بعد الحديث الطويل عن تعذيب المؤمنين في مكة أرى أنه من المناسب أن نُعَلِّق على مسألة مهمَّة مرتبطة بمرحلة التعذيب والبطش، وهي مسألة الطول الزمني لهذه المرحلة؛ بمعنى أنه لو كان هذا التعذيب الممنهج قد بدأ في العام الرابع من البعثة، فمتى توقَّف؟ أو على الأقل متى خَفَّت وتيرته؟

الواقع أن هناك ملاحظةً عجيبة بهذا الشأن تأتي على عكس ما يتوقَّع معظم الدارسين للفترة المكيَّة!

إنَّ الانطباع السائد عند قرَّاء السيرة -في معظمهم- أنَّ السمة الغالبة على فترة مكة هي تعذيب الضعفاء والعبيد، وتعرُّض الأغلب لعمليات منظَّمة من الأذى والاضطهاد، وأن هذا الأمر استمرَّ مدَّة مكة المكرمة كلها؛ أي ثلاث عشرة سنة؛ ولكن الواقع الذي وَصَلْتُ إليه أن الفترة التي شهدت قسوة التعذيب وشدَّته لم تتجاوز -فيما أظنُّ- عامين اثنين! كما أن هذا التعذيب لم يكن عامًّا على الجماعة المؤمنة كلها؛ إنما كان واقعًا على مجموعة محدودة من المؤمنين، وهم الذين ليس لهم مَنْ يدفع عنهم ذلك، بسبب كونهم عبيدًا، أو مُلْصَقين بقبائل قرشية، وليسوا من أهل مكة الأساسيين، وقد وصلتُ إلى هذه القناعة بعد مراجعة المواقف ذات السند الصحيح، التي يمكن أن نبني على دراستها تصوُّرًا مهمًّا..

إن الروايات الصحيحة التي تصف التعذيب وطُرُقَه نادرة للغاية؛ حتى إن أغلب ما ذكرناه من روايات نضطر إلى رفعه إلى درجة الصحَّة بشواهد أخرى من هنا وهناك، وقد بذلتُ جهدًا كبيرًا حتى أحصل على عدد من الروايات يكفي لوضع تصوُّر شامل عن هذه المرحلة، فلم أُحَقِّق ما كنتُ أتوقَّعه! نعم هناك روايات كثيرة موجودة في كتب التراجم والطبقات عن الصحابة الأوائل في فترة مكة، وما تعرَّضوا له من اضطهاد؛ ولكن هذه الروايات كثيرًا ما تكون بسند ضعيف للغاية، أو بلا سند أصلًا! ومن ثمَّ فلا يمكننا في معرض التحليل واستخراج المناهج التي نبني بها أُمَّتنا أن نعتمد عليها، فما السرُّ وراء ندرة المصادر التي تتحدَّث عن هذه الفترة؟

لنفهم هذا الأمر يمكن أن نعود إلى قراءة موجزة لخطوات السيرة النبوية حتى هذه اللحظة..

لقد نزلت البعثة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحرَّك بها سرًّا مدَّة ثلاث سنوات تقريبًا، وفي هذه السنوات الثلاث لم يتعرَّض لواقع قريش وحياتها بشيء، ولم ينتقد دينهم وطريقة إدارتهم لحياتهم، إلَّا بشكل سرِّيٍّ بينه وبين أصحابه، ولقد اكتشفت قريش أمر بعض المؤمنين في هذه الفترة؛ لكنها لم تفعل معهم شيئًا؛ لأنهم لم يُؤَثِّروا بشكل أو بآخر على حياة الناس؛ كانت هذه مرحلة، ثم أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، وبدأ في دعوة الناس إلى عقيدته علنًا، وبدأت قريش تشعر بالخطر؛ لأن الحجَّة التي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوية، والقرآن الكريم معجز، وسيفقد كبراء القوم مصالح كثيرة -كما بيَّنَّا قبل ذلك- ومن ثمَّ بدأت المقاومة للإسلام؛ ولكنها بدأت سِلْمية كما شرحنا، وشملت ألوانًا متعدِّدة من المقاومة كانت كلُّها تعتمد على الكلام والإعلام، اللهمَّ ما كان من بعض الأهل الذين ضغطوا بعنف على ذويهم حتى يتركوا الإسلام، ثم جاءت بعد هذه المرحلة فترة أخرى حاول فيها القرشيون التفاوض مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إمَّا بشكل مباشر، أو عن طريق توسيط أبي طالب؛ ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل؛ وذلك لرفض رسول الله صلى الله عليه وسلم التنازل عن أيِّ مبدأ عقديٍّ، أو أصل من أصول الإسلام، وهذه المرحلة التي تمَّت فيها محاولات وقف المدِّ الإسلامي سِلْمِيًّا أتخيَّل أنها أخذت عامًا على الأقل، أو لعلَّه أكثر من ذلك بقليل، ثم شعر المشركون بالخطر من تزايد المسلمين ففقدوا صوابهم، وبدءوا في تعذيب ضعفاء المسلمين، ولم يكن الهدف فقط هو ردَّهم عن الإسلام، وإنما كان الهدف الأكبر هو ترهيب عامَّة الشعب في مكة من الارتباط بهذا الدين الجديد، وفي رأيي أن هذه المرحلة الدامية لم تستمرَّ إلَّا مدَّة لا تتجاوز عامين فقط، كما لم يتعرَّض لها إلَّا عدد محدود من الصحابة رضي الله عنهم؛ والذي يدعوني إلى هذا الافتراض عدَّة أمور؛ منها ما يلي:

أولًا: كان التعذيب يتوقَّف عن أولئك الذين تمَّ إعتاقهم، وبالتالي لم يستمرَّ إلا مع خباب وقلَّة أخرى معه؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه اشترى وأعتق معظم المعذَّبين.

ثانيًا: كان معظمهم يكتم إيمانه فلم يُكْتَشف أمرهم.

ثالثًا: كان معظمهم من الأشراف -كما شرحنا قبل ذلك- وهؤلاء ما تعرَّضوا للتعذيب المنظَّم؛ وإنما كان إيذاؤهم من قِبَل أهلهم، وكان يزيد ويفتر حسب الموقف.

رابعًا: توقَّفت عملية التعذيب الجماعي عند إسلام عمر رضي الله عنه -كما سيأتي- وهذا كان في العام السادس من البعثة، يعني بعد أقل من عامين من بداية التعذيب.

خامسًا: هاجر عدد كبير من الصحابة إلى الحبشة -كما سيأتي- ولم يتعرَّضوا للأذى هناك.

إذن لم يكن هذا التصعيد الإجرامي شاملًا فترة طويلة من الزمن، إنما كان لفترة محدودة من الزمن، وعلى عدد محدود من الصحابة، وهذا الذي يُفَسِّر قلَّة الروايات في هذا الصدد؛ خاصَّة أن كبار الرواة من الأنصار لم يكونوا قد ظهروا بعدُ؛ مثل: أنس بن مالك، وأبي سعيد الخدري، ولم يكن أبو هريرة قد أَسْلَم بعدُ، وكان عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعائشة رضي الله عنهم صغار السنِّ جدًّا، أو لم يُولدوا أصلًا؛ لذلك قلَّت الرواية عن هذه الحقبة المؤلمة..

وليس معنى هذا أن بقية الفترة المكية بشكل عامٍّ كانت بلا تضييق أو إيذاء؛ فالتضييق الاقتصادي بصوره المختلفة كان موجودًا، وسوء المعاملة، والتنابز بالألقاب، وأكل الأموال والحقوق، والتهديد بالضرب أو الإيذاء، كل هذا كان ممارسًا في بقية الفترة المكية كلِّها، بالإضافة إلى المناظرات الكلامية الدائمة، والتهكُّم على المسلمين، والسخرية منهم، وإطلاق الإشاعات الباطلة عليهم، وتشويه سمعتهم -ليس في مكة فقط- ولكن في الجزيرة العربية بكاملها، وفوق هذا كان التهديد العائلي المباشر للأبناء الذين يعتنقون الدين الجديد، وكان هذا يُمَثِّل خطرًا حقيقيًّا على الدعوة؛ حيث إن كلَّ أب أو شيخ قبيلة سيكون له مطلق الحرية في التعامل القسري مع أولاده، ولن يلومه المجتمع أبدًا؛ بل سيدعمه ويُؤَيِّده، ولعلَّ هذا هو الذي دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يأخذ قرار هجرة الصحابة إلى الحبشة؛ حيث إن معظم المسلمين من الشباب، وليست لهم طاقة بالصدام مع آبائهم، ومن هنا كان الحرص على مستقبل الدعوة بالتفكير في الحلول البديلة مثل الهجرة.

د. راغب السرجاني