لم يقف الدين أبدًا عائقًا في طريق المسلمين للعلم، سواء في الجانب النظري أو في الجانب العملي التطبيقي، إنما كان الدين بالفعل عائقًا للعلم في المجتمعات الأوربية قبل نهضتهم الحديثة، وهو الذي رسخ في أذهانهم وأذهان من تعلم على أيديهم واقتفى أثرهم من المسلمين أن الدين من المعوقات الرئيسية للعلم.

فالكنيسة الأوربية في عصور ظلامهم كانت شديدة القسوة على العلماء، وكانت تقمع كل محاولة للابتكار والاختراع والبحث في العلم؛ في سبيل أن تظل لها السيطرة الكاملة على الشعوب وقيادة الناس، وفي سبيل استمرار جباية الأموال، وفي سبيل أخذ القرارات المصيرية، بل وفي سبيل أخذ قرار الغفران من عدمه، لعبد أخطأ أو ارتكب ذنبًا!!

صراع الدين والعلم في أوروبا
من هذا المنطلق حدث صراعٌ بين الدين والعلم في أوربا، وعليه فقد شُلَّت حركة العلم في أواسط القرن السادس عشر الميلادي ولم يتوقف ذلك إلا عند بداية النهضة العلمية والثورة العلمية الأوربية، والانقلاب على الكنيسة!!

والقصص والروايات التي تصف ظلم الكنيسة الأوربية الكاثوليكية لا تكاد تنتهي، ولا يخفى على أحد محاكمات كوبرنيكس ومحاكمات جاليليو، وما حدث لأينشتاين وماكس بلانك، وغيرها الكثير.

محاكمة كوبرنيكس
لقد اكتشف كوبرنيكس عام 1543م أن الأرض تدور حول نفسها مرة كل 24 ساعة، فيحدث تبادل الليل والنهار، وتدور حول الشمس مرة كل عام، فيحدث تغير الفصول الأربعة، وأن الشمس هي مركز الكون وليس الأرض كما كان معتقدًا قبل ذلك، إلا أن هذا الكشف كان كارثة في أوربا في القرن السادس عشر الميلادي، وقد تعجبت الكنيسة لهذا الكشف حين حاكمته بميزان الحقائق الإنجيلية، إذ وجدته يتناقض مع معتقداتهم، ومع الإحساس الظاهري للبشر، ومع الجبال الساكنة في نظر النصوص المقدسة [1]!!

ولهذا قررت الكنيسة محاربة كوبرنيكس، واضطهدوه واتهموه بالكفر وطلبوه للقتل، بل وأحرقوا كتبه وأبحاثه ومنعوا تدريسها، ولم يكتشفوا صحة ما وصل إليه إلا بعد وفاته بسنوات وسنوات.

محاكمة جاليليو
أما جاليليو والذي أثبت أن كوبرنيكس كان على حق، وأن الشمس هي مركز الكون، واكتشف أيضًا أن القمر ليس جسمًا مستويًّا، فقد أمر البابا بإحضاره بالقوة رغم شيخوخته وسوء صحته، للتحقيق معه لتأييده فكرة تحرك الأرض، وحكمت الكنيسة عليه بالسجن في بيته (قيد الإقامة الجبرية) إلى أن يموت [2]!!

وكذلك أعدمت الكنيسة أيضًا برونو حرقًا في ميدان عام لدفاعه عن تحرك الأرض، وتوقعه وجود أراضين أخرى [3]!!

محاكم التفتيش ضد العلماء
وهذا غيض من فيض، والأمثلة على ذلك جد كثيرة، ولم تتوقف فقط على محاكمات كوبرنيكس وجاليليو، حتى إنهم توسعوا في تشكيل محاكم التفتيش ضد العلماء.

وقد حكمت تلك المحاكم على تسعين ألفًا وثلاثة وعشرين عالمًا بأحكام مختلفة في الفترة ما بين سنة 1481م إلى سنة 1499م، أي في غضون 18 سنة [4]، كما أصدرت قرارات تُحرِّم قراءة كتب جيوردا نويرنو، ونيوتن لقوله بقانون الجاذبية، وتأمر بحرق كتبهم، وقد أحرق بالفعل الكاردينال إكيمنيس في غرناطة 8000 كتابًا مخطوطًا لمخالفتها آراء الكنيسة [5]!!

العصور المظلمة .. القرون الوسطى
وهذا الواقع الرهيب والمظلم عاشته أوربا قرونًا طويلة، سُمِّيت بالعصور المظلمة، وتُسمى أيضًا بالقرون الوسطى، حيث استغرقت نحو ألف عام من الزمان، وقد رسَّخ هذا الواقع في أذهان العلماء والفلاسفة (أمثال ديكارت وفولتير) وعموم الناس أنه لا أمل في طلب العلم والابتكار إلا بهدم سلطان الكنيسة، وإلا بمحو الدين تمامًا من الصدور، والاتجاه إلى الإلحاد بكل ما تعنيه الكلمة من معان.

فصل الدين عن الدولة
فأعلنوا صراحة معارضتهم للكتب المقدسة كالتوراة والإنجيل؛ لاحتوائهما على ما يتعارض مع الحقائق العلمية، ولاعتقادهم بأن الدين -كما رأوا- هو اضطهاد العلم والعلماء، وهو الحجر على العقول [6].

وقد راحوا يدعون بعد ذلك إلى إعلاء العقل في مقابلة النصوص الرئيسية، وحجتهم أن العقل يستطيع إدراك الحقائق العلمية، ويستطيع التمييز بين الخير والشر.

وقد ساعدت الجمعية الوطنية الفرنسية على هذا التحرر، وذلك بإصدار قرارات سنة 1790م، كان من شأنها أن قصمت ظهر الكنيسة، حيث سرحت الرهبان والراهبات، وأجبرت رجال الكنيسة على الخضوع للدستور المدني، وأخذت تعين هي رجال الكنيسة بدلا من البابا!!

ثم جاء القانون الذي أقرته الحكومة الفرنسية عام 1905م بفصل الدين عن الدولة على أساس التفريق بينهما، وإعلان حياد الدولة تجاه الدين، كقاصمة أخرى شجعت المعارضين للكنيسة على نقد نصوص الكتاب المقدس والكنيسة بحرية، كما أجبر هذا القانون رجال الكنيسة على أن يقسموا يمين الولاء للطاعة والشعب والملك والدستور المدني الجديد.

وقد توالت القرارات بعد ذلك لتعم دول أوربا كلها، ليتقلص بذلك دور الكنيسة من محاولة السيطرة على أمور العلم والسياسة، ولتنزوي تمامًا داخل الجدران، فتمارس فقط الوعظ والترانيم [7]!!

هذا في أوربا النصرانية ..

[1] انظر ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة محمد علي أبو درة 30/273.
[2] انظر ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة محمد علي أبو درة 30/279،269.
[3] انظر ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة محمد علي أبو درة 30/300.
[4] الإمام محمد عبده: مقاومة النصرانية للعلم في التاريخ نقلاً عن كتاب البابا والإسلام للدكتور يوسف القرضاوي.
[5] الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي فصل بعنوان الكاثوليك بتصرف. شوقي أبو خليل: سقوط غرناطة ص98 بتصرف.
[6] الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، إعداد الندوة العالمية للشباب الإسلامي فصل بعنوان الكاثوليك بتصرف.
[7] المرجع السابق فصل بعنوان الكاثوليك.

د. راغب السرجاني