هاشم غرايبة
(1)
وددت سرد تطوّر هزيمتي الذاتية بشكل رائع ألق كألم الفجر: (ألمٌ دائم الوحدة بعيد مطلع الفجر). خطر لي أن أكتب عن الذي صنع السيف الدمشقي، أو عن الذي قاد سفننا إلى الأندلس، وخلصت إلى أنّ لا فائدة ترجى من البحث عن ثلاثة قطاعات للزاوية، واستدراك الدائرة، وتقويم ضلع أعوج.
لعلّ التعوّد هو مصدر البلاهة الإنسانية!
اعتدت وجود (عرار) في وجداني حتى لم نعد نلتقي إلاّ لماماً. إنّ الذي نبحث عنه طويلاً، عادةً ما يكون أقرب إلينا من أي شيء.
كُتب كَثيرٌ من الشعر عن عرار، أما أن تُكتبَ قصة عنه فهذا استثناءٌ، أو مغامرة غير محسوبة... وهل كان عرار إلاّ استثناء، ومغامرة ضد العادي والمألوف.
"مصطفى وهبي التل"..
ابن يوسف التل.
ربما تأخّر هذا الاسم طويلاً كي يقترن بشخص عرار.
حين داهمتُ الرّجل لأكتب عنه، كان مُنكبّاً على أوراقه يكتب الحلقة الخامسة من ترجمته لرباعيات الخيام التي يردّ بها على الشاعر اللبناني أمين نخلة، وينشرها في مجلة (منيرفا) البيروتية.
كان عرار واثقاً من نفسه، يكتب بيده اليسرى من اليمين إلى الشمال -لا أدري لماذا أتصوّر عراراً أعسرَ مع أنّ أحداً لم يقل عنه ذلك- ولأنّه كان يكتب بروح الفنان الشاعر، لا بأسلوب الباحث المنقّب، فلم تمنعه مداهمتي له من أن يشعر شعوراً فريداً بلطافة الجو في هذا الفجر الأيلولي ذي الذهب الأصفر والغيمات الرقيقات السارحات مبكراً قبل أن تلاحقهن شمس النهار بأشعتها الساطعة.
ثمة عصافير بدأت تزقزق موقظة رائحة الخبز في البيت، في المدينة... هل كان هناك مدينة؟
كان يسمع خرير ماء ينفلت من صنبور ما.. ربما صوت ماء يدار من إناء صغير في الزير الكبير تحت شجرة التوت الكبيرة.
شيء ما في جسد عرار الذي ينتمي لحوران كان يشكر رائحة الخبز وصوت الماء وحضوري.
أنا على قمة تل إربد سجين، وعرار على السفح رفاة.
شمال تل إربد كانت توجد بساتين الزيتون والرمّان والكرمة. على الأرض الأكثر انحداراً، جهة وادي الغفر، تتناثر مضارب النّوَر. إلى الشرق تترامى سهول بشرى وحوارة.
غمز لي بعينه اليسرى مبتسماً:
يا هبر لا (بشرى) ولا (حوّاره) يطربها عزفك بالقيثارة
إربد تستيقظ متلألئة تحت أشعة الصباح - طبقاً لإحساس عرار - الأشعة تمتد لتشمل بقية الأراضي الأردنية التي تظهر بها بساطة الأشياء وعمقها وفقرها في آن.
القلم يستعيد نشاطه فيجري على الورق، قلم الكوبياء الذي تعوّد عرار أن يسوّد به ما يكتب على أمل أن يعود لنسخه بقلم الحبر السائل الذي أهداه له الأمير، لكنّه دائماً لا يعود لتصحيح أو تنقيح أو تحبير ما كتب.
بدت جلبة الحياة قوية في صحن السجن، وضاع صوت صافرات الشرطة في ضجيج المدينة.
قلم الكوبياء يجري فوق الورقة يربط صور (الخيّام) البعيدة النائية بُعد (سمرقند)، بصور (الخِيَام) القريبة عند وادي الغفر، يربط بين سلمى الغجريّة ونُور الفارسية.
برزت طفرة قلق عكّرت صفو شاعرنا، وأعادت أثر شراب الليلة الماضية صداعاً إلى مفرقه.
نقول إنّ الرباعايات ما سبّبت له أيّة مشكلة، غير أنّ مشكلته الآن كانت من نوع لغوي. كيف يجد المفردة التي تزاوج بين وجهتي نظر: واحدة حضرية قديمة، وأخرى بدائية معاصرة.
إنّ الأردنيين لن يذكروا شيئاً أكثر جمالاً وإثارة للأشجان من أشعار عرار، التي نقلت موروثهم من لغو القرية والبادية، إلى حوار العصر. لكن المعضلة تكمن في ترجمة رباعيات الخيام الذي تفصله عنه مسافات وأزمان.
ما زاد النص الذي بين يديّ عرار تعقيداً، هو أنّه لا يتقن اللغة الإنجليزية ليقارن ترجمة (فيتزجيرالد) لرباعيات الخيام مع الترجمات الأخرى من حوله.
عندما كبر النهار، ولريبته في كلمتين اثنتين، توقف عرار عن الكتابة، ما أفاده تصفّحه لترجمة البستاني العربية، ولا أسعفته ترجمة التركيين :حسين دانش ورضا توفيق.
أطفأ السراج الذي كان يصدر رائحة كريهة لأنّ زيته شحّ، وقام ليغتسل ويتناول طعام الفطور.
بعد أذان العصر، أفاق عرار مهموماً: إنّ هاتين الكلمتين المبهمتين "الوجود والفن" كانتا قد تبرعمتا في النص الخاص بشعر الخيّام، وعليه، كان مستحيلاً حذفهما، أمسك بالقلم - عادةً ما يقال "بلا تمحيص كثير" - وحاول الكتابة فلم يفلح.أدار ما كان يسميه (غرامفون زبلن) فانطلق صوت عبد الوهاب يغني من شعر شوقي:
ليلاً منادٍ دعا ليلى فخفّ له
نشوان في جنبات الصدر عربيدُ.
كان صوت شجار في صحن السجن. أحسستُ أنّ العمل الأدبي الذي بين يديّ يسخر مني، إنّهم يتشاجرون مردّدين كلمات تبتعد عن الذوق، يحق لنا أن نصفها بأنّها الكلمات الدارجة والمألوفة ويعرفها حتى الأطفال، ولا أحد يعترف بأنّها متداولة وحيّة خاصة عندما يكتب، هذا إذا استثنينا عراراً.
أغلق عرار نافذته ليتقي الضجيج، وأوحت له لذّة الفراغ أن يتجه إلى خزانة كتبه، تناول كتاب "حمورابي قانوني" لمؤلِّفه (آورام غالانتي) ثم أعادهُ، تناول رزمة أوراق كان قد ترجمها عن التركية في كتاب "الإقرار : شذرات وخواطر في أصول المحاكمة وعلم النفس القانوني والأنثروبولوجيا". قلّب صفحاتها ببطء ثم أعادها للخزانة، عليه أن يستعد لسهرة طويلة هذا المساء، ليس مع زعيم النَّوَر (الهبر)، وليس مع الكأس والراقصات الغجريات، ولكن مع رهطٍ من الأصدقاء ليتحدّثوا عن الأردن والأردنيين:
إنّ الإنسان الذي يقترح نهاية محظورة على الآخرين مباحة له وحده، يكون مشروع سياسي فاشل أو مشروع شاعر شهيد.
تناول كتاب "تاريخ دولت عثمان". أغرته ورقة بيضاء في نهاية الكتاب، حدّق بها ملياً ثم استل قلمه الحبر وكتب بخط كبير مختصراً - دون أن ينتبه - الوجود والفن بكلمتين:
"زهور الغاب".
وضع الكتاب، تلمّس جيب صدّارته، نظر إلى الساعة، ثم استدار ببطء ونظر في مرآة غائرة بإطار خشبي كبير، لست أدري ما رأت عيناه، لكني أعرف المرآة: وجه طويلٌ أسمر، وفم مزموم، ويد تكاد تتجرّد إلاّ من العظام، وكفٌّ صغيرةٌ طويلة الأنامل.
كان أسود العينين، حادَّ النظرات، يبدو في أواسط الثلاثين من العمر، بسيط المظهر، قليل العناية بهندامه، بريئاً من التكلّف إلى أقصى حد.
لست أدري ما رأت عيناه في المرآة، لكنّه اختفى من أمامها كما لو صعقته نار بلا نور، ومعه اختفت الكتب والأوراق وقلم الحبر الذي أهداه له الأمير.
(2)
نيسان 1989 (*)/ من الشمال إلى الجنوب:
سيارة المرسيدس البيضاء ذات الضوء الأحمر والأزرق المتقلّب والزامور المميّز، أوصلتني إلى (سواقة)، طول الطريق كنت أتساءل: كيف قطع عرار كل هذه المسافة على ظهر راحلة؟!
"كانت الصفادة والقيد ما تفتآن تنهشان مرفقي وعراقيبي، فإذا ما تململت على ظهر مطيّتي سمعت لهما صريراً كعواء الذئب الخافت، أما خيالي فكان حرّاً طليقاً، بنشوة، أستطيع أن أستعيد نشيد عبد الوهاب من شعر شوقي:
ليلاً منادٍ دعا ليلى فخفّ له نشوانُ في جنبات الصدر عربيد".
عن أولئك البشر الذين أذعنوا لكل شيء كنا نبتعد.
وفجأة ينطلق صوت راعيةٍ في البادية يسرق الآذان ويبدّد الوحشة ويمتلك الروح:
يا قلب هوّن هداك اللّه مالك ونطّ النبا العالي
لقد انتشلتني عذوبة صوتها من أغوار عذابي، وماثلت بين آلامي وآمالي، وحقيقتي وخيالي، لكن المنعطف الذي تليه شجيرات (الغضا) غيّب صوتها الملائكي الذي رفعني إلى مقام كُثَيّر وجميل وغيلان وعروة وقيس،... قرّ قرار الجند - خُفَراء شقائي - أن نُنيخ ونستريح، وقالوا : نبيت هنا، كنت حاضراً في قول الرّماح:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بظلّ الغضا وفـي حمـى باسق النخل
بلاد بها نيطت علـيّ تمائمي
وقد غادرتني حين أدركنــي عقلــي.
قلت لعرار :
لا زهور ولا غاب، لا قصور عمّان ولا خرابيش النّوَر في وادي الشتا، هذه بيداؤنا منها بدأنا وإليها نعود.
بدا ساهماً واجماً يحرّك أصابع كفيه بعفوية بعد أن تخلّص من القيد، رقّةُ الجند لم تبدّد الوحشة.
ثمّة خوف من اللامتناهي الفظيع، من الفضاء ذاته، من المادة بعينها. نظر إلى السهوب المتناهية، رأى نفسه وقد صار مسنّاً.
قال:اللهم أمتني وتراب الطريق يعفّر حول قدمي. اللهم خذ بيدي قبل أن أقول لمن ألقاه حين القيام (خذ بيدي)!
"وهم الأبدية" ذاك المحرّك الضروري لنشاطات الإنسان، يخبو ويتبدّد، طبقاً لإحساس عرار تلك اللحظة.
قلت مواسياً: "قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل".
قال عرار: ما الذي جعل أسلافنا يتشبّثون بهذه الصحراء عشقاً وشعراً ومقاماً ويورثوننا هذا التصحّر المزمن؟ غير معقول أنّ إنساناً معاصراً يتدفّق أمام ناظريه نبع راحوب ومياه وادي الشتا يظلّ يبكي على رسمِ درس، ويرهق مطيّته بحثاً عن الأطلال.
قلت : "وسالت بأعناق المطي الأباطح!"..هل تنكر جمال هذه الصورة مهما نأت عنّا الإبل والبطاح؟.
قال : ما جرؤ أحدٌ قبل "زهير" أن يصف القدر بأنّه طيّب وفي ذات الوقت لا يرحم، فحينما شبّه زهيرٌ القدر بجمل أعمى، استحوذت الصورة على إعجاب الناس آنذاك، ولكن الآن عفا عليها الزمن.
صمت قليلاً شاخصاً إلى القمر في تربيعه الأول وقال : قمر (مشغرة) أجمل من قمر (وادي الغضا)، ومع ذلك يوصف بالكلمات نفسها، وتشبّه به الأشياء نفسها.
قلت بحماسة: إنّ التشبيه الذي يستطيع فردٌ واحد أن يصوغه لا بدّ أن يكون ما أتى على ذهن أحد، كمثل قولك:
وتمايلتْ فأمال (عقلي) في تثنّيه (القوام)
يا بنت يا من أمرُها لما تعاوجتِ استقام.
لا يستقيم الأمر إلاّ باعوجاج صاحب الأمر! كأنّك تقول : المرأة ضلع أعوج إذا قوّمته انفطر الـ... قلب! إنّ الضلع باعوجاجه يحنو على القلب ويحميه، فكيف نقوّمهُ ويسلم القلب؟
قال : ما تزال شاباً تأسرك لعبة الألفاظ وفلسفة التراكيب، إنّ الشاعر "ابن شرف الأندلسي" هو الوحيد الذي استطاع أن يتخيّل سقوط نجوم الفجر في بطء شديد يماثل سقوط أوراق الشجر، ومع هذا من يدري هذه الأيام من هو "ابن شرف" هذا، وما فائدة تساقط النجوم ببطء؟!
قلت مناكفاً : لو قرأ "عباس بن فرناس" هذه الصورة لمعاصره "ابن شرف" لنجا، لو تمثّل تلك الصورة عن النجوم لاستطاع الهبوط بسلام من عليائه.
فرك عرار زنديه، ثم نفخ في راحتيه منشطاً الدم في أصابعه وضحك: كلّه وهم، إنما نزجي الوقت بانتظار النهاية و..."مالك ونطّ النبا العالي".
هدلت يمامة بين أغصان الغضا، وتبدّد صوت الراعية تاركاً لليمامة النحيب.
سرح نظره بعيداً كأنّه يطردني من حضرته، داس السائق على البنزين بقوة فراحت المرسيدس البيضاء تتمايل فوق طريق لاحب،في حين لاحقني صوت عرار متلعثماً بائن اللثغة بحرف الراء.
"أحمامة الوادي بمنعـرج اللـوى نارُ الهوى فتكتْ بغيري فاسجِعــي
إنّا تقاسمنـا الغضـا فغصونــه في راحتيـكِ وتـارةً في أضلعـي"
أوقف الشرطي السيارة لأقضي حاجتي في الفلاة، عُدتُ خفيفاً وصرخت في البيداء علّ الصوت يرويني:
هـبّ الهـوا وشجـك نسيمـهُ في ضفـة الأردن ريح سمـوم!
فجاءني الصدى كأنّه الحريق أخنفَ ملثّغاً بصوت عرار:
أما عاهدتني يا قلب أني
إذا ما تُبت عن حبّ (....) تتوب.
نظرت في مرآة سيارة الشرطة فلم أر نفسي ولا البيداء ولا شجيرات الغضا، ولم يبقَ في الفضاء إلاّ لحن تلك الراعية السارحة.
يا قلب هوّن هداك اللّه
مالَك ونطّ النبا العالي.
إنّ عراراً على حق حين كتب:
"المنطوق الشعبي هو الكلام البسيط الذي يكمن في ثنايا كل جملة منه عشرات التداعيات، المشتملة على مئات الصور، التي نشعر بوجودها ونحسّ بها، فتقيمنا وتقعدنا، وتوقظ كلّ إحساس... وكلّ ما ندريه من أمرها أنّها مستترة وراء خبرتنا في الحياة".
(3)
العقبة 22/4/1921 (*)
"آب، يستمم ناب ايستمم
عشقك مبي بدربكا..
مجلّخ"..
هذا ما ينادي به (المجلّخ) الأفغاني في طرقات العقبة المتربة، وأسعدني الدهر بأن أحلّق بين الأرض والسماء مع ترنّمات المجلّخ بلغة عمر الخيّام:
ويرانه ولده زيراً يرقا لمدى قراره.
نصلُ العقبة:
أول عمل قام به بعد فك قيده وإزالة الصفادتين أن كتب مبتعداً عن الصحراء مقترباً من "زهور الغاب" -هذا الديوان الذي لم ير النور-:
"نُطلق كلمة الوجود على اللحظة الهاربة بين الماضي والمستقبل، التي نُسميها مجازاً: الحاضر.
الفن : هو كلّ صورة لا تطابق الحال، ولكنها تطير بجناحين رامية ظلّها على الواقع".
ثم كتب بخط كبير:
"زهور الغاب.
للشاعر عرار".
وبكلمات متلعثمة أنشد:
"متى
متى يا حلوة
يا حلوة النظرات والإيماء والخطر
متى أملي على الآلام والحدثان والدّهر
متى!
من لي بأنّ أدري!".
وضع القلم، شعر برغبة في النوم، أحسّ ببعض البرودة القادمة مع نسيم مياه الخليج، فكّ أزرار سترته، أخرج سيجارته وأشعلها، أشعل الورقة التي كتبها، استمتع بمشهد اللهب، أطفأ سيجارته ونام، بقي جزء من الورقة لم يحترق:
"...أول عمل سأقوم به بعد فك أسري شراء دولاب سَنّ، وامتهان صنعة (التجليخ) في مكان لا يعرفني فيه أحد، ولا يفهم لغتي فيه أحد، وأترنّم بكل جوارحي:
يا قلب هوّن هداك اللّه مالك ونطّ النبا العالي
مجلّـــــ.............خ".
(4)
شعرت وأنا في الصفحة الأخيرة من قصتي، أنّي تركت كل شيء يجري بمساره العفوي، دون حذف أو إضافة، واكتشفت أنّ قلم الكوبياء يترك أثراً هادئاً على الورق لكنه لا يمحى، ولا يحتاج إلى قلم أميري ليثبته، وأشعر أنّ ما كتبته عن (عرار) كان رمزاً لحالتي حين كتبت هذه الحكاية.
انتهت