) مليار متر مكعب هي حصيلة واردات روافد النهر الخمسة التي تصب فيه ضمن الاراضي العراقية (27) . أما معدل إيراد نهر الفرات فقد بلغ وفقا للتصاريف المسجلة في محطة هيت خلال المدة المحصورة بين السنة المائية 1931 ـ 1932 والسنة المائية 1972 ـ 1973 نحو (6ر29) مليار متر مكعب (28).
ولاشك في ان تحديد الحقوق المائية للعراق في هذين النهرين له أهمية بالغة على المديين الحالي والقادم لاسيما بعد ان تعاظم استغلال تركيا وسوريا لمياه النهرين خلال العقود الاخيرة مما اخذ يهدد هذه الحقوق على نحو جدي . ويمكن تلمس ذلك بشكل خاص في استغلال مياه نهر الفرات. حيث تتسع الاراضي الزراعية المعتمدة على هذه المياه في هاتين الدولتين فضلا عن الاستخدامات الصناعية المتطورة كما تزيد نسب السكان المنتفعين فيهما من مياه هذا النهر. ولهذا فقد حرصت هاتان الدولتان بشدة على إقامة عدد كبير من المشاريع الصناعية والاروائية في حوض النهر كالسدود والخزانات ومحطات توليد الطاقة الكهرومائية. كما انهما تسعيان باستمرار ـ لاسيما تركيا ـ الى زيادة حصتيهما من مياه النهر وهذا ماينعكس سلبا بالطبع على حصة العراق في هذه المياه. أما مايتعلق بنهر دجلة فيبدو الامر أقل خطورة لحد الآن بالقياس الى نهر الفرات. اذ تقل الاراضي الزراعية المروية من مياهه كما ان نسب السكان المنتفعين في تركيا وسوريا من هذه المياه أقل من مثيلتها في نهر الفرات فضلا عن صعوبة استغلال هاتين الدولتين لمياه النهر ـ خاصة سوريا ـ لأسباب ترجع الى وعورة المنطقة التي يجري فيها وما يتبعها من صعوبة في النقل والمواصلات وفي ارتفاع التكاليف الامر الذي قلل من امكانية وجود مشاكل كبيرة قائمة بشانه مع العراق على الاقل في الوقت الحاضر (29). ومع ذلك فان معدلات الايرادات السنوية لهذا النهر في انخفاض مستمر مع تطور انشاء وتنفيذ المشاريع التركية والسورية عليه.
فبالنسبة الى استغلال مياه نهر الفرات من قبل تركيا فان الحكومة فيها قد شرعت منذ عام 1937 بدراسة تنفيذ مشاريع مائية ضخمة على النهر واستهلت ذلك بتنفيذ سـد (كيبان) لتوليد الطاقة الكهربائية في اواخر عام 1965 وانتهت منه في عام 1974. وقد بلغت سعة خزنه نحو (7ر30) مليار متر مكعب من المياه. وفي نفس السياق قامت بانشاء سلسلة من المشروعات المتوسطة والصغيرة في حوضي النهرين لايتسع المجال لذكرها فضلا عما هو في قيد الانجاز او التخطيط الآن (30). مع العلم انها تقوم ومنذ عقد السبعينات من القرن المنصرم بتنفيذ منظومة واسعة من السدود والخزانات والقنوات والانفاق ضمن اطار مايعرف بمشروع الاناضول المعروف اختصارا بـ (كاب) والذي يعد من أكبر المشروعات المائية العملاقة في منطقة الشرق الاوسط على الاطلاق. اذ يغطي ست ولايات تركية كلا او جزءا ويتكون من 13 مشروعا أساسيا 7 منها في حوض نهر الفرات و 6 منها في حوض نهر دجلة فضلا عن عدد كبير من المشروعات المائية الثانوية المتممة لها. كما تتضمن المشروعات الاساسية اقامة 22 سدا و 17 محطة كهرومائية يتم تنفيذها على عدة مراحل (31).
ويعد السد المعروف بـ ( سد أتاتورك) الذي يعد رابع أكبر سد في العالم من حيث الحجم من أكبر السدود التي نفذتها تركيا على نهر الفرات ضمن برنامج الـ (كاب) هذا. اذ تبلغ قدرة استيعاب خزانه المائي نحو (7ر48) مليار متر مكعب من المياه. وقد شرعت تركيا بتنفيذه في عام 1980. اما عملية الاملاء الاولى لخزانه فقد بدأت في عام 1990 .
وفي عام 1994 تم انجاز المرحلة الاولى من مشروع أطول نفق إروائي من نوعه في العالم المعروف بـ (نفق اورفه ) الذي يأخذ المياه من سد أتاتورك الى مسافة بعيدة لأرواء أراضي تقع خارج نطاق حوض نهر الفرات . وتم ايضا تنفيــذ مشروعـي سدين آخرين على نهر الفرات بالقرب من الحدود السورية هما (سد بيره جك) و(سد قرقامش) حيث يتاح لتركيا منهما التحكم شبه المطلق بمياه النهر.
وتشير الدراسات المنشورة عن مؤسسة مياه الدولة التركية الى ان تركيا تسعى الى إرواء (091ر1) مليون هكتار ضمن حوض الفرات و (602) ألف هكتار ضمن حوض دجلة علاوة على وجود مساحة قدرها (537) ألف هكتار شمال سد اتاتورك تروى من نهر الفرات. وبذلك يبلغ مجموع المساحة المقرر إروائها نحو (628ر1) مليون هكتار بعد انجاز مشاريع التخزين والري في حوض نهر الفرات بشكلها الكامل (32).
وبالنسبة الى نهر دجلة فان هناك مشاريع كثيرة قد انجزتها تركيا في حوضه الا انها ذات أحجام متوسطة او صغيرة على الغالب بالقياس الى مشاريعها على الفرات. وقد أكملت تركيا سدي (كيرالكزي و دجلة) على روافد النهر.
وفي عام 2006 أعلنت الحكومة التركية عن البدء بتنفيذ مشروع ســد اليسو (آلي صو) على مجرى النهر الرئيس على مسافة 75 كم من الحدود العراقية و 45 كم عن الحدود السورية . ويعد هذا السد من أضخم المشاريع المائية العملاقة على نهر دجلة ويتوقع ان يتم انجازه في عام 2013. وتقدر سعته الخزنية بنحو (4ر11) مليار م3 ومساحة بحيرته نحو ( 300) كم2. وتبلغ طاقة المحطات الكهرومائية للسد بحدود (1200) ميكا واط. ومن المتوقع ان يؤدي الى خفض الوارد المائي لنهر دجلة عند الحدود العراقية التركية الى نحو (7ر9) مليار م3 سنويا وهي تمثل نحو (47%) من الايراد المائي الذي تساهم به الاراضي التركية والبالغ نحو (21) مليار م3. وسوف تكون له آثار خطيرة وكبيرة لاسيما في سنوات الجفاف التي اخذت تزداد شدتها في ظل تأثير مايسمى بظاهرة الاحتباس الحراري او التغير المناخي التي بدأ يشهدها العالم. اذ سيخرج بفعل هذا السد نحو (7ر2) مليون دونم من الاراضي الزراعية العراقية التي ستتحول الى أراض متصحرة فضلا عما سيلحقه بسكان الريف من أضرار كبيرة تفقدهم مصادر عيشهم. كما ان الضرر سيصيب المناطق الريفية العراقية في حوض الفرات الاسفل لأن معظم النقص في مياه نهر الفرات يتم تعويضه من مياه نهر دجلة عن طريق قناة الثرثار. اضافة الى ان نقص المياه يؤدي الى تركز الاملاح وزيادة نسبة التلوث في مياه نهر دجلة. وهذه الشحة في المياه ستنعكس سلبا على مشروع احياء الاهوار ومن ثم تعرضها للجفاف ثانية بعد ان قام بتجفيفها النظام السابق (33).
اما عن المشاريع المائية في سوريا فانها تتركز في الواقع في حوض نهر الفرات الذي يجري في أراضيها لمسافة 675 كم يغطي فيها حوضه مايقرب من 5ر6 مليون هكتار من الاراضي المحصورة بين الحدود التركية السورية شمالا والحدود السوريـــة العراقية شرقا وهضبة الشام جنوبا والسفوح الشرقية لسلسلة جبال انتي لبنان غربا (34).
وقد بدأ الاهتمام السوري في إقامة مشاريع مائية كبيرة على نهــر الفــرات منذ عقد الستينات من القرن المنصرم. وتم انجاز العديد منها بالفعل لعل في مقدمتها السد المعروف بسد الطبقة او ( سد الفرات ) الذي يقع الى الغرب من مدينة الرقة السورية بنحو 40 كم وعلى بعد 300 كم من الحدود العراقية . وتمتد بحيرة خزانه الى مسافة 80 كم على طول مجرى النهر بعرض يتراوح مابين 6 ـ 8 كم وقدرة استيعابية تصل الى (9ر11) مليار متر مكعب من المياه. وقد انتهت الحكومة السورية من انجازه في صيف عام 1973. وفي الوقت نفسه استمرت في تنفيذ العديد من المشاريع المائية الاخرى ومنها مشروع السد التنظيمي او ( سد البعث ) الذي اكتمل انجازه في عام 1989 على نهر الفرات على بعد 17 كم من مؤخر سد الطبقة المتقدم و ( سد تشرين ) على نهر الفرات ايضا بالقرب من الحدود التركية السورية الذي بوشر بتنفيذه في نفس هذا العام (35). وتقدر المساحات المروية في عام 1998 ضمن حوض نهر الفرات بـ ( 258) ألف هكتار يبلغ احتياجها المائي نحو ( 87ر3) مليار متر مكعب بعد ان كانت مقدرة في عام 1965 بنحو ( 213) ألف هكتار يبلغ احتياجها المائي نحو ثلاثة مليارات متر مكعب. ويبلغ مجموع المساحات التي تخطط سوريا لأروائها ضمن حوض نهر الفرات بـ (773) ألف هكتار. أما عن المساحات التي تروى من نهر دجلة فهي قليلة وصغيرة نسبيا اذا ماقورنت بالمساحات الشاسعة التي تروى من نهر الفرات بالنظر الى وعورة المنطقة وضيقها وبعدها وتكاليف عمليات الارواء نفسها. ومع ذلك فأن الحكومة السورية لم تكتف بري المناطق الصغيرة القريبة من النهر البالغة نحو ( 4000) هكتار وانما بدأت تسعى الى ضخ مياه النهر ونقلها بعيدا بغية استصلاح بعض اراضي منطقة الجزيرة السورية القريبة من رافد الخابور في حوض الفرات. لذلك فهي تخطط لأرواء اكثر من ( 227) ألف هكتار ضمن حوض نهر دجلة . وقد أعلنت في هذا العام ( 2011) عن قرب البدء بتشييد محطة ضخ كبيرة على الضفة اليمنى لنهر دجلة المارة في سوريا والبالغة مسافتها نحو 45 كم بتمويل من (صندوق التنمية الاقتصادية العربية) الكويتي بقصد سحب حصة مائية ثابتة من مياه النهر لري مساحة زراعية ضمن منطقة الحسكة السورية بمساحة تتجاوز ( 800) ألف دونم. مما سيؤدي بحسب الخبراء المعنيين الى اخراج مساحة زراعية مماثلة من حيث الحجم من الجانب العراقي تزرع (40%) منها بالمحاصيل الاستراتيجية وهذا مايشكل بحد ذاته تهديدا خطيرا على الامن الغذائي للعراق (36).
هذه نبذة عامة ومختصرة عن أهم المشاريع المائية المنفذة من قبل الحكومتين التركية والسورية في حوضي نهري ودجلة والفرات او التي هي في طور التنفيذ حاضرا او على المدى القريب. اما عن تاثير هذه المشاريع على الحقوق التأريخية الثابتة للعراق في هذين النهرين فلاشك انها انعكست وستنعكس بآثار سلبية جدا على هذه الحقوق سواء من حيث كمية المياه الواردة اليه منهما ام نوعيتها الامر الذي ادى وسيؤدي الى آثار خطيرة للغاية وعلى كافة الاصعدة البشرية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية وغيرها لاسيما لنهر الفرات الذي يشكل أهمية قصوى وكبيرة جدا للعراق. وليس أدل على ذلك من الازمة الخطيرة التي عاشها خلال السنة المائية 1973/1974 حينما تدنت المياه الواردة من نهر الفرات الى درجة كبيرة جدا بسبب تزامـن عمليتـي إمـلاء خزانـي كيبـان التركـي والطبقــة الســـوري في آن واحد. ونفس الشيء يقال عن أزمة نهر الفرات في العراق خلال صيف عام 1990 من جرّاء إمـــلاء خزان سد أتاتورك التركي. وقد اصيب العراق من جرّاء الازمتين باضرار جسيمة جدا شملت النسل والضرع والحرث.
وفـي الواقع فأن أي مشروع مائي يقام من قبل دولة المنبع (تركيا) او دولة المجرى الاعلى الاوسط للنهر (سوريا) في حوضي دجلة والفرات يؤثر على الفور وبشكل مباشر على الحقوق المائية لدولة المجرى الاسفل للنهر او دولة المصب (العراق) استنادا الى حقائق علمية ثابتة هي ان نقص كل مليار متر مكعب من حصة العراق المائية في هذين النهرين يؤدي الى اخراج نحو (260) ألف هكتار من الاراضي الزراعية فيه (37). فلو فرضنا مثلا ان مجموع الاستغلال الحالي لتركيا وسوريا معا هو عشرة مليارات مكعبة من مياه النهر سنويا وانهما بصدد زيادته الى عشرين مليار متر مكعب فأن مقدار الزيادة هذا البالغ عشرة مليارات متر مكعب سيحسم يالنتيجة من حصة العراق في هذه المياه على أساس ان الواردات السنوية للنهرين هي واردات محدودة وثابتة نسبيا. وهذا ماظهر واضحا خلال الأزمتين الآنفتي الذكر . مع العلم ان العراق يقوم بارواء اكثر من (178ر2) مليون هكتار من الاراضي الزراعية في حوض نهر دجلـــة و (370ر1) مليون هكتار ضمن حوض نهر الفرات (38).
وبالمقارنة مع كمية ونوع المياه التي كانت ترد الى العراق قبل مشاريع التطوير المائية لتركيا وسوريا الآنفة الذكر وبين كمية ونوع المياه التي تدخل الى العراق بعد إنجازها نرى الحقائق الآتية :


نهر دجلة عند الحدود
معدل الايراد قبل التطوير : 90ر20 مليار م3
معدل الايراد بعد التطوير : 16ر 9 مليار م3
النوعية قبل التطوير : 250 ملغم / لتر
النوعية بعد التطوير : 375 ملغم / لتر
نهر الفرات عند الحدود
معدل الايراد قبل التطوير : 3 ر30 مليار م3
معدل الايراد بعد التطوير : 45ر8 مليار م3
النوعية قبل التطوير : 457 ملغم / لتر
النوعية بعد التطوير : 1220 ـ 1275 / لتر
واذا علمنا ان اجمالي الاحتياجات المائية المطلوب تامينها للعراق في مختلف الانشطة والاغراض ومع ازدياد عدد السكان فيه بشكل مضطرد تقدر باكثر من 74 مليار م3 ابتداءا من عام 2000 ونحو 101 مليار م3 في عام 2020 ( من دون احتساب فواقد التبخر من الخزانات والمياه الصحية ) لأدركنا حجم وابعاد الكارثة الكبيرة التي تنتظر هذا البلد العريق لاقدر الله (39). لذلك كان لابد من التوصل سريعا الى عقد اتفاقية ثلاثية مع تركيا وسوريا تحدد بشكل واضح وقاطع ونهائي حصة كل طرف في مياه كل من نهري دجلة والفرات وقبل ان تستكمل الدولتان مشاريعهما المائية الحالية والمستقبلية على ان تصاغ أحكام هذه الاتفاقية بما ينسجم وقواعد القانون الدولي في هذا الموضوع بوجه عام ومبادئ وقواعد اتفاقية الامم المتحدة لعام 1997 بشان استخدام المجاري المائية الدولية في الاغراض غير الملاحية على وجه الخصوص وبما يتفق ومبادئ الاسلام الحنيف وحسن الجوار وحسن النية والتعايش بين الامم والشعوب.
واستنادا الى الحقائق السابقة فان العراق من جانبه قد حرص منذ عام 1962 انطلاقا من وعيه بحقيقة هذه الاخطار وحجمها وابعادها على اجراء العديد من المفاوضات والمباحثات واللقاءات الثلاثية والثنائية مع تركيا وسوريا من أجل التوصل الى اتفاق من هذا النوع يحدد الحصص المائية في كل نهر على اساس عادل ومعقول. كما سعى من خلال هذه الجهود الى وضع الحلول العملية لعدد من المسائل الاخرى المتعلقة باستغلال المياه كأسبقية إنشاء السدود والخزانات وطريقة تشغيلها ووقت إملائها وكيفية تقسيم الزيادة اوالنقص الذي يطرأ على الوارد المائي وكيفية تصنيف الاراضي الصالحة للزراعة وغيرها من المسائل الاخرى. ومع ذلك فقد أخفقت هذه الجهود في إيجاد الحلول الحاسمة والجذرية لهذه المواضيع والتوصل الى اتفاق دائم بشأنها. ويعود ذلك في الحقيقة الى تعنت الجانب التركي وعدم جديته في التوصل الى هذا الاتفاق ورغبته في تاجيل الموضوع الى أطول فترة ممكنة حتى يستكمل مشروعاته الاروائية والخزنية ضمن حوضي النهرين ويجعل العراق وكذلك سوريا أمام الامر الواقع. كما يعود ذلك أيضا الى مماطلة الجانب السوري وتهربه من الوصول الى اتفاق ثنائي مع العراق بهذا الشأن تحقيقا لأكمال مشروعاته التنموية في حوض نهر الفرات وتمهيدا لأنجاز مشروعات تنموية اخرى في حوض نهر دجلة تمكنه من خلق واقع زراعي جديد يرتب له حقوقا مائية اضافية في هذا النهر على الرغم من له ضفة واحدة فيه لايتجاوز طولها 45 كم كما ذكرنا.
والواقع اننا لو حاولنا تحليل هذه المواقف على نحو متان لوجدنا بان سبب تعنت الاتراك في موقفهم هذا يرجع في الاساس الى اعتقادهم او ادعائهم بأنهم يتمتعون بحق سيادي مطلق على نهري دجلة والفرات ضمن حدود بلادهم بوصفهما من الانهار التركية الوطنية الخالصة التي تنبع من أراضيهم وليسا من الانهار الدولية. وواضح من هذا الاعتقاد او الزعم انه يتنافى مع المبادئ والقواعد الدولية المعنية التي استقرت في محيط العلاقات الدولية كما انه لايعدو عن كونه تعبيرا حقيقيا لنظرية السيادة المطلقة التي نادى بها بعض الفقهاء القدامى المتعصبين والتي طواها الزمان ورفضها المجتمع الدولي المعاصر . أما سوريا فقد كانت تتخذ خلال هذه المفاوضات موقفا مشابها للموقف التركي المذكور سواء من حيث رغبتها في ادماج مياه النهرين معا عند تحديد الحقوق المائية للعراق أم من حيث التحكم في المياه التي تطلقها اليه من نهر الفرات خاصة وان أي نقص يطرأ على حصتها المائية في هذا النهر تعوضه مباشرة من حصة العراق المائية فيه دون ادنى مبالاة بما يمكن ان يسببه ذلك له من أضرار وخسائر جسيمة. ولذلك فانها كثيرا ماتراجعت وتهربت خلال هذه المفاوضات عند اقتراب التوقيع مع العراق على اتفاق حول هذه المسائل مما شجع تركيا بدورها على التهرب من التوصل الى عقد اتفاق ثلاثي مشترك بحجة تعذر وصول الطرفين الآخرين الى اتفاق ثنائي بينهما. وهكذا بقيت مشكلات استغلال النهرين قائمة لحد الان دون التوصل الى اتفاق بشأنها على الرغم من مرور أكثر من ثلاثين عاما على تشكيل اللجنة الفنية المشتركة للمياه في عام 1980 التي سبقت الاشارة اليها. ولذلك يتعين على سوريا وهي متضررة أيضا من السياسة المائية التركية المتعنتة ان توحّد سياستها المائية مع سياسة وجهود شقيقها العراق في هذا المجال وان تسعى بنية مخلصة وجادة للتوصل الى اتفاق ثنائي معه او على الاقل إيجاد أرضية مشتركة أمام السياسة المائية المنفردة والمتسيدة لتركيا. ولذلك يتعين عليها ان تعي الدوافع الحقيقية للموقف التركي وان تعمل جاهدة مع العراق على دحض حجج وادعاءات واقتراحات الاتراك غير العادلة وغير المشروعة في استغلال مياه النهرين. وبهذا الصدد يمكن تلخيص الذرائع والحجج التي يستند اليها الاتراك في موقفهم هذا في النقاط الآتية (40) :
1 : تدعي تركيا بان لها السيادة المطلقة على نهري دجلة والفرات داخل اراضيها على أساس انهما نهران تركيان خالصان ينبعان من اراضيها وبالتالي فهما نهران وطنيان وليسا نهرين دوليين الامر الذي يعطيها ـ بحسب رأيها ـ الحرية الكاملة في التصرف في مياههما وفق ماتقتضيه مصالحها دون الالتفات الى مصالح وحقوق الدولتين المتشاطئتين الاخريين.
ان هذا الادعاء هو ادعاء ضعيف جدا لايصمد امام الحقائق الطبيعية الثابتة للنهرين من جهة ولاينسجم بحال من الاحوال مع مبادئ وقواعد القانون الدولي التي بيناها من جهة اخرى. فمياه كل نهر تجري منذ الأزل في مجار طبيعية مترابطة كوحدة واحدة غير قابلة للتجزئة لاتعرف الحدود السياسية المصطنعة بين الدول. ولذلك فهي تشكل كيان النهر ككل واحد إبتداءا من منابعه وحتى مصبه بوصفه وحدة اقليمية متكاملة لايمكن اهمال او اسقاط أي جزء منه . هذا من ناحية ومن ناحية اخرى فان منابع النهرين لاتقع بكاملها في الاراضي التركية ’ وانما هناك منابع او روافد اخرى لهما داخل الاراضي السورية والعراقية. اذ ان هناك ثلاثة روافد لنهر الفرات في سوريا كما هو معروف كما ان هناك خمسة روافد لنهر دجلة في العراق0 وتساهم هذه الروافد بنسبة كبيرة في مياه النهرين السنوية (41). وعلى هذا فان ادعاء تركيا بوجود منابع النهرين كاملة في أراضيها هو ادعاء يجانب الواقع الطبيعي لهما. اما عن مخالفة الادعاء التركي للقواعد الدولية فيكمن في ان مفهوم النهر الدولي وفقا لهذه القواعد هو انه النهر الذي يجتاز او يفصل بين اقليمي دولتين او اكثر حيث تمارس كل دولة متشاطئة اختصاصها الاقليمي على الجزء النهري الجاري في اراضيها بالشكل الذي لايتعدى على حقوق ومصالح الدول الاخرى المتشاطئة في هذا النهر. وقد صيغ هذا التعريف بشكل او بآخر في معظم الاتفاقيات الشهيرة المتعلقة بالانهار الدولية كاتفاقية فينا لعام 1815 واتفاقية برشلونة لعام 1921 فضلا عن عدد كبير من القرارات والاحكام الصادرة عن محاكم التحكيم والقضاء الدوليين بهذا الشأن. كما ان الفقه الدولي ( من فقهاء و جمعيات ومعاهد قانونية ) يأخذ بهذا التعريف منذ مدة طويلة (42) .
اما اتفاقية الامم المتحدة الامم المتحدة لعام 1997 المتقدم ذكرها فقد اعطت معنا واسعا للنهر الدولي الذي اسمته بالمجرى المائي يتفق مع المعنى الذي بيناه في ردنا على الحجج التركية. اذ عرفت الفقرة (أ) من المادة (2) من هذه الاتفاقية المجرى المائي بانه ( شبكة المياه السطحية والمياه الجوفية التي تشكل بحكم علاقتها الطبيعية بعضها ببعض كلا واحدا وتتدفق عادة صوب نقطة التقاء مشتركة ). كما عرفت الفقرة (ب) من المادة نفسها المجرى المائي الدولي بانه ( أي مجرى مائي تقع اجزاؤه في دول مختلفة ). أما الفقرة (ج) منها فعرفت دولة المجرى المائي الدولي بانها ( دولة طرف في هذه الاتفاقية يقع في اقليمها جزء من مجرى مائي دولي.00 ). وهذا في الواقع تجسيد واضح لما طرأ على على الفقه الدولي الحديث الذي أحل فكرة الحوض الدولي او الشبكة الدولية محل الفكرة القديمة للنهر الدولي بحيث شملت جميع مياه الحوض النهري بوصفها وحدة طبيعية متكاملة وليس مجرد المجرى الرئيس للنهر وسواء أكانت هذه المياه سطحية ام جوفية (43). لذلك يكفي في الفقه الدولي المعاصر لأعتبار حوض النهر دوليا ان يكون احد روافده جاريا بين اقليمي دولتين او أكثر (44).
ومن هذا نخلص الى ان نهري دجلة والفرات هما نهران دوليان يخضعان الى احكام القانون الدولي بحيث لايجوز لدولة متشاطئة فيهما ان تمارس سيادة مطلقة على الجزء النهري الجاري في أراضيها ودون الالتفات الى حقوق ومصالح الدولتين المتشاطئتين الاخريين.
2 : تدعي تركيا دائما بان حوضي نهري دجلة والفرات ماهما الا حوضا مائيا واحدا وليسا حوضين منفصلين. وهي تريد بهذا ان تقول بأن مشكلة نقص المياه الواردة من نهر الفرات بسبب مشاريعها وخططها المائية يمكن حلها عن طريق تحويل مياه نهر دجلة الى نهر الفرات أي بتحويل الفائض المائي لأحد النهرين الى الآخر في حالة نقص مياهه طالما انهما يشكلان حوضا مائيا واحدا.
والواقع ان هذا الادعاء يخالف الحقائق الطبيعية والجغرافية الثابتة لهما. فمن المعروف ان لكل منهما حدود جغرافية وهيدرولوجية وطوبوغرافية خاصة به. وعلى هذا فان فكرة اعتبار الحوضين حوضا واحدا هي فكرة خاطئة بالمقاييس الفنية والطبيعية والقانونية تبغي من ورائها تركيا تنفيذ عدد من المشاريع المائية الضخمة في حوض نهر الفرات.
3 : ترى تركيا بان مبدأ الحقوق المكتسبة المعروف في القانون الدولي هو مبدأ لايحظى باهمية كبيرة في العلاقات الدولية. فما هو الا إدعاء من جانب العراق وسوريا لحمل تركيا على تصريف كمية أكبر من المياه. لذلك فان الحقوق التاريخية والمكتسبة التي تدعيها هاتان الدولتان غير كافية في هذا الشأن بالنظر الى ان الاستخدامات المسبقة من قبل الدولة الادنى في مجرى النهر لايمثل الا أحد العوامل التي تؤخذ بنظر الاعتبار عند الاتفاق على تحديد الحصص المائية.
والواقع ان مبدأ الحقوق المكتسبة هو من المبادئ القانونية العامة الراسخة في القانون الدولي والتي اعتـرف بهـا القضــاء والتحكيــم الدولييـن في اكثر من قــرار او حكم فضلا عن الفقه الدولي. وجاء في مذكرة للامانة العامة للامم المتحدة الى لجنة تقنيـــن القانون الدولي عام 1948 ان مبدأ الحقوق المكتسبة هو من المبادئ المقررة التي لاتقبل المناقشة (45). ولهذا فان إعتماد هذا المبدأ يهدف الى حماية الاوضاع القائمة بشأن استغلال مياه الانهار الدولية وحظر تغيير او تعديل أوجه هذا الاستغلال بقدر الامكان. وعلى الدول المتشاطئة ان تحترم هذا المبدأ وان تمتنع عن القيام بأي عمل من شانه الاضرار بالحقوق المقررة لبعضها تجاه البعض الاخر (46).
4 : تدعي تركيا بان مفهوم قسمة مياه الانهار الدولية لايلقى قبولا دوليا كالذي يلقاه مفهوم الانتفاع المنصف للمياه على أساس ان تحديد الحصة المائية ( قسمة المياه ) طبقا للقانون الدولي انما يستند الى قاعدة الانتفاع المنصف والمعقول التي تعطي لكل دولة متشاطئة في نهر دولي ضمن اقليمها حصة او قسمة معقولة وعادلة من مياه النهر. وهي بذلك تخالف الهدف الذي انشأت من اجله اللجنة الفنية المشتركة للمياه لعام 1980 المارة الذكر. اذ ينص المحضر الذي تشكلت بموجبه اللجنة على ( تحديد الكمية المناسبة والمعقولة من المياه التي يحتاجها كل بلد من البلدان الثلاثة ). وهكذا فان تركيا تتهرب دائما من التوصل الى اتفاق نهائي حول تحديد الحصص المائية مع جارتيها العربيتين وترى وجوب ان تتركز المباحثات حول كيفية تطبيق مفهوم الاستخدام الامثل للمياه. فهي تحاول من خلال تطبيق هذا المفهوم او كما تسميه الانتفاع المنصف ان تاخذ عدة عوامل بنظر الاعتبار مثل الظروف الاقتصادية والاجتماعية والهيدرولوجية وظروف الجغرافية السياسية وفيما اذا كانت هناك موارد قومية وطبيعية متاحة لتلبية احتياجات الدول المعنية الى غير ذلك من العوامل الاخرى. ولذلك فقد قدمت خطة أسمتها ( خطة المراحل الثلاث ) اقترحت لتطبيقها تشكيل عدة لجان فرعية تقوم باجراء دراسات وابحاث تفصيلية في البلدان الثلاثة عن واقع الموارد المائية والزراعة واصناف التربة والتخطيط الهندسي للمشاريع الحالية والمستقبلية وجدواها الاقتصادية ووضع معايير محددة للأراضي التي تخصص لها المياه وتحديد انواع معينة من المحاصيل التي ينبغي ان تزرع في كل دولة.
ان الاسس والمعايير الواردة في هذه الخطة لاتصلح للتطبيق الا في نطاق دولة واحدة فقط بالنظر الى التفاوت الكبير في التقييمات الاقتصادية للمشاريع في كل دولة واختلاف السياسات الاقتصادية والزراعية وما تحتاجه كل منها من انواع معينة من الزراعة والمحاصيل. ان تركيا تحاول من خلال اصرارها على تطبيق مفهوم الاستخدام الامثل للمياه ان تستثني مساحات شاسعة من الاراضي الزراعية العراقية المعتمدة على مياه النهرين من حصتي العراق فيهما بحجة عدم خصوبة تلك الاراضي وكذلك استبعاد زراعة محاصيل معينة كالرز مثلا بحجة انها تستهلك كميات كبيرة من المياه وهذا مايتعارض بالطبع مع الاساليب العلمية المتطورة التي وفرت إمكانات هائلة لزيادة انتاجية الارض من خلال زيادة خصوبتها ومن ثم تغيير صنفها طبقا لما تتيحه الوسائل التكنلوجية الحديثة. وفي هذا السياق ايضا فان تركيا ترى وجوب اعادة النظر في السياسات الداخلية المتعلقة باساليب استخدام المياه في الدول الثلاث من حيث اتخاذ التدابير الكفيلة بمنع اهدارها او تبذيرها باستخدام التكنلوجيات الحديثة في الري ونبذ استخدام طرق الري البدائيـة فضلا عن معالجـة مياه الصرف واعادة استخدامها اسوة بالدول الغنية بالنفط كدول الخليج العربي. وهكذا نرى بان هذه الحجج والذرائع لاتعدو عن كونها أفكار غير عملية او بعيدة عن الواقع لاتقدم حلولا للمشاكل القائمة بصورة جذرية وعادلة تحاول تركيا من خلالها ارغام العراق وسوريا على قبول واقع مائي جديد عليهما وبما ينسجم ومصالحها في تنفيذ مشاريعها المائية حاضرا ومستقبلا بالشكل الذي تتحكم فيه بمياه النهرين الى حد كبير وبما يتيح لها مستقبلا تصدير المياه الى الدول الاخرى المحتاجة اليها بعيدة كانت ام قريبة خاصة وان لها مشاريع وخطط كثيرة على هذا الصعيد يضيق المجال بذكرها .
ولاشك في ان استغلال تركيا وسوريا لمياه نهري دجلة والفرات على النحو المتقدم وما سببه او سيسببه من أضرار وخسائر جسيمة للعراق بل ومهددة للحياة فيه على المستوى المنظور وغير المنظور يعد انتهاكا واضحا للقواعد الدولية ـ الاتفاقية منها وغير الاتفاقية ـ التي ذكرناها من قبل لاسيما أحكام اتفاقيات 1920 و 1923 و 1946 المتعلقة باستغلال مياه هذين النهرين التي يمكن تطبيقها في هذا الموضوع طبقا لقواعد خلافة الدول في المعاهدات ( الميراث الدولي ) التي تقضي بحلول دولة محل دولة اخرى في المسؤولية عن العلاقات الدولية لأقليم ما (47). فالعراق وسوريا وفقا لأتفاقيتي 1920 و 1923 هما الخلف الطبيعي للدولة العثمانية كل منها في حدود اقليمها. ويتعين عليهما ان يلتزما ببنودهما الخاصة بتنظيم استغلال مياه النهرين لاسيما وانهما لم يعلنا بعد استقلالهما عن رغبتهما بالتنصل من هذه البنود (48). بل ان سوريا قد أقرت بصحة هاتين الاتفاقيتين المعقودتين بين الدولتين المنتدبتين بريطانيا وفرنسا فيما يتعلق بتحديد مجرى نهر الاردن بينها وبين فلسطين التي كانت خاضعة ايضا لنظام الانتداب (49). أما تركيا فيتعين عليها ان تلتزم تجاه العراق باحكام اتفاقية لوزان لعام 1923 المتعلقة بمياه نهري دجلة والفرات فضلا عن التزامها باحكام البروتوكول الاول من معاهدة الصداقة وحسن الجوار لعام 1946 وقد مرت الاشارة اليهما.
واستنادا الى كل ماتقدم يمكن القول بان تركيا وسوريا تتحملان المسؤولية المباشرة عن تعويض أي اضرار ذات شان تصيب العراق من جراء سياستيهما المائية في استغلال مياه نهري دجلة والفرات طبقا لقواعد المسؤولية الدولية وما تمليه مبادئ العدل والانصاف بهذا الشأن. وهذا ما أشارت اليه المادة (7 ) من اتفاقية الامم المتحدة المارة الذكر المعنونة ( الالتزام بعدم التسبب في ضرر ذي شأن ) في فقرتها الثانية.

المصدر
لمستشار المساعد
د . جعفـر خزعـل جاسم المؤمن
مجلس شورى الدولــــة / وزارة العـــدل
تشـريــن الاول / 2011