فتحي العكرمي
جاء إلى الدّنيا مجهولا وتُرِك دون هويّة، يحيا أوجاعَه مُرتحلا في الأمكنة. شارَف على كهولة قُدَّت من حُزن سرياليّ، حين ينتقل من مكان إلى آخر يسير مُسرعا كأنّه مُطَارَد ، تمتدّ خطواته باحثة عن مُستقرّ على تُخوم رحيل لاينقطع.
يتدثَّر بألم حَفر على روحه جُرُوحا غائرة، يلفّ جسده بثياب قديمة مُمزّقة، على كتفيه ينساب شَعر مُجعّد بلون رماديّ يَرسم الذّكرى الموجعة، قدماه حافيتان بشقوق تُجمِّع ماضيه الموغل في التألّم. تكدّست على أسارير وجهه بيادر التّيه وعلى فمه أسئلة مُحاطة بالصّمت. رَسم الزّمان على جبينه وَجعا مُضمَّخا بحِنّاء التّشرّد ، وِجنتان غائرتان تقُصّان سفرا لا ينفكّ .
على تُخوم الحياة يجلس وحيدا يرجّه الانتظار مُتأمّلا في ماض افتكّ منه الفرح وألقى به إلى وجود موغل في الرِّدّة.يجيء الغسق فيتكوّم على ألمه،يهبط اللّيل حاملا معه وِحشة تطوف بروحه . أناخ بجراحه تحت سنديانة ،وضع رأسه على جذعها فأخذه النّوم ، تداخلت في حلمه الخيالات ، رأى قبيلة تشدّ الرّحيل الى موطن الماء والعُشب ، حَمّلوا الجِمالَ وساروا . لَمح جسده عاجزا عن الالتحاق بهم، تركوه وحيدا في سراب بيداء لا تحدّها العين، يلتفت فلا يجد سوى أرض خطّ عليها المِلح دوائر بيضاء.غابت القافلة عن مرمى بصره،يقبع متروكا لصحراء الوحشة ولأمواج الفَقد بلا أهل .
استيقظ وقد بلّله ندى الفجر، توجّه إلى جبل قريب باحثا عن مكان يقيه من ترانيم الوجع الذي ينتظره أينما حلّ. جلس على مشارف كهف منتظرا بزوغ الشّمس وقد هدّه الجوع والعطش، طلع النّهار مُلبّدا بسُحب داكنة تُوزّع صهيلا يزيد المكان وحشة. أخذ عَصا وبدأ يرسم خطوطا متعرّجة شبيهة بأوجاعه ثمّ أضاف إليها دوائر متداخلة، أخذ في تأمّلها ليرى فيها كونا مصنوعا من فرح مسجون داخله منذ أن ألقوه إلى الدّنيا. امتهن الحزن وتمرّس على رسوم يخطّها في كلّ مكان يتوجّه إليه يهشّ بها على آلام تغوص فيه عميقا. نهض مُتّكِئا على انكساراته وصَوَّب الى الشّقاء يركل ما تكدّس على ضُلوعه من طحالب الوجع . سلك طريقا توصله إلى المدينة، وقف مُحَاَصرا بالغربة، تجمّع حوله بعض الأطفال مُردّدين: " مجنون، مجنون " ، نظر إليهم بعينين مُحمَرّتين وأسرع مُبتعدا يجرّ جسده الهزيل.
دلف إلى مقبرة يُخيّم عليها صمت رجراج ، جمع حطبا وثيابا مُهملة وضعها على نخلة في الرّكن وجلس تحتها. بدأ المكان يبعثر صمتا داكنا وأخذت المطر في عزف غربة تحفر بداخله مسارب ألم ترجّ ضلوعه ، أضحى سمعه مُرتحلا مع صفير ريح يصنع ترنيمة تنسج طقوس التشتّت . هبط اللّيل ينثر سرابا يبلّل القبور برذاذ الوحشة ، على مقربة منه نباح كلاب يُؤنس وحدته ، تراكم حوله الضّباب فغامت عيناه وانحسرت الرّؤية ، لم يجد بقربه شيئا يرسم به خطوطه المتعرّجة ، احتضن بؤسَه ونام في فضاء يرفرف عليه صليل العبث .