«هاجر والدي من إيطاليا إلى أمريكا، عمل حلاقًا ناجحًا، وعملت أمي خياطة، عاشا في منزل صغير في بروكلين، وأنجباني أنا وإخوتي الثمانية، نحن عائلة متقاربة ومتفاهمة، يخاف كل منا على الآخر، وها أنا ذا (آل كابون) الصغير أصبحت في الصف السادس، لماذا إذن لا أشعر بروعة هذه القصة الصغيرة اللطيفة؟ ماذا ينقصني لكي أتوقف عن التفكير في مغادرة هذا الفصل والخروج من هذه الأسوار العالية لأتسكع مع أصدقائي في الشارع، نشرب، نمرح، نتباهى بقوتنا ويخشانا الجميع، نعم إنها الإثارة التي تنقصني، حياتي ليست مثيرة بما يكفي».
من هنا بدأت رحلة «آل كابون» مع حياة الإجرام، فقد قرر أنه سيترك المدرسة، وسيلتحق بدلًا منها بإحدى عصابات الشوارع، ولكن هذه العصابة تحديدًا كانت بالنسبة له ليست كأي عصابة، فرئيسها هو المثل الأعلى، المعلم والقدوة التي كان يتطلع إليها، إنه زعيم عصابة المافيا جوني توريو.
تتلمذ «كابون» على يد «توريو» وكان مخلصًا له بشدة، حيث تعلم على يده الغش في المشروبات الكحولية، والمقامرة، والعمل بالبغاء، وأصبح قادرًا على الكسب من هذه الأعمال المشبوهة، كل هذا وهو يبلغ من العمر 11 عامًا فقط.
اضطر المعلم للسفر واضطر التلميذ لترك الحياة المثيرة والعودة مرة أخرى للحياة الروتينية الشريفة بالتنقل في الوظائف بين مجموعة من المصانع أو الخدمة في المحال، حيث لم يستطع الاستقرار في أي وظيفة لمدة طويلة، وفي هذا الوقت تعرف الشاب الصغير على حبيبته «ماري»، حب عمره الوحيد الأبدي.
في عام 1917، قام «توريو» بتقديم تلميذه النجيب «كابون» إلى المجرم الكبير فرانك يال، فأعجب بمهارات «كابون» وقام بتوظيفه لديه كحارس شخصي في البار الذي يملكه، وعاش «كابون» حياته في سعادة إلى أن قام في إحدى الليالي بإهانة سيدة من الزبائن، فقام شقيقها بضربه ضربًا مبرحًا، خاصة على وجهه، حتى أصيب «كابون» بثلاث ندبات لم يستطِع الزمن أن يمحو آثارها، وتمت تسميته بعد هذه الحادثة بصاحب الوجه ذي الندبة، وقد أثار هذا اللقب استياء «آل كابون»، ولذلك يظهر في معظم صوره بجانب واحد فقط من وجهه، حتى لا تظهر هذه الندبات في أي من ذكرياته المصوّرة.
في هذا الوقت تأججت مشاعر الحب في قلب «كابون» و«ماري» فأنجبا طفله الوحيد «ألبرت» وهو لم يتعد التاسعة عشرة من عمره، وكان «توريو» هو الأب الروحي للطفل الصغير، وبعد مولد الطفل بأسابيع أقام «كابون» حفل زفافه على حبيبته «ماري» الذي حضره أكبر زعماء المافيا في العالم.
«أصبحت زوجًا وأبًا، الحياة المثيرة لا تصلح لي بعد الآن، ماذا إن تشاجرت فتشاجر أحد مع (ماري)، ماذا لو سعى أحد أعضاء المافيا لقتل ابني، العائلة قبل كل شيء، لن أترك عائلتي تتعرض للمخاطر، سأترك حياة المافيا المثيرة، وأكتفي بالحياة الروتينية الشريفة بجانب زوجتي وابني بعيدًا عن أي مخاطرة».
غادر «كابون» شيكاجو، موطن عصابات المافيا، وسافر إلى بالتيمور ليبدأ حياة جديدة مع أسرته الصغيرة كمحاسب في إحدى الشركات لمدة عام واحد، ثم اضطر للسفر إلى شيكاجو مرة أخرى بعدما مات والده، وهناك قابل معلمه «توريو» الذي أقنعه بالعودة للعالم المثير الذي افتقده بالفعل، فعاد سريعًا إلى ما كان عليه، مجرم ذو شأن في عصابة الجريمة المنظمة.
تدرج «كابون» في العصابة سريعًا، حتى جعله معلمه شريكًا له في الإدارة، وبهذا أصبح التلميذ أخيرًا ندًّا للأستاذ، فعاش حياة الملذات والترف، وقام بصرف أمواله ببذخ، مما لفت إليه الأنظار، ثم هاجمته الشرطة وقامت بالقبض عليه لضربه أحد سائقي التاكسي وهو في حالة سُكر، ولكن بعد هذه الحادثة اعتدل «كابون» في تصرفاته وحافظ على الإبقاء على مواصفات الرجل الشريف أمام الجميع.
بعد استقراره ماديًّا، قام «كابون» بشراء منزل كبير عاش فيه جميع أفراد عائلته، زوجته وابنه جنبًا إلى جنب مع والدته وأشقائه، حتى يحافظ على وحدة العائلة، ويستطيع حمايتهم جميعًا في الوقت نفسه.
اعتاد «كابون» خلال هذه السنوات على المقامرة والغش في المشروبات الكحولية، وأصبح من الأسماء الأولى في مجال البغاء في شيكاجو، ولكنه لم يعتد على القتل بعد، وبالتالي لم يحصل على كل الإثارة بعد، فقرر أن يشارك معلمه «توريو» في قتل بعض الناخبين المدنيين الذين رفضوا اختيار عمدة ولاية شيكاجو التابع لعصابتهم، بعدما رفض العمدة السابق أخذ الرشاوى مقابل صمته عن أعمالهم الإجرامية، وبعد أفعال العنف والقتل، نجح مرشحهم بنجاح، وأصبح عمدة شيكاجو واحدًا من أفراد العصابة بتجاهله لهم، وأصبح الطريق أمام «كابون» مفتوحًا لا يقف فيه أحد، ولا حتى القانون.
بعدما تعرض لمحاولة قتل فاشلة في عام 1925، قرر «توريو» اعتزال المافيا والعودة إلى بلده الأصلي إيطاليا، واختار «كابون» ليكون خليفته في رئاسة العصابة بمفرده، ووقتها تخلى «كابون» عن تعليمات أستاذه، وترك صفات المواطن الشريف، وبدأ بالصرف ببذخ، وعاش حياة الرفاهية من الدرجة الأولى.
استطاع «كابون» أن يكسب تعاطف الناس معه، فتحول من مجرم خطير إلى أسطورة يحبها الجميع، لدرجة أن لقبّه البعض بروبن هود، لأنه كان يعطي المال للفقراء، وافتتح مطعمًا وكان يعطي الطعام للمحتاجين دون مقابل، فحصل على دعم الناس وحبهم بالرغم من علمهم بأنه قاتل.
في هذا الوقت استطاع «كابون» أن يجني 100 مليون دولار سنويًّا، ومقابل هذا النجاح الكبير لعصابته، خسرت العصابة المنافسة الكثير، ولذلك قررت العصابة بقيادة زعيمها «موران» قتل «كابون» وهو يتناول الغداء في أحد المطاعم في 20 سبتمبر عام 1926، حيث وقفت 10 سيارات أمام واجهة المطعم الزجاجية، وأطلقت العشر سيارات الرشاشات والرصاص على المطعم في الوقت نفسه، فرمى «كابون» نفسه على أرضية المطعم ورمى مساعده نفسه فوقه لحمايته، واستمر ضرب الرصاص لعدة دقائق حتى تتأكد العصابة من وفاة «كابون».
تشققت الجدران من كثرة الطلقات التي اقتحمتها، وتناثر الزجاج على كل شيء، وأصيب المدنيون بإصابات خطيرة، حتى كادت امرأة أن تفقد بصرها بسبب إصابتها في عينها وهي تحمي طفلها الرضيع، ولكن دفع «كابون» الذي استطاع النجاة من الحادث مبالغ طائلة لعلاجها حتى تماثلت للشفاء.
منذ ذلك الحادث حاول «كابون» حماية نفسه وحماية عائلته بشكل أفضل، فقام بتزويد سيارته بزجاج مضاد للرصاص، ومدافع قوية وإطارات هوائية، حتى أصبحت شبه مصفّحة واستولت عليها الحكومة، وأصبحت هذه السيارة فيما بعد سيارة الرئيس الأمريكي الأسبق، فرانكلين روزفلت.
لم يكن تأمين السيارة فقط هو الشغل الشاغل لـ «كابون»، بل أيضًا قام بشراء 14 مخبأ له ولعائلته في عدة ولايات أمريكية مختلفة لكي لا يستطيع أحد تتبعه، كما كان يسافر وهو متنكر مع العديد من الحراس الشخصيين، فأصبح أمر اغتياله مرة أخرى أمرًا مستحيلًا.
«كيف أصبح أنا (آل كابون) مهددًا بهذا الشكل من (موران)؟ إنه يجعلني أبدو ضعيفًا أمام الجميع، لقد استطاع (موران) أن يهزّ عالمي، والأهم من هذا كله، جعلني أخاف على عائلتي من الموت، يجب أن أحمي عائلتي بأي ثمن، سأتخلص من هذا الخطر، سأتخلص منه تمامًا».
قرر «كابون» أن ينتقم بطريقته الخاصة، فارتكب مذبحة القديس فلانتين في فبراير عام 1929، حيث تنكر هو وعصابته في زي الشرطة، وذهبوا إلى أحد الجراجات، وباغتوا «موران» و6 من رجاله، جعلهم «كابون» يقفون صفًا أمام الجدار حتى يقوم بتنفيذ حكمه عليهم بإعدامهم، وأطلق هو ورجاله وابلًا من الرصاص على السبعة رجال بدم بارد، حيث وجدت الشرطة بعد ذلك أن عدد الطلقات التي كانت في الجثث تتراوح بين 20 و25 طلقة في الجثة الواحدة.
فقد «كابون» بعد الحادثة تأييد الناس، وتم تلقيبه بعدو الشعب الأول، وبالرغم من أن الشرطة والناس يعلمون جيدًا أن من قام بقتل هؤلاء الرجال هو «كابون» وعصابته، إلا أن الشرطة لم تستطع إثبات أي شيء ضده، فبدأت بالبحث في مستنداته المالية، واكتشف المحقق إليوت نيس تهرب «كابون» الضريبي، ووجه له الاتهام على الفور، فحاول «كابون» رشوته ولكن لم يقبل، فحاول «كابون» رشوة هيئة المحلفين، فتم تغييرها.
ضاق الخناق أخيرًا على «كابون»، وتم الحكم عليه بأحد عشر عامًا في سجن فيدرالي، ثم تم نقله إلى سجن ألكاتراز المشدد، وهو من أوائل المجرمين الذين تم سجنهم في هذا السجن، حتى لا يستطيع «كابون» التواصل مع أي شخص من حياته السابقة.
بعد قضائه 6 أعوام ونصف العام في سجن الألكاتراز، اشتد المرض على «كابون»، لأنه كان مصابًا بمرض الزهري في صغره، ولكنه يتناول أدويته بانتظام وهو في الخارج، ولكن السجن المشدد جعل فرصته في حياة الرفاهية ضعيفة، فتم نقله إلى مشفى أمراض نفسية ليقضي بها ثلاث سنوات، ثم خرج ليعود إلى منزله مرة أخرى.
«ها أنا هنا أخيرًا، مع زوجتي، حبيبتي (ماري)، وها هو ابني الحبيب ووريثي، للأسف عشت أجمل سنوات عمري داخل السجن، وعندما عدت إلى منزلي عدت مريضًا، انتهت حياتي المثيرة منذ أن وطأت قدمي السجن، انتهى كل شيء، لن أعود إلى سابق عهدي، ولن أتذوق طعم الإثارة بعد الآن».
اختفى محبوب الصحافة عن الأعين، وابتعد عن النشاط الإجرامي لشدة مرضه، وعاشت معه زوجته «ماري» أواخر أيامه، حتى توفي في هدوء جرّاء أزمة قلبية في 25 يناير عام 1947.
تناولت السينما الأوروبية حياة «كابون» في العديد من الأفلام أشهرها فيلم «The God Father»، ولكن لم تنسه السينما العربية أيضًا، فالفنان الراحل فؤاد المهندس استوحى شخصية مستر إكس التي جسدها في فيلم «أخطر رجل في العالم» من حياة «آل كابون»، فكان يرتدي «المهندس» ملابسه، ويدخن نفس سيجاره، ويقلده في حركاته ومشيته وطريقة حديثه، وقد نجحت سلسلة أفلام «أخطر رجل في العالم» ويتابعها الناس إلى وقتنا هذا، دون علم أن هذه الأفلام الكوميدية مأخوذة عن واحدة من أكثر القصص التراجيدية والدموية في تاريخ الإجرام.