يمثل المسجد مرحلة ما فوق الكُتَّاب، أي بالطلبة المدركين لأهمية المسجد (من عمر عشر سنوات فما فوق)، وهو أمر متعارف عليه في جميع البيئات التعليمية الإسلامية سواءًا في المشرق أم في المغرب.
طريقة الدراسة في المسجد ومواضعيها:
كان الطلاب يتحلقون في فناء المسجد ويستمعون إلى مدرّسهم (أو شيخهم) إما شفويًا أو من كتاب يقرأ منه. وكانت مواضيع الدراسة في المسجد تنصبّ أساسًا على القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، ولذلك كان كل من عطاء بن أبي رباح في مكة وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي في بيروت لا يقبلان في دروسهما إلاَّ من عرف القرآن وقرأَه.
لقد اتبع قراء القرآن الكريم أسلوب (العَرْض) في حلقاتهم، أي أن يقوم المتعلم بقراءة القرآن على المقرئ، وبعد أن يتقن القراءة يبدأ في عرض ما يحفظه من القرآن على المقرئ، ويمكن أن يصل عدد المرات التي يعرض فيها المتعلم قراءته على مقرئه من 3: 30 مرة في بعض الحالات، ويورد ابن خلكان رواية تفيد بأن يزيد بن القَعقاع القارئ (ت بالمدينة 132هـ /750م) "كان يمسك بالمصحف على مولاه عبد الله بن عياش المخزومي، وكان من أَقرأ الناس، وكنت أَرى كل يوم ما يقرأ وأَخذت عنه قراءته".
أما حلقات التعليم المتعلقة بالحديث والفقه، فكان الأسلوب المتبع فيها هو (السَّماع)، أي أن يسمع المتعلم الأحاديث النبوية من المحدِّث فيحفظها، كما يبدو من سؤال أبي حصين لسعيد بن جبير: "أَكُلُّ ما أَسمعك تُحدّث سألت عنه ابن عباس؟ فقال: لا، كنت أَجلس ولا أَتكلم حتى أقوم، فيتحدثون فأحفظ".
وكان المعلّم (الفقيه، العالم) لقلّة وفرة الكتب مع طلابه وخشية أن يتسرب الملل إلى نفوسهم، يكتفي بإلقاء وشرح حديث أو حديثين مثلما كان يَحدث مع عبد الرحمن بن عُسَيلة الصُّنابحي في مسجد دمشق.
وكان أبو قلابة عبد الله بن زيد الجَرمي البصري (ت 104هـ / 722م) يفعل مثل ذلك، فقد روي عن أحد تلاميذه قوله: "كنا نأتي أبا قلابة ( في مسجد البصرة) فإذا حدثنا ثلاثة أحاديث قال: قد أَكثرت"، وقال محمد بن شَهاب الزهري (ت 124هـ / 741م) مبررًا ذلك، من واقع خبرته: "من طَلبَ العِلم جُملة، فاتَه جُملة، وإنما يُدرَك العِلم، حديثًا وحديثين".
الرحلة في طلب العلم:
وبمرور الوقت، ازدادت المساجد انتشارًا في الأمصار، وبدأ الفقهاء والعلماء ينتقلون من بلد إلى آخر، ولذلك أصبحت الرحلة في طلب العلم وسماع الشيوخ ضرورة ملحَّة، وقد أَولى بعض خلفاء بني أُمية هذا الجانب اهتمامًا خاصًا، فيروى أن الوليد بن عبد الملك كان يعطي إعانات للقراء المتفرغين لطلب العلم في بيت المقدس، وأن عمر بن عبد العزيز كتب إلى والي حمص: "أُنظر إلى القوم الذين نَصبوا أنفسهم للفقه، وحبسوها في المسجد عن طلب الدنيا، فأَعط كل رجل منهم مائة دينار يستعينون بها على ما هم عليه من بيت مال المسلمين وإن خير الخير أَعجله".
ونتيجة لما سبق ذكره أصبحت لدى طالب العلم حرّية الاختيار والتعلّم على أكثر من واحد، فقد ورد عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي (ت 167هـ / 783م) قوله: "كنا نجلس بالغدوات مع يزيد بن عبد الرحمن وسليمان بن موسى (الأَشْدَق) (ت 119هـ / 737م) وبعد الظهر مع إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر، وربيعة بن يزيد، وبعد العصر مع مَكْحول الدمشقي".
أشهر حلقات العلم في المساجد:
وأما عن أشهر حلقات العلم التي كانت تعقد يوميًا في المساجد (من بعد صلاة الفجر إلى شروق الشمس (الغَدَاة)، ومن بعد صلاة العصر حتى غروب الشمس (العَشِي) فمنها: أن عبد الله بن عباس (ت 68هـ / 687م) كان مجلسه في المسجد الحرام بمكة، وكان يُخصص لكل فرع من فروع العلم يومًا دراسيًا كاملًا، فقد كان يجلس يومًا لا يذكر فيه إلا الفقه، ويومًا التأويل، ويومًا المغازي، ويومًا الشعر، ويومًا أيام العرب.
وأما في المدينة، فقد شهدت أروقة المسجد النبوي حلقات فقهية لمشاهير العلماء فيها، من أمثال: جابر بن عبد الله الخزرجي الأنصاري (ت 78هـ / 697م)، وسعيد بن المسيّب المخزومي (ت 94هـ / 712م) وربيعة (الرأي) بن فرّوخ التيمي (ت 136هـ / 753م) (الذي كان مالك بن أنس يحضر حلَقَته).
وكان لزيد بن أسلم العدوي (ت 136هـ / 753م) حلقة للعلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وكان يجالسه فيها أربعون فقيهًا يأخذون عنه.
وفي البصرة، كان الحسن البصري يتناول في مجلسه بمسجد البصرة شيئًا من الحديث والفقه وعلم القرآن واللغة وسائر العلوم.
وكان عامر بن عبد الله العنبري (ت 55هـ / 674م) يُعلّم قراءة القرآن في مسجد البصرة من بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، ومن بعد صلاة العصر حتى يقوم لصلاة المغرب.
وكان عبد الله بن حبيب السُّلَمي (ت فيما بين 72 / 75هـ - 691 / 694م) يُقرئ عشرين آية بالغَدَاة و عشرين آية بالعَشِي، ويُخبرهم بموضع العُشر والخُمس، ويُقرئ خَمسًا خَمسًا، يعني خَمس آيات خَمس آيات.
وأما في دمشق، فقد كان أبو إدريس الخُولاني الأزدي (ت 80هـ / 699م)، قاضي دمشق وقاصّها، "يتخذ مكانه كل يوم بعد صلاة المغرب في مسجد دمشق، ويحدّث في شيء من العلم لا يقطعه بغيره حتى يقوم أو تُقام الصلاة، حفظًا لما سمع".
وعلى أية حال، فقد أصبح الجلوس لتعليم القرآن ولتدريس الحديث والفقه سمة مميزة في العصر الأموي وما بعده، فيشير ابن خلكان إلى أن مالك بن أَنس الأَصبحي (ت 179هـ / 795م) كان يكره أن يُحدث على الطريق، أو قائمًا، أو مستعجلًا، ويقول: "أُحب أن أَتفهم ما أُحدّث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".
مدة الدراسة في المسجد:
كانت طبيعة المواد التي تدرّس في المسجد (علوم القرآن والحديث والفقه) تستوجب من الطالب قضاء وقت طويل يلازم فيها أستاذه ويأخذ العلم عنه، فيروى أن محمد بن شهاب الزُّهري قد جالس سعيد بن المسيَّب ثماني سنين يتعلم منه الفقه في المدينة، وعندما انتقل الزهري إلى مدينة الرصافة، ووفد عليه طلاب العلم، يقال أن محمد بن الوليد الزبيدي (من أهل حمص وتوفي سنة 148هـ / 765م) قد أمضى حوالي عشر سنوات في الرصافة يدرس الحديث على الزهري، وصحب موسى بن يسار الأردني مكحول الدمشقي مدة أربعة عشر عامًا يدرس الحديث عليه، وصحب عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج (150هـ / 767م) عطاء بن أبي رباح في مكة ثماني عشرة سنة (وقيل عشرين سنة) يأخذ العلم عنه، ثم انتقل ابن جريج إلى المدينة فأمضى فيها تسع سنين جالس خلالها عمرو بن دينار المكي واستزاد من علمه.
وقد أدت هذه الملازمة الطويلة إلى أن يتأثر الطالب بشيخه وأن يهتم أحدهما بالآخر ويحترمه: فقد روي عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي أنه قال: "كنا عند مَكْحول الدمشقي كبعض ولده"، ووصل الحال ببعضهم إلى أن يوصي بكتبه أو بمجلسه إلى أحد تلاميذه من بعده، فقد أوصى عطاء بن أبي رباح -حين حضرته الوفاة- بأن يخلفه في مكانه للتدريس في المسجد الحرام بمكة أنجب تلامذته وأكثرهم ملازمة له وحفظًا لعلمه وآرائه، ألا وهو عمرو بن دينار المكي، وفعل مكحول الدمشقي الشيء ذاته، إذ أوصى بأن يخلفه في التدريس في الجامع الأموي بدمشق تلميذه ثابت بن ثوبان.
وأما أبو قلابة الجَرْمي فقد أوصى بكتبه إلى تلميذه أيوب السّختياني (من البصرة) (ت 131هـ /748م)، وقال: "ادفعوا كتبي إلى أيوب إن كان حيًا، وإلاّ فاحرقوها"، “فجاءت الكتب إليه عَدْل راحلة، واستفاد منها في تدريسه.
عمر بن سليمان العقيلي