صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 19
الموضوع:

تقرير شامل و مفصل : كيف بدأت الحياة على كوكب الارض - الصفحة 2

الزوار من محركات البحث: 38 المشاهدات : 1611 الردود: 18
جميع روابطنا، مشاركاتنا، صورنا متاحة للزوار دون الحاجة إلى التسجيل ، الابلاغ عن انتهاك - Report a violation
  1. #1
    من اهل الدار
    @__@
    تاريخ التسجيل: June-2015
    الدولة: Roaming
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 6,121 المواضيع: 233
    التقييم: 5267

    تقرير شامل و مفصل : كيف بدأت الحياة على كوكب الارض - الصفحة 2



    كيف بدأت الحياة؟

    على مدى القرن الماضي، حاول قلة من العلماء إكتشاف كيفية ظهور الحياة الأولى. لقد حاولوا حتى إعادة خلق لحظة التكوين في مختبراتهم.
    حتى الآن، لا أحد قد تمكن من تحقيق ذلك، ولكننا قطعنا شوطاً طويلاً. اليوم، العديد من العلماء الذين يدرسون أصل الحياة واثقون بأنهم على الطريق الصحيح – وهم يمتلكون التجارب التي تدعم ثقتهم هذه.

    هذه هي قصة سعينا لاكتشاف أصلنا. إنها قصةٌ رائعة من الهوس والنضال، والتي تشمل بعضاً من أعظم الإكتشافات العلمية الحديثة. فهي محاولة لفهم بدايات الحياة التي أرسلت الرجال والنساء إلى أبعد زوايا كوكبنا. فقد كان بعض العلماء يسعون لاكتشافها كوحوش، بينما البعض الآخر كان عليهم تأدية عملهم تحت كعب الحكومات الإستبدادية الوحشية.

    هذه هي قصة ولادة الحياة على الأرض.


    عاشت الديناصورات في الواقع منذ وقتٍ قريبٍ جداً

    الحياة قديمة، وربما تكون الديناصورات هي أكثر الكائنات المنقرضة شهرة، فقد كانت بداياتهم منذ 250 مليون سنة. لكن تاريخ بداية الحياة أكبر من ذلك بكثير.
    أقدم الحفريات المعروفة ترجع لحوالي 3.5 مليار سنة، أكبر بـ14 ضعفاً من تاريخ أقدم الديناصورات. لكن السجل الأحفوري قد يكون أقدم من ذلك. على سبيل المثال، وجد الباحثون في آب/أغسطس من عام 2016 ما يبدو وكأنه متحجرة ميكروبية يعود تاريخها لـ3.7 مليار سنة.


    هذه الأنماط المتموجة قد تكون حفرية عمرها 3.7 مليار سنة

    الأرض نفسها ليست أقدم سناً من ذلك بكثير، فقد تكوَنت منذ 4.5 مليار سنة.
    إن إفترضنا أن الحياة تكوَنت على الأرض – وهو ما يبدو معقولاً، نظراً لأننا لم نجد أي حياة أخرى حتى الآن – فلا بدّ أن تظهر في مليار سنة بين قدوم الأرض لحيّز الوجود والحفاظ على أقدم الأحافير المعروفة.
    بالإضافة الى تحديد وقت بداية الحياة، يمكننا أن نصنع تخميناً قائماً على المعرفة والخبرة حول ما كانت عليه.

    شجرة الحياة:توجد البكتيريا في معظم الفروع

    عرف علماء الأحياء منذ القرن التاسع عشر، أن جميع الكائنات الحية مصنوعة من “خلايا”: وهي أكياسٌ صغيرة من المادة الحية تأتي بمختلف الأشكال والأحجام. تم إكتشاف الخلايا لأول مرة في القرن السابع عشر، عندما تم إختراع المجاهر الحديثة الأولى، ولكن الأمر إستغرق أكثر من قرن من الزمن لكي يدرك أي احد أنها كانت أساس الحياة.
    وباستخدام المواد والظروف الموجودة على الأرض منذ 3.5 مليار سنة، يجب أن يتم صنع خلية.
    قد لا تعتقدون أنكم تشبهون سمك السلور أو الديناصور ريكس كثيراً، لكن المجهر سوف يكشف أنكم مصنوعون من أنواعٍ متشابهة جداً من الخلايا. وكذلك بالنسبة للنباتات والفطريات.
    لكن أكثر أشكال الحياة وفرةً حتى الآن هي الكائنات المجهرية، كلٌ منها يتكون من خليةٍ واحدةٍ فقط. والبكتيريا هي أكثر المجموعات شهرة، فهي موجودة في كل مكان على الأرض.
    في نيسان/أبريل من عام 2016، قدّم العلماء نسخةً محدثة من “شجرة الحياة”: وهي نوعاً ما كشجرة العائلة لكل نوع من أنواع الكائنات الحية. معظم الفروع عبارة عن بكتيريا. ما هو أكثر من ذلك، فإن شكل الشجرة يشير إلى أن البكتيريا كانت السلف المشترك لجميع أشكال الحياة. وبعبارةٍ أخرى، كل شيءٍ حي – بما فيهم أنت – منحدر في النهاية من البكتيريا.
    هذا يعني أنه يمكننا تحديد مشكلة أصل الحياة بدقةٍ أكبر. وباستخدام المواد والظروف الموجودة على الأرض منذ 3.5 مليار سنة، يجب علينا أن نصنع خلية.
    حسناً، ما مدى صعوبة هذا الأمر؟

    صورة كاملة لخلية حية


    الفصل الأول: التجارب الأولى
    ------------------------------

    لمعظم التاريخ، لم يكن من الضروري حقاً أن نسأل كيف بدأت الحياة، بسبب أن الإجابة كانت تبدو واضحة.
    كان معظم الناس قبل القرن التاسع عشر يؤمنون بـ”المذهب الحيوي” “vitalism”. وهي الفكرة البديهية التي تقول بأنه تم إعطاء الكائنات الحية ميزة سحرية خاصة جعلتهم مختلفين عن الأشياء غير الحية.
    يمكن أن تكون جميع المواد الكيميائية التي توّلد الحياة مصنوعة من مواد كيميائية بسيطة ليس لها علاقة بالحياة.
    غالباً ما كان المذهب الحيوي ملازماً للمعتقدات الدينية الغالية. يقول الكتاب المقدس إن الله إستخدم “نسمة الحياة (الروح)” لبعث الحياة في أول البشر، والروح الخالدة هي شكل من أشكال المذهب الحيوي.


    إكتشف العلماء بحلول أوائل القرن التاسع عشر العديد من المواد التي تبدو فريدةً من نوعها بالنسبة للحياة. إحدى هذه المواد كانت اليوريا، وهي موجودة في البول، وقد تم عزلها في عام 1799.
    كان هذا لا يزال متوافقاً مع المذهب الحيوي. حيث يبدو وأن الكائنات الحية وحدها هي من تستطيع صناعة هذه المواد الكيميائية، لذلك ربما تم غرسها مع طاقة الحياة، وهذا ما جعلها أمراً إستثنائياً.
    لكن، وفي عام 1828، وجد الكيميائي الألماني فريدريش فولر “Friedrich Wöhler” وسيلةً لصنع اليوريا من مادة كيميائية شائعة تدعى سيانات الأمونيوم، والتي لا تمتلك صلةً واضحة مع الكائنات الحية. تبع الآخرون خطاه، وقد إتضح بشكلٍ سريع أن المواد الكيميائية المرتبطة بالحياة يمكن أن تكون مصنوعة من مواد كيميائية بسيطة والتي لا تمتلك أي صلةٍ بالحياة.


    الكيميائي الألماني فريدريش فولر بطباعةٍ تمت بواسطة رودولف هوفمان من العام 1856.

    كانت هذه هي نهاية المذهب الحيوي كمفهومٍ علمي. لكن الناس وجدوا أنه من الصعب جداً التخلي عن هذه الفكرة. فقد قال الكثير من الناس أنه لا يوجد شيء مميز حول المواد الكيميائية المرتبطة بالحياة والتي تسلب سحر الحياة، حيث تقلل منّا لتجعلنا مجرد آلات. وهي أيضاً، بالطبع، تتناقض مع الكتاب المقدس.
    لم يكن الناس وحدهم من يسعى للتمسك بالمذهب الحيوي، بل وحتى العلماء قد ناضلوا لإسقاطه. ففي وقتٍ متأخرٍ كالعام 1913، كان الكيمحيوي (الكيميائي الحيوي) الإنجليزي بنيامين مور”Benjamin Moore” يشجع بشدة نظرية “الطاقة الحيوية”، والتي كانت هي نفسها المذهب الحيوي لكن تحت إسمٍ مختلف. لقد كانت فكرةً قوية ومسيطرة.
    اليوم، يتم التشبث بالفكرة بأماكن غير متوقعة. على سبيل المثال، هنالك العديد من قصص الخيال العلمي حيث يمكن فيها إنعاش أو إستنزاف “طاقة الحياة” لشخصٍ ما. فكِروا بـ”طاقة البعث” المستخدمة بواسطة الشخصية المسماة تايم لورد”Time Lord” في مسلسل دكتور هو “Doctor Who”، فهي من الممكن أن تصعد للقمة بإحيائها مجدداً إن كانت قديمة. يعطي هذا شعوراً بما سيحدث مستقبلاً، لكنها فكرة قديمة للغاية.
    بعد عام 1828، لازال العلماء يملكون أسباباً مشروعة للبحث عن تفسيرٍ خالٍ من الإلوهية حول كيفية تشكّل الحياة الأولى. لكنهم لم يفعلوا ذلك. يبدو وكأنه موضوع من الواضح إكتشافه، ولكن لغز أصل الحياة في الواقع تم تجاهله على مدى عقود. ربما لأن الجميع كان عاطفياً جداً من ناحية التعلق بالمذهب الحيوي لكي يتخذوا الخطوة التالية.


    أظهر تشارلز داروين أن كل أشكال الحياة قد تطورت من سلفٍ مشتركٍ بسيط.

    بدلاً من ذلك، كانت نظرية التطور تمثل التقدم الكبير والمفاجئ في البيولوجيا في القرن التاسع عشر، حيث تم تطويرها بواسطة تشارلز داروين وآخرون.
    أوضحت نظرية داروين، المبيّنة في كتاب أصل الأنواع “Origin of Species” الذي صدر في العام 1859، كيف أن التنوع الهائل للحياة يمكن أن ينشأ من سلفٍ مشتركٍ واحد، بدلاً من أن كل نوعٍ من الأنواع المختلفة قد تم خلقها بشكلٍ منفصل بواسطة الإله، فقد كان الجميع منحدراً من كائناتٍ بدائية عاشت قبل ملايين السنين: آخر سلفٍ مشتركٍ للجميع.
    أثارت هذه الفكرة الجدل بشكلٍ كبير، مرةً أخرى، لأنها تتعارض مع الكتاب المقدس. فقد كان داروين وأفكاره تحت هجومٍ شرس، لا سيما من المسيحيين الغاضبين.
    إن نظرية التطور لم تقل شيئاً عن كيفية مجيء الكائن الأول للوجود.



    تساءل داروين عما إذا كانت الحياة قد بدأت في “بركة صغيرة دافئة”

    عَلِمَ داروين أنه كان سؤالاً عويصاً، ولكن – ربما شَعَر بالقلق من بدء معركةٍ أخرى مع الكنيسة – يبدو أنه فقط ناقش المسألة في رسالةٍ كُتَبَت في عام 1871. لكن لغته المنفعلة تكشف أنه عرف معنىً عميقاً للسؤال.
    “لكن إذا (ويالها من “إذا” كبيرة) كان لنا أن نتصور بركةً صغيرةً دافئة مع كل أنواع الأمونيا والأملاح الفسفورية، -الضوء، والحرارة، والكهرباء، والكاربون المتواجد حالياً، حيث يتم تكوين مركب البروتين كيميائياً، ويكون جاهزاً للخضوع لتغيراتٍ أكثر تعقيداً…”
    بعبارةٍ اخرى، ماذا لو كان هنالك في إحدى المرات مساحةً صغيرة من الماء، مليئةً بالمركبات العضوية البسيطة التي تسبح في ضوء الشمس. يمكن لبعض هذه المركبات أن تندمج لتشكيل مادة تساهم في تكوين الحياة كالبروتين، والتي بإمكانها أن تبدأ بعد ذلك بالتطور وتصبح أكثر تعقيداً.
    لقد كانت فكرةً غير مفصّلة. لكنها من الممكن أن تصبح أساساً للفرضية الأولى لكيفية بدء الحياة.
    ظهرت هذه الفكرة من مكانٍ غير متوقع. قد تعتقدون أن هذا النموذج الجريء من التفكير الحر قد تم وضعه في بلدٍ ديمقراطي: ربما مثل الولايات المتحدة. ولكن في الواقع، تم إختراع الفرضية الأولى لأصل الحياة في بلدٍ إستبداديٍ وحشي، حيث يتم قمع التفكير الحر فيه: الإتحاد السوفيتي أو ما يعرف باتحاد الجمهوريات الإشتراكية السوفيتية (USSR).



    عاش ألكسندر أوبارين “Alexander Oparin” في الإتحاد السوفيتي

    كان كل شيءٍ في روسيا في عهد ستالين تحت سيطرة الدولة. شَمِل هذا أفكار الناس، وحتى حول المواد – مثل علم الأحياء – والتي لا تبدو أن لها صلة بالسياسة الشيوعية.
    أشهر ما قام ستالين بحظره عن الدراسة من قبل العلماء هو علم الوراثة التقليدي. وبدلاً من ذلك قام بفرض أفكار عامل مزرعة يدعى تروفيم ليسينكو “Trofim Lysenko”، والذي كان يُعتقد أنه أكثر إنسجاماً مع أيديولوجية الشيوعية. فاضطر العلماء الذين يعملون على علم الوراثة أن يدعموا أفكار ليسينكو علناً، أو المخاطرة التي تنتهي بهم في معسكر إعتقال.
    قام ألكسندر أوبارين في هذه البيئة القمعية بإنجاز أبحاثه في الكيمياء الحيوية. لقد كان قادراً على الإستمرار بالعمل لأنه كان شيوعي الولاء: لقد دعم أفكار ليسينكو، وحصل حتى على وسام لينين، وهو أعلى وسام يمكن أن يناله شخص يعيش في الإتحاد السوفيتي.
    نشر أوبارين في عام 1924 كتابه أصل الحياة “The Origin of Life”، وقد ذكر فيه تصوراً عن ولادة الحياة، والذي كان يشبه بشكلٍ مذهل بركة داروين الصغيرة والدافئة.



    تكونت المحيطات بمجرد إنخفاض درجة حرارة الأرض

    تخيل أوبارين ما كان عليه كوكب الأرض عندما كان حديث التكون. السطح كان ساخناً جداً، وقد هبطت الصخور من الفضاء على السطح واصطدمت به. لقد كان عبارة عن فوضى من الصخور المنصهرة، التي تحتوي على مجموعة كبيرة من المواد الكيميائية – من ضمنها العديد يرتكز على الكاربون.
    بردت الأرض في نهاية المطاف بما يكفي لتكثيف بخار الماء إلى ماءٍ سائل، وسقط المطر لأول مرة. قبل فترةٍ طويلة من إحتواء الأرض على المحيطات، حيث كانت ساخنة وغنية بالمواد الكيميائية المرتكزة على الكاربون. الآن هذين الشيئين من الممكن حدوثهما.
    أولاً، يمكن للمواد الكيميائية المختلفة أن تتفاعل مع بعضها البعض لتكوين الكثير من المركبات الجديدة، بعضها سيكون أكثر تعقيداً. إفترض أوبارين أن الجزيئات الرئيسية للحياة، مثل السكريات والأحماض الأمينية، من الممكن تكونهم في مياه الأرض.
    ثانياً، بدأت بعض المواد الكيميائية بتشكيل بنىً مجهرية. العديد من المواد الكيميائية لا تذوب في الماء: على سبيل المثال، يُشكّل النفط طبقةً على قمة المياه. لكن عندما تتلامس بعض هذه المواد الكيميائية مع الماء تقوم بتكوين كريات تسمى coacervates، والتي من الممكن أن تمتد لـ 0.01 سم (0.004 إنش).
    إن شاهدتم هذه الكريات تحت المجهر، ستجدون أنها تتصرف كخلايا حية. حيث أنها تنمو وتغيّر شكلها، وفي بعض الأحيان تنقسم إلى قسمين. كما يمكنها أيضاً أن تسحب المواد الكيميائية من المياه المحيطة، لذلك من الممكن أن تصبح المواد الكيميائية اللازمة للحياة مرتكزةً داخلها. إفترض أوبارين أن هذه الكريات كانت أسلاف الخلايا الحديثة.
    وبعد خمس سنوات في العام 1929، إقترح عالم الأحياء الإنجليزي جون هالدين “J. B. S. Haldane” بشكلٍ مستقل بعض الأفكار المشابهة جداً في مقالٍ قصير نُشِر في الـ Rationalist Annual.
    قام هالدين بالفعل بتقديم مساهماتٍ كبيرة لنظرية التطور، مساعداً بتكامل أفكار داروين بتنشئة علم الوراثة.
    لقد كان شخصيةً غير عادية أيضاً. ففي إحدى المرات، قال أنه تعرض لثقبٍ في طبلة الأذن وذلك بسبب بعض التجارب مع غرف خفض الضغط، ولكن فيما بعد، كتب ما يلي: “عادةً ما تُشفى الطبلة؛ وإن بقي فيها ثقباً، وعلى الرغم من أن الشخص سيصبح أصماً بعض الشيء، سيمكنه نفخ دخان التبغ من الأذن عند حاجته، وهو ما يعتبر إنجازاً إجتماعياً”.
    تماماً مثل أوبارين، أوجز هالدين كيف أن للمواد الكيميائية العضوية أن تتراكم في المياه، “[حتى] قدوم المحيطات البدائية نتيجة تماسك الحساء الخفيف الساخن”. مهّد هذا الطريق لـ”اول أو نصف الكائنات الحية” كي تتكون، وأن كلاهما يصبح محاطاً بطبقة رقيقة من النفط.



    عالِم الوراثة الإنجليزي جون هالدين

    من بين كل علماء الأحياء في العالم، كان أوبارين وهالدين هما من إفترضا ذلك. فكرة أن الكائنات الحية قد تم تكوينها بواسطة وسائل كيميائية بحتة، بدون الإله أو حتى “الروح”، كان أمراً متطرفاً. فمثل نظرية التطور قبلها، فقد تحولت لمواجهة المسيحية.
    لقد ناسب هذا الأمر الإتحاد السوفيتي. فقد كان الإتحاد السوفيتي ملحداً بشكلٍ رسمي، وكان قادته حريصين على دعم التفسيرات المادية للظواهر العميقة مثل الحياة. كان هالدين أيضاً ملحد، وكان شيوعياً مخلصاً أيضاً.
    “يقول الخبير في أصل الحياة من جامعة أوسنابروك في ألمانيا، آرمن مولكيجانيان “Armen Mulkidjanian”، “في ذلك الوقت، يعتمد قبول أو عدم قبول فكرةٍ ما على الشخصيات: سواءً كانوا متدينين أو كانوا مؤيدين لليسار أو الأفكار الشيوعية”. ويضيف، “لقد تم قبول أفكارهما بسعادة بسبب أنها لم تكن بحاجة لإله. إن نظرتم للناس الذين يفكرون بهذا الإتجاه في العالم الغربي، فستجدون أنهم كانوا جميعاً يساريين وشيوعيين وهلم جراً.”
    فكرة أن الحياة تشكلت في الحساء البدائي من المواد الكيميائية العضوية أصبح معروفاً باسم فرضية أوبارين-هالدين. كانت فرضيةً أنيقة وجذابة، ولكن كان هناك مشكلة واحدة. لم يكن هناك أي دليلٍ تجريبي يدعم هذا الأمر. وهذا لن يحدث لحوالي ربع قرن.



    هارولد يوري “Harold Urey”

    في الوقت الذي أصبح فيه هارولد يوري مهتماً بأصل الحياة، كان قد فاز بالفعل بجائزة نوبل للكيمياء لعام 1934، وساعد في بناء القنبلة النووية. عمل يوري خلال الحرب العالمية الثانية على مشروع مانهاتن، جامعاً اليورانيوم -235 غير المستقر اللازم لنواة القنبلة، بعد الحرب التي خاضها للحفاظ على التكنولوجيا النووية في السيطرة المدنية.
    لقد أصبح مهتماً أيضاً في كيمياء الفضاء الخارجي، لا سيما ما حدث عند تشكّل النظام الشمسي في البداية. لقد أعطى في يومٍ من الأيام محاضرةً أشار فيها إلى أن الأوكسجين لم يكن موجوداً عند تشكّل الغلاف الجوي للأض في بادئ الأمر. هذا من شأنه أن يعرّض الظروف المثالية للحساء البدائي لأوبارين وهالدين لنموذج قد يتم فيه تدمير المواد الكيميائية الهشة من خلال الإتصال مع الأوكسجين.
    كان طالب الدكتوراه المسمى ستانلي ميلر من ضمن الجماهير، وفيما بعد قام بسؤال يوري بالإقتراح: هل من الممكن أن يتم إختبار هذه الفكرة؟ كان يوري متشككاً، لكن ميلر تحدث معه في ذلك.
    ولذلك، بدأ ميلر في عام 1952 محاولته في التجربة الأكثر شهرة حول أصل الحياة على الإطلاق.



    تجربة ميلر-يوري

    كان إنشاء التجربة أمراً بسيط. قام ميلر بتوصيل سلسلة من قوارير الزجاج وقام بتوزيع أربع مواد كيميائية يُشتبه في أنها كانت موجودة في الأرض المبكرة: الماء المغلي والهيدروجين والأمونيا والميثان. وقد قام بإخضاع الغازات للصدمات الكهربائية بشكلٍ متكرر، لمحاكاة الصواعق التي كانت شائعة الحدوث على الأرض في ذلك الوقت.
    وجد ميلر أن “لون المياه في القارورة قد أصبح وردياً بشكلٍ ملحوظ بعد اليوم الأول، وبحلول نهاية الإسبوع كان المحلول عكراً ولونه أحمر قاتم”. فقد كان بشكلٍ واضح، عبارة عن تكوّن خليطٍ من المواد الكيميائية.
    عندما قام ميلر بتحليل الخليط وجد أنه يحتوي على إثنين من الأحماض الأمينية: الجلايسين وألانين. وتوصف الأحماض الأمينية غالباً بأنها لبنات بناء الحياة. فهي تُستخدم لتكوين البروتينات التي تتحكم بمعظم العمليات الحيوية في أجسامنا. وقد صنع ميلر إثنين من أهم مكونات الحياة، من نقطة الصفر.
    وقد تم نشر النتائح في مجلة prestigious journal Science في عام 1953. وقد قام يوري بعملٍ أناني غير معتادٍ بين كبار العلماء، فقد قام بوضع إسمه في بداية الورقة، معطياً ميلر الحقوق في الأسفل. على الرغم من هذا، عُرفِت هذه الدراسة غالباً بأنها “تجرية ميلر-يوري”.



    ستانلي ميلر في مختبره

    يقول جون ساذرلاند “John Sutherland” من مختبر الأحياء الجزيئية في كامبريدج، الولايات المتحدة، “إن قوة تجربة ميلر-يوري هي في إظهارها أنه يمكنكم الإنتقال من غلافٍ جويٍ بسيط وإنتاج الكثير من الجزيئات البيولوجية”.
    إتضح إن التفاصيل كانت خاطئة، منذ أن أظهرت الدراسات اللاحقة أن الغلاف الجوي المبكر للأرض كان مزيجاً مختلفاً من الغازات. وقد قال ساذرلاند، “لقد كانت التجربة شهيرة على نطاقٍ واسع، حيث حفزت مخيلة الجمهور ولا يزال يُستشهد بها”.
    في أعقاب تجربة ميلر، بدأ علماءٌ آخرون في إيجاد طرقٍ لصنع جزيئاتٍ بيولوجية بسيطة من الصفر. حل لغز أصل الحياة بدا قريباً.
    لكن فيما بعد، إتضح أن الحياة كانت أكثر تعقيداً من إعتقاد أي شخص. لقد إتضح أن الخلايا الحية ليست مجرد أكياس من المواد الكيميائية: لقد كانت آلات صغيرة معقدة. وبشكلٍ مفاجئ، تبيّن أن صنع أحدها من الصفر بدأ يصبح تحدياً أكبر بكثير مما كان يترقبه العلماء.



    الآليات داخل الخلايا معقدة بشكلٍ لا يصدق


    الفصل الثاني: الإنقسام الكبير
    ----------------------------

    بحلول أوائل منتصف القرن الماضي، تحرّك العلماء بعيداً عن الإفتراض طويل الأمد في أن الحياة كانت هديةً من الآلهة. وبدأوا بدلاً من ذلك باستكشاف إمكانية أن الحياة قد تكوّنت بشكلٍ تلقائي وطبيعي على الأرض المبكرة – وبفضل التجربة الشهيرة لستانلي ميلر، كان لديهم بعض الدعم العملي للفكرة. في حين أن ميلر كان يحاول صنع مواد الحياة من الصفر، كان علماء آخرون يكتشفون مما كانت الجينات مصنوعة.
    في وقتنا هذا، أصبح العديد من الجزيئات الحيوية معروفاً. تشمل هذه الجزيئات السكريات والدهون والبروتينات – والأحماض النووية مثل “الحمض النووي الريبوزي منقصوص الأوكسجين”، ويعرف إختصاراً بالـDNA.

    اليوم، نحن نعتبر أن حمل الحمض النووي DNA لجيناتنا أمراً مسلماً به، ولكن هذا في الحقيقة جاء بمثابة الصدمة لكل علماء الأحياء في منتصف القرن الماضي. إن البروتينات أكثر تعقيداً، لذلك ظنّ العلماء أنها جينات.
    تلك الفكرة قد تم دحضها في العام 1952 بواسطة ألفريد هيرشي “Alfred Hershey” ومارثا تشايس ”Martha Chase” من معهد كارنيجي في واشنطن. فقد قاموا بدراسة الفيروسات البسيطة التي تحتوي فقط على الحمض النووي DNA والبروتينات، والتي يجب أن تصيب البكتيريا حتى تتكاثر. وجد الباحثون أن الحمض النووي الفيروسي هو الذي دخل البكتيريا: بقيت البروتينات بالخارج. واتضح أن الحمض النووي DNA هو المادة الوراثية.

    تسببت نتائج هيرشي وتشايس ببدء سباقٍ محموم لإكتشاف بُنية الحمض النووي DNA، وبالتالي معرفة كيفية عمله. في العام التالي، تم حل المشكلة بواسطة فرانسيس كريك “Francis Crick” وجايمس واتسون ”James Watson“ من جامعة كامبريدج، المملكة المتحدة – مع الكثير من الشكر في المساعدة من زميلتهم روزاليند فرانكلين ”Rosalind Franklin”.
    كان إكتشافهم من أعظم الإكتشافات العلمية في القرن العشرين. فقد قام أيضاً بإعادة رسم خريطة البحث عن أصل الحياة، من خلال الكشف عن تعقيد شيءٍ لا يصدق أنه كان مخفياً داخل الخلايا الحية.


    جايمس واتسون وفرانسيس كريك مع نموذج الحمض النووي DNA الخاص بهم

    أدرك كريك وواتسون أن الحمض النووي DNA عبارة عن حلزونٍ مزدوج، مثل السلّم الذي تم ثنيه بشكلٍ حلزوني. قطبيّ السلّم مبنيّان من جزيئاتٍ تسمى النيوكليوتيدات.
    لقد فسّر الهيكل كيفية نسخ الخلايا للـDNA الخاص بها. بعبارةٍ أخرى، لقد كشف عن كيفية نسخ الآباء لجيناتهم وتمريرها لأطفالهم.
    إن النقطة الأساسية هي أنه يمكن للحلزون المزدوج أن “يُفتح”. هذا يكشف عن الشفرة الوراثية – وهي تتكون من سلسلة من الأساسات الوراثية A وT وC وG – والتي عادةٍ ما تكون محبوسة داخل “درجات” سلّم الـDNA. يتم إستخدام كل خيط بعدها كقالب لخلق نسخة من الأخرى.
    باستخدام هذه الآلية، يتم تمرير الجينات من الوالدين إلى الأطفال منذ بداية الحياة. فجيناتكم تأتي في نهاية المطاف من أسلافٍ بكتيرية – وعند كل خطوة يتم نسخهم باستخدام الآلية التي تم إكتشافها بواسطة كريك وواتسون.
    قام كريك وواتسون بعرض نتائجهم في في عام 1953 في ورقة بحثية في مجلة نايتشر “Nature”. في السنوات القليلة اللاحقة، تسابق علماء الكيمياء الحيوية لمعرفة ما يحمله الحمض النووي DNA من معلومات بالضبط، وكيفية إستخدام هذه المعلومات في الخلايا الحية. لقد بدأ الكشف عن أعمق أسرار الحياة للمرة الأولى.

    لقد تبيّن أن لدى الحمض النووي DNA عمل واحد فقط. فهو يقوم بإخبار خلاياكم كيفية صناعة البروتينات: جزيئات تؤدي مجموعة من المهام الأساسية. بدون البروتينات لن يمكنكم هضم طعامكم، وستتوقف قلوبكم، ولن تستطيعوا التنفس.
    ولكن، إتضح أن عملية إستخدام الـDNA لصنع البروتينات معقد إلى حدٍ مذهل. كانت هذه مشكلة كبيرة لأي أحدٍ يحاول تفسير أصل الحياة لأنه من الصعب تصور كيفية نشوء شيءٍ معقدٍ جداً.

    كل بروتين هو في الأساس سلسلة طويلة من الأحماض الأمينية، وهي ممتدة معاً في ترتيبٍ معين. يحدد تسلسل الأحماض الأمينية الشكل ثلاثي الأبعاد للبروتين، ولهذا هي تبدو بهذا الشكل.
    يتم ترميز تلك المعلومات في تسلسل قواعد الـDNA. لذلك عندما تحتاج خلية لصنع بروتين معين، فإنها تقوم بقراءة الجين ذي الصلة في الـDNA للحصول على سلسلة من الأحماض الأمينية.
    ولكن هناك حيلة. الـDNA ثمين، لذلك تفضّل الخلايا الإحتفاظ به بعيداً بشكلٍ آمن. لهذا السبب، تقوم الخلايا بنسخ المعلومات من الـDNA فوق جزيئاتٍ قصيرة من مادة أخرى تدعى RNA (الحمض النووي الريبي). إن كان الـDNA عبارة عن كتابٍ مكتبيّ، فإن الـRNA سيكون قصاصة ورقية مع مفتاح مرور مدون عليها. إن الـRNA مشابه للـDNA، فيما عدا أنه لا يملك سوى حلقةٍ واحدة.
    أخيراً، إن عملية تحويل المعلومات في خيط الـRNA إلى بروتين تتم في جزيءٍ معقدٍ جداً يدعى “الريبوسوم”.
    هذه العملية مستمرة في داخل كل خلية حية، حتى في أبسط البكتيريا. إنها ضرورية للحياة كالأكل والتنفس. أي تفسير لأصل الحياة يجب أن يُظهر كيفية مجيء هذا الثالوث المعقد – DNA وRNA وبروتين الريبوسوم – إلى الوجود وكيف بدأوا العمل.



    يمكن أن تكون الخلايا معقدة جداً

    فجأة، بدت أفكار أوبارين وهالدين بسيطة وساذجة، في حين أن تجربة ميلر، والتي لم تنتج سوى عددٍ قليل من الأحماض الأمينية المستخدمة في بناء البروتينات، بدت هاوية. بعيداً عن أخذنا أكثر من طريقة لخلق الحياة، كانت دراسته عبارة عن بذرة وضّحت الخطوات الأولى على طريقٍ طويل.
    كان اول شخص يواجه هذا حقاً هو الكيميائي البريطاني ليزلي اورغل “Leslie Orgel”. لقد كان من أوائل الذين رأوا نموذج كريك وواتسون عن الحمض النووي DNA، وكان سيساعد ناسا لاحقاً في برنامج فايكينغ “Viking”، وهو برنامج إرسال الروبوتات المخصصة للهبوط على المريخ.
    وضع أورغل تبسيطاً للمشكلة. في العام 1968، كتب أورغل وبدعمٍ من كريك، إقتراحاً في أن الحياة الأولى لم تكن تمتلك البروتينات أو الـDNA. بدلاً من ذلك، كانت مصنوعة كلها تقريباً من الحمض النووي الريبي RNA. من أجل أن يحصل هذا، يجب أن تكون جزيئات الحمض النووي الريبي RNA البدائية هذه متعددة الإستعمالات لأشياء محددة. أحد هذه الأشياء هو أنه من المفترض أن تكون هذه الجزيئات قادرة على بناء نسخة من نفسها، ويُفترض أن تستخدم نفس آلية قاعدة الإقتران كالحمض النووي DNA.
    كانت فكرة أن الحياة بدأت مع الـRNA ستثبت تأثيراً هائلاً. لكنها أثارت أيضاً نزاعات علمية إستمرت حتى يومنا هذا.



    يُعتبر الحمض النووي DNA جوهر كل شيءٍ حي تقريباً

    عن طريق الإقتراح أن الحياة بدأت مع الـRNA وأشياء أخرى، إقترح أورغل أن الجانب الحاسم من الحياة – أي قادر على إعادة إنتاج نفسه – ظهر قبل كل الجوانب الأخرى. بمعنى، أنه لم يكن يشير فقط إلى كيفية تكوّن الحياة: لقد كان يقول شيئاً حول ماهية الحياة.
    يتفق العديد من علماء الأحياء مع فكرة أورغل “صفة التكرار أتت أول شيء”. إن القابلية على إنتاج الذرية في نظرية التطور لداروين، تعد أمراً أساسياً: السبيل الوحيد للكائن كي “يفوز” هو أن يترك ورائه الكثير من الأطفال.
    لكن توجد خواص أخرى للحياة تبدو ضرورية على حدٍ سواء. الأكثر وضوحاً منها هي التمثيل الغذائي: القابلية على إستخراج الطاقة من محيطك وإستخدامها لإبقاء نفسك حياً. بالنسبة للكثير من علماء الأحياء، يجب أن يكون التمثيل الغذائي هو السمة المميزة لتعريف الحياة، ثم تظهر بعدها سمة التكرار.
    لذلك، إنقسم العلماء الذين يدرسون أصل الحياة من ستينات القرن الماضي فصاعداً إلى عدة مجموعات.
    يقول ساذرلاند، “كان الإنقسام بين هل كان التمثيل الغذائي هو من أتى أولاً أم الجينات”.
    في الوقت نفسه، أصرّت مجموعةٌ ثالثة على أن أول شيءٍ قد ظهر كان حاويةً للجزيئات الأساسية، للحفاظ عليها من الضياع. يقول ساذرلاند، “يجب أن تأتي الحاوية أولاً، لأنه لا توجد هناك فائدة من التمثيل الغذائي إلا إن كان داخل شيءٍ مغلق”. بعبارةٍ أخرى، تحتاج إلى أن تكون خلية – كما أكد كل من أوبارين وهالدين قبل عدة عقود – محاطة ربما بغشاءٍ من الدهون البسيطة والببتيدات.
    حصلت كل الأفكار الثلاثة على أتباع، وبقيت حية حتى يومنا هذا. لقد أصبح العلماء ملتزمين بحماس بأفكارهم الأليفة، ففي بعض الأحيان يلتزمون بها بشكلٍ أعمى أيضاً.
    نتيجةً لذلك، كانت الجلسات العلمية حول أصل الحياة منقسمة في كثيرٍ من الأحيان. كان العلماء من إحدى المجموعات يخبرون الصحفيين الذين يغطون هذه الجلسات أن الأفكار الخارجة من المجموعات الأخرى هي إما غبية أو سيئة بشكلٍ مستمر.
    وبفضل أورغل، فكرة أن الحياة بدأت مع الحمض النووي الريبي RNA والجينات تم طرحها مبكراً. ثم أتت ثمانينيات القرن الماضي، وبدأت في الإكتشاف الذي بدا أنه يؤكدها إلى حدٍ كبير.


    يمكن أن يكون الـRNA هو المفتاح لبداية الحياة


    الفصل الثالث : البحث عن التضاعف (التناسخ) الأول
    ----------------------------------------------------

    بعد ستينيات القرن الماضي، إنقسم العلماء خلال سعيهم في فهم أصول الحياة إلى ثلاث مجموعات. كان بعضهم مقتنع بأن الحياة بدأت مع تكوين النسخ البدائية من الخلايا البيولوجية. بينما رأى آخرون أن الخطوة الرئيسية الأولى كانت نظام التمثيل الغذائي، وركز آخرون على أمنية الوراثة والتضاعف. بدأت المجموعة الأخيرة بمحاولة معرفة كيف يبدو الشيء الذي تضاعف أولاً – مع التركيز على فكرة أنه مصنوع من الـRNA.
    في وقتٍ مبكر من ستينات القرن الماضي، كان العلماء يملكون سبباً للإعتقاد بأن الـRNA هو مصدر الحياة.
    خصوصاً وأنه يمكن للـRNA أن يفعل شيئاً لا يمكن للـDNA فعله. إنه مكّون من جزيء من خيطٍ مفرد، لذلك وعلى عكس الـDNA صعب التغيير من ناحية الشكل بسبب إزدواجية الخيط، يمكنه طي (ثني) نفسه لعدة أشكال مختلفة.

    خاصية الطي الشبيهة بالأوريغامي التي يمتلكها الـRNA بدت مشابهة إلى حدٍ ما بطريقة تصرف البروتينات. البروتينات هي أيضاً في الأساس عبارة عن خيوطٍ طويلة – مصنوعة من الأحماض الأمينية بدلاً من النيوكليوتيدات – وهذا يسمح لها ببناء هياكل معقدة.
    هذا هو مفتاح القدرة المدهشة للبروتينات. بعضها يمكن له أن يسرّع أو “يحفّز” التفاعلات الكيميائية، وتُعرف هذه البروتينات بالإنزيمات.
    يمكنكم العثور على العديد من الإنزيمات في أحشائكم، حيث يقومون بتكسير الجزيئات المعقدة من طعامكم إلى جزيئاتٍ بسيطة مثل السكريات التي يمكن لخلاياكم أن تستخدمها. أنتم لا تستطيعون العيش من دون الإنزيمات.

    كان ليزلي أورغل وفرانسيس كريك شكاكين. إن كان يمكن للحمض النووي الريبي RNA أن ينثني مثل البروتين، فربما يمكنه أن يكوّن الإنزيمات. إن كان ذلك صحيحاً، فقد يكون الـRNA هو الجزيء الأولي الأكثر إستخداماً، فهو يخزّن المعلومات كما يخزنها الـDNA ويقوم بتحفيز التفاعلات الكيميائية كما تفعل بعض البروتينات.
    لقد كانت فكرةً بارعة، لكن لن يكون هناك أي دليل عليها لأكثر من عقدٍ من الزمان.


    توماس تشيك في عام 2007

    ولِد توماس تشيك ونشأ في ولاية آيوا. عندما كان طفلاً، كان مفتوناً بالصخور والمعادن. وعندما كان في الثانوية كان يزور الجامعة المحلية ويطرق أبواب الجيولوجيين، طالباً أن يرى نماذج من الهياكل المعدنية.
    ولكن المطاف إنتهى به ليصبح عالم أحياء كيميائية، مما جعله يركّز على الـRNA.
    في وقت مبكر من ثمانينيات القرن الماضي، درس تشيك وزملاؤه في جامعة كولورادو بولدر “Colorado Boulder” كائناً وحيد الخلية يدعى Tetrahymena thermophila. جزءٌ من الآلية الخلوية لهذا الكائن عبارة عن خيوط من الـRNA. وجد تشيك أن مقطعاً معيناً من الـRNA ينفصل أحياناً عن البقية، كما لو أن شيئاً قد قام بقطعه بمقص.

    عندما قام الفريق بإزالة كل الإنزيمات والجزيئات الأخرى التي ربما تعمل عمل المقص الجزيئي، واصل الـRNA القيام بذلك. فاكتشفوا أول إنزيم للـRNA: وهو قطعة صغيرة من الـRNA قادرة على قطع نفسها من الخيط الكبير التي كانت جزءاً منه.
    تم نشر النتائج من قِبل تشيك في العام 1982. في السنة التالية، وجدت مجموعة أخرى إنزيماً ثانياً للـRNA – أو “ريبوزيم” (إنزيم الحمض النووي الريبوزي) “ribozyme”، كما تمت تسميته.
    كان العثور على إثنين من الإنزيمات الخاصة بالـRNA في تتابعٍ سريع إشارة على أن هنالك الكثير منها. تبدو الآن فكرة أن الحياة قد بدأت مع الـRNA فكرةً واعدة.

    سيكون والتر جيلبرت “Walter Gilbert” من جامعة هارفارد في كامبريدج، من سيُعطي الفكرة إسماً. وهو عالمٌ فيزيائي أصبح مفتوناً بعلم الأحياء الجزيئية، ويُعد أيضاً واحداً من أوائل المدافعين عن فك سلاسل الجينوم البشري.
    إفترض جيلبرت في مقالٍ نُشِر في مجلة نايتشر في عام 1986، أن الحياة بدأت في “عالم الـRNA”.
    قال جيلبرت أن المرحلة الأولى من التطور تألفت من “جزيئات الـRNA التي تؤدي الأنشطة التحفيزية اللازمة لتجميع أنفسها من حساء النيوكليوتيدات”. عن طريق قطع ولصق أجزاء مختلفة من الـRNA معاً، يمكن لجزيئات الـRNA أن تخلق التسلسل الأكثر فائدة على الإطلاق. فقد وجدوا في نهاية المطاف طريقةً لصنع البروتينات وإنزيماتها، والتي أثبتت جدواها بحيث أنها حلّت محل إصدارات الـRNA وأدت إلى بزوغ الحياة كما نعرفها اليوم.

    عالم الـRNA هو وسيلةٌ أنيقة لصنع الحياة المعقدة من الصفر. بدلاً من الإضطرار إلى الإعتماد على تكوّن العشرات من الجزيئات البيولوجية من الحساء البدائي في وقتٍ واحد.
    ففي عام 2000، تم إهداء فرضية عالم الـRNA قطعةً مثيرة من الأدلة المؤيدة.


    يقوم الريبوسوم بصنع البروتينات

    أمضى توماس ستايتز ”Thomas Steitz“ ثلاثين عاماً في دراسة هياكل الجزيئات في الخلايا الحية. لقد خاض في تسعينيات القرن الماضي أكبر تحدٍ له: وهو إكتشاف هيكل الريبوسوم.
    تمتلك كل خلية حية ريبوسوماً. هذا الجزيء الضخم يقرأ التعليمات من الـRNA ويربط الأحماض الأمينية معاً لصنع البروتينات. تقوم الريبوسومات في خلاياكم ببناء معظم الجسم.
    كان معروفا عن الريبوسوم أنه يحتوي الـRNA. ولكن في عام 2000، أنتج فريق ستايتز صورةً مفصّلة عن بنية الريبوسوم، والتي أظهرت أن الـRNA هو الجوهر المحفز للريبوسوم.
    كان لهذا أهميةً بالغة، بسبب كون الريبوسوم أمراً أساسياً بالنسبة لحياة الإنسان، حتى في القِدم. حقيقة إستناد هذه الآلة الأساسية على الـRNA جعلت عالم الـRNA حتى أكثر قبولاً.
    كان أنصار عالم الـRNA منتشين بهذا الإكتشاف، وكان ستايتز سيستلم في عام 2009 حصةً من جائزة نوبل. ولكن ومنذ ذلك الحين، بدأت الشكوك تتسلل مرةً أخرى.
    كانت هناك مشكلتين منذ البداية مع فكرة عالم الـRNA. هل يمكن للـRNA حقاً أن يؤدي جميع وظائف الحياة في حد ذاته؟ وهل يمكن أنه قد تكوّن في الأرض المبكرة؟
    لقد مضى 30 عاماً منذ أن توقف جيلبرت عن التقدم في فكرة عالم الـRNA، ونحن ما نزال لا نملك أدلةً قاطعة في أن الـRNA يمكنه أن يفعل كل هذه الأشياء التي تعتمد عليها النظرية. إنه جزيء صغير بارع، ولكنه قد لا يكون بارعاً كفاية.
    مهمةٌ واحدة بقيت بارزة. إن كانت الحياة قد بدأت مع جزيء الـRNA، فإنه يجب عليه أن يكون قادراً على إنتاج نسخ من نفسه: أي ينبغي أن يكون قابلاً للتضاعف الذاتي.

    ولكن لا توجد خاصية للـRNA تبين أن بإمكانه مضاعفة نفسه. ولا حتى للـDNA. فهو يأخذ مجموعة من الإنزيمات والجزيئات الأخرى لبناء نسخة طبق الأصل من قطعة من الـRNA أو الـDNA.
    ولذلك، بدأ بعض علماء الأحياء في أواخر الثمانينات في السعي الوهمي إلى حدٍ ما. ألا وهو إعتزامهم صنع RNA قابلاً للتضاعف الذاتي لأنفسهم.


    جاك زوستاك “Jack Szostak”

    كان جاك زوستاك من كلية الطب بجامعة هارفارد واحداً من الأوائل الذين شاركوا. عندما كان طفلاً كان مفتوناً بالكيمياء بحيث أنه كان لديه مختبر في قبو منزله. مع تجاهلٍ مبهر حول سلامته، فقد تسبب ذات مرة بانفجار تضمن أنبوباً زجاجياً نحو السقف.
    في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، ساعد زوستاك في إظهار كيف يمكن حماية جيناتنا لأنفسها ضد عملية الشيخوخة. هذا البحث المبكر كان سيحصل على حصة من جائزة نوبل في نهاية المطاف.
    لكن زوستاك سرعان ما أصبح مفتوناً بإنزيمات تشيك الخاصة بالـRNA. وقال، “إعتقدت أن هذا العمل كان فقط رائعاً حقاً،” وأضاف، “من حيث المبدأ، قد يكون هناك إمكانية للـRNA ليُحفز التضاعف الذاتي الخاص له”.
    وجد تشيك في عام 1988 إنزيم الـRNA الذي يستطيع بناء جزيء RNA قصير بطول حوالي 10 نيوكليوتيدات. إنطلق زوستاك إلى تحسين هذا الإكتشاف بتطوير إنزيمات RNA جديدة في المختبر. خلق فريقه مجموعة من التسلسلات العشوائية وقاموا بإختبارها لرؤية أي منها قد يُظهر نشاطاً تحفيزياً. ثم يأخذون تلك التسلسلات الأخرى، يعدلونها، ثم يختبرونها مرةً أخرى.
    بعد 10 جولات من هذه العملية، أنتج زوستاك إنزيم RNA الذي يقوم بعمل تفاعل أسرع بسبع ملايين مرة من الطبيعي. لقد أظهروا أن إنزيمات الـRNA يمكن أن تكون قويةً جداً. ولكن إنزيمهم لا يستطيع مضاعفة نفسه، ولا حتى قريباً من ذلك. لقد إصطدم زوستاك بالحائط.


    قد لا يكون الـRNA بمستوى مهمة بدء الحياة

    أتى التقدم الكبير المقبل في عام 2001 من طالب زوستاك، ديفيد بارتل “David Bartel” من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في كامبريدج. صنع بارتل إنزيم RNA يدعى R18 ويمكنه أن يضيف نيوكليوتيدات جديدة لخيط الـRNA، مستنداً على قالب موجود. بعبارةٍ أخرى، فهو لم يكن مجرد إضافة للنيوكليوتيدات بصورةٍ عشوائية: لقد كان ينسخ السلسلة بشكل صحيح.
    كان هذا لا يزال ليس بناسخٍ ذاتي (أي لا يمكنه مضاعفة نفسه – المترجم)، ولكنه كان يتجه نحو ذلك. تألف R18 من سلسلة من 189 نيوكليوتيدة، وكان بإمكانه أن يضيف 11 نيوكليوتيدة بشكلٍ موثوق إلى الخيط: 6% من طوله الخاص. كان الأمل أن بضعة تعديلات ستسمح له بصنع خيط بطول 189 نيوكليوتيدة – كطوله الأصلي.
    جاءت أفضل محاولة في عام 2011 من فيليب هوليغر”Philipp Holliger” من مختبر البيولوجيا الجزيئية في كامبريدج، المملكة المتحدة. فقد قام فريقه بخلق إنزيم R18 معدّل تمت تسميته باسم tC19Z، والذي قام بنسخ تسلسلاتٍ لما يصل لطول 95 نيوكليوتيدة. يُمثّل هذا نسبة 48% من طوله الأصلي: أكثر من إنزيم R18، ولكنه ليس المطلوب، ألا وهو إنزيم ناسخ بنسبة 100%.
    لقد تم وضع نهجٍ بديل تم تقديمه من قِبل جيرالد جويس “Gerald Joyce” و ترايسي لينكولن “Tracey Lincoln” من معهد سكريبس للأبحاث “Scripps Research Institute” في لاهويا “La Jolla”، كاليفورنيا. قاموا في عام 2009 بخلق إنزيم RNA يضاعف نفسه بصورةٍ غير مباشرة.

    يضم إنزيمهم قطعتين صغيرتين من الـRNA لإنشاء إنزيمٍ ثاني. ثم يقوم هذا بضم قطعتين أخريين من الـRNA لإنشاء الإنزيم الأصلي. هذه الدورة البسيطة يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، معطيةً المواد الأساسية. لكن الإنزيمات لا تعمل إلا إذا تم إعطاءها خيط الـRNA الصحيح، والذي كان يجب على جويس ولينكولن صناعته.


    كيف يمكن لجزيئات الحياة أن تتكون في مكانٍ كهذا؟

    بالنسبة للكثير من العلماء المشككين حول عالم الـRNA، كان الإفتقار للتضاعف الذاتي للـRNA مشكلةً قاتلة مع هذه الفكرة. لا يبدو أن الـRNA قادر على بداية وظيفة الحياة.
    تم إضعاف القضية أيضاً عند فشل الكيميائيين بصنع الـRNA من الصفر. يبدو أنه جزيء بسيط مقارنةً بالـDNA، ولكن الـRNA أثبت أن من الصعوبة صنعه.
    كانت المشكلة في السكر والقاعدة اللذان يكونان كل نيوكليوتيدة. من الممكن صناعة كل منهما بشكلٍ منفرد، ولكن الإثنان يرفضان أن يتم ربطهما معاً. كانت هذه المشكلة واضحة بالفعل في أوائل تسعينيات القرن الماضي. فقد تركت العديد من علماء الأحياء باشتباهٍ مزعج في أن فرضية عالم الـRNA، وفي حين أنها كانت بارعة، إلا أنها لم تكن صحيحة تماماً.
    بدلاً من ذلك، ربما كان هناك نوع آخر من الجزيئات في الأرض المبكرة. شيءٌ أبسط من الـRNA، الذي يمكنه تجميع نفسه من الحساء البدائي والبدء بالتضاعف الذاتي. قد يكون أتى أولاً، ومن ثم أدى إلى الـRNA والـDNA، ومن ثم البقية.


    ربما يكون الـDNA قد صارع لكي يتكوّن على الأرض المبكرة

    في عام 1991، أتى بيتر نيلسن “Peter Nielsen” من جامعة كوبنهاغن في الدنمارك مع مرشحٍ للمضاعفة الذاتية.
    كان في الأساس نسخةً معدلة بشكلٍ كبير من الـDNA. أبقى نيلسن القواعد نفسها – A وT وC وG الموجودين أصلاً في الـDNA – ولكنه جعل الأساس في صنع الجزيئات بما يدعى بالبوليميدات “polyamides” بدلاً من جزيئات السكر الموجودة في الـDNA. وقام بتسميته جزيء الحمض النووي الببتيدي أو PNA إختصاراً. وقد أصبح منذ ذلك الحين معروفا بتسمية الحمض النووي الببتيدي.
    ولكن لم يُعثر على الـPNA أبداً في الطبيعة. لكنه يتصرف مثل الـDNA بشكلٍ كبير. يمكن لخيط الـPNA حتى أخذ محل أحد خيوط جزيء الـDNA، مع قواعد مكملة مقترنة كالطبيعية. ما هو أكثر من ذلك، يمكن للـPNA أن يلتف ليصبح حلزوناً مزدوج، مثل الـDNA تماماً.
    كان ستانلي ميلر مفتوناً. ومع الشك الشديد بعالم الـRNA، فقد شك في أن الـPNA كان مرشحاً أكثر قبولاً للمواد الجينية الأولى.
    في عام 2000، قام بإنتاج أدلة قاطعة. بحلول ذلك الوقت كان عمره يناهز الـ70 عاماً، وقد عانى في البداية فقط من سلسلة مدمرة من السكتات الدماغية التي من شانها أن تتركه في النهاية محصوراً في دارٍ للرعاية، لكن هذا لم يحدث أبداً. فقد كرر تجربته الكلاسيكة، التي ناقشناها في الفصل الأول، ولكن هذه المرة إستخدم الميثان والنيتروجين والأمونيا والماء – وحصل على البوليميد الأساسي للـPNA.
    وهذا يشير إلى أن الـPNA، وعلى عكس الـRNA، قد يكون تكوّن بسهولة على الأرض المبكرة.


    جزيء الحمض النووي الثريوزي (TNA)

    أتى الكميائيين الآخرين بأحماض نووبة بديلة خاصة بهم.
    في عام 2000، صنع ألبرت إيشينموزر “Albert Eschenmoser” الحمض النووي الثريوزي (TNA). وهو الـDNA في الأساس، ولكن مع جزيء سكر مختلف في أساسه. يمكن لخيوط الـTNA أن تقترن لتكوين حلزونٍ مزدوج، ويمكن للمعلومات أن يتم نسخها ذهاباً وإياباً بين الـRNA والـTNA.

    ما هو أكثر من ذلك، يمكن للـTNA أن ينثني إلى أشكالٍ معقدة، ويمكنه حتى الإنثناء بشكل البروتين. يشير هذا إلى إمكانية أن يكون الـTNA بمثابة الإنزيم، تماماً مثل الـRNA.
    وبشكلٍ مشابه، في عام 2005، صنع إريك ميغرز “Eric Meggers” الحمض النووي الغلايكولي، والذي يمكنه تكوين هياكل حلزونية أيضاً.
    كل حمضٍ نووي من هذه الأحماض النووية يمتلك أنصاره ومؤيديه: ويكون عادةً المؤيد هو الشخص الذي صنعه. ولكن لا يوجد أي أثرٍ لهم في الطبيعة، لذلك، إن قامت الحياة الأولى باستخدامهم، فيجب في مرحلةٍ ما أن تتخلى عنهم تماماً لصالح الـRNA والـDNA. قد يكون هذا صحيحاً، ولكن لا توجد أي أدلةٍ عليهم.
    كل هذا، وبحلول منتصف العشرية الأولى من الألفية، يعني أن أنصار عالم الـRNA في مأزق.
    من ناحية، وجود إنزيمات الـRNA وضمها واحداً من أكثر الأجزاء أهمية في الآليات البيولوجية، ألا وهو الريبوسوم. كان أمراً جيداً.
    ولكن لم يتم العثور على خاصية التضاعف الذاتي للـRNA، ولم يستطع أحد معرفة كيفية تكون الـRNA في الحساء البدائي. قد تحل الأحماض النووية البديلة هذه المشكلة، ولكن لم يجد أحد أي دليل على وجودهم في الطبيعة. كان هذا أمراً ليس جيداً.
    كان الإستنتاج الواضح أن عالم الـRNA، وبالرغم من أناقته، إلا أنه لا يمكن أن يكون الحقيقة الكاملة.
    في الوقت نفسه، كانت هناك نظرية منافسة تنمو بثباتٍ وقوة منذ ثمانينات القرن الماضي. يحاجج مؤيدوها بأن الحياة لم تبدأ مع الـRNA أو الـDNA أو أي مادةٍ جينيةٍ أخرى. بدلاً من ذلك، فهي بدأت كآلية لتسخير الطاقة.


    تحتاج الحياة للطاقة لكي تبقى حية


    الفصل الرابع: الطاقة من البروتونات
    -----------------------------------


    لقد رأينا في الفصل الثاني كيف إنقسم العلماء إلى ثلاث مدارس فكرية حول كيفية بدء الحياة. كانت إحدى المجموعات مقتنعة بأن الحياة بدأت مع جزيء الـRNA، لكنها كافحت للعمل على كيفية تكوَن الـRNA أو جزيئات مشابهة بشكلٍ عفوي على الأرض المبكرة ومن ثم صنع نسخٍ عن نفسها. كانت جهودهم مثيرة في البداية، لكنها كانت محبطة في النهاية. مع ذلك، فحتى عند تقدم هذا البحث، كان هناك باحثين في أصل الحياة متأكدين من شعورهم حول كيفية بدء الحياة بطريقةٍ مختلفةٍ تماماً.

    تستند نظرية عالم الـRNA على فكرةٍ بسيطة: أهم شيء يفعله الكائن الحي هو القيام بإعادة إنتاج نفسه. يتفق العديد من علماء الأحياء مع ذلك. من البكتيريا إلى الحيتان الزرقاء، كل الكائنات الحية تسعى لامتلاك ذرية.
    مع ذلك، لا يعتقد العديد من الباحثين في أصل الحياة أن إعادة الإنتاج أمر أساسي حقاً. ويقولون، قبل أن يتمكن الكائن من إعادة إنتاج نفسه، يجب أن يكون مكتفياّ ذاتياً. يجب أن يبقي نفسه حياً. على كل حال، لن تستطيعوا إمتلاك الأطفال إن متم في البداية.
    نحن نبقي أنفسنا أحياء عن طريق تناول الطعام، في حين أن النباتات الخضراء تفعل ذلك عن طريق إستخراج الطاقة من أشعة الشمس. قد لا تعتقدون أن الشخص الذي يلتهم شريحة لحم يشبه شجرة البلوط كثيراً، ولكن عندما يكملها، سيكون كلاهما قد حصل على الطاقة.
    تدعى هذه العملية بالتمثيل الغذائي (الإستقلاب أوالأيض). أولاً، يجب عليكم الحصول على الطاقة؛ لنَقُل، من المواد الكيميائية الغنية بالطاقة مثل السكريات. ثم يجب عليكم إستخدام هذه الطاقة لبناء أشياءٍ مفيدة مثل الخلايا.
    عملية تسخير الطاقة ضرورية جداً، ويعتقد العديد من الباحثين أنه يجب أن تكون أول شيء فعلته الحياة على الإطلاق.


    المياه البركانية ساخنة وغنية بالمواد الكيميائية

    كيف قد تبدو هذه الكائنات التي تستعمل التمثيل الغذائي فقط؟ تم وضع أحد أكثر الإقتراحات تأثيراً في أواخر ثمانينيات القرن الماضي بواسطة غانتر واتشترشاوزر “Günter Wächtershäuser”. لم يكن واتشترشاوزر عالماً بدوامٍ كامل، وإنما كان محامٍ متخصص في براءات الإختراع مع إمتلاكه خلفية في الكيمياء.
    إقترح واتشترشاوزر أن الكائنات الحية الأولى كانت “مختلفة جذرياً عن أي شيء آخر نعرفه”. فهي لم تكن مصنوعة من الخلايا. ولم تكن تملك إنزيمات، DNA أو RNA.
    بدلاً من ذلك، تصور واتشترشاوزر تدفقاً لمجرى مياهٍ ساخنة من بركان. كانت المياه غنية بالغازات البركانية مثل الأمونيا وآثارٍ محفوظة لمعادن من قلب البركان.
    حيث تدفقت المياه على الصخور، وبدأت التفاعلات الكيميائية بالحدوث. وبشكلٍ خاص، ساعدت المعادن من المياه بدمج مركبات عضوية بسيطة إلى مركباتٍ أكبر.
    كانت نقطة التحول هي نشأة أول دورة تمثيلٍ غذائي. وهي عملية يتم تحويل مادة كيميائية واحدة إلى عدة سلاسل من المواد الأخرى، حتى يتم إعادة خلق المادة الكيميائية الأصلية مرةً أخرى. في هذه العملية، يكون النظام بأكمله قد حصل على الطاقة، والتي يُمكن أن تُستخدم لإعادة بدء الدورة – ولبدء فعل أشياءٍ أخرى.
    جاءت كل الأشياء الأخرى التي صنعت الكائنات الحية – مثل الـDNA والخلايا والأدمغة – في وقتٍ لاحق، مستندةً على ظهر هذه الدورات الكيمائية.

    لا تبدو هذه الدورات الأيضية (دورات التمثيل الغذائي) مثل الحياة كثيراً. حيث دعا واتشترشاوزر إكتشافاته باسم “سلف الكائنات الحية” وكتب أنها “بالكاد يمكن تسميتها بأنها حية”.
    لكن الدورات الأيضية التي تشبه الدورات التي وصفها واتشترشاوزر هي جوهر كل شيءٍ حي. تُعد خلاياكم في الأساس محطات معالجة للمواد الكيميائية المجهرية، وتقوم بتحويل مادة كيميائية إلى أخرى باستمرار. قد لا تبدو الدورات الأيضية كأنها تشبه الحياة لكنها أمرٌ أساسي لبقائها.
    خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، طوّر واتشترشاوزر نظريته بقدرٍ كبير من التفاصيل. فقد أوجز أي معدن من المعادن مصنوع لأفضل الأسطح وأي دورة كيميائية قد تأخذ مكاناً. لقد بدأت أفكاره بجذب المناصرين.
    لكنها كانت لا تزال أشياء نظرية. إحتاج واتشترشاوزر إلى إكتشاف عالمٍ حقيقي يدعم أفكاره. ولحسن الحظ، كان قد تمت صناعته – قبل ذلك بعقد (عشر سنوات).


    فتحاتٌ في المحيط الهادئ

    في عام 1977، غاص فريق بقيادة جاك كورليس “Jack Corliss” من جامعة ولاية أوريغونOregon State” University” بعمق 1.5 ميل (2.5 كم) في شرقي المحيط الهادئ. وقد قاموا بمسح نقط جزر غالاباغوس الساخنة، حيث الحافات المرتفعة من الصخور تظهر من قاع البحر. كانوا يعلمون أن هذه الحافات كانت فيما مضى نشاطاً بركانياً.
    وجد كورليس أن هذه الحافات مملوءة بالحفر، وتوجد بشكلٍ خاص في الينابيع الساخنة. كانت المياه الساخنة الغنية بالمواد الكيميائية تعلو من أسفل قاع البحر ويتم ضخها من خلال الثقوب في الصخور.

    والأمر المثير للدهشة هو أن هذه “الفتحات الحرارية المائية” مكتظة بسكانٍ من الحيوانات الغريبة. لقد كان هنالك رخويات ضخمة وحيوانات بلح البحر وديدان إنبوبية. لقد كانت المياه مليئة أيضاً بالبكتيريا. عاشت كل هذه الكائنات الحية على الطاقة من الفتحات الحرارية المائية.
    كان إكتشاف الفتحات الحرارية المائية هو من صنع إسم كورليس. كما أن هذا الإكتشاف جعله يفكر. إقترح في عام 1981 أن هذه الفتحات نفسها وجِدت على الأرض قبل 4 مليارات سنة، وقد كانت موقع أصل الحياة. كان كورليس سيمضي معظم حياته المهنية الباقية في العمل على هذه الفكرة.


    تدعم الفتحات الحرارية المائية الكائنات الغريبة

    إقترح كورليس أن هذه الفتحات الحرارية المائية يمكن لها أن تخلق خليطاً من المواد الكيميائية. وقال، كل فتحة، كانت نوعاً ما كمزودٍ (موزع) للحساء البدائي.

    عندما تدفقت المياه الساخنة خلال الصخور، أدّت الحرارة والضغط إلى دمج مركبات عضوية بسيطة إلى مركباتٍ أعقد مثل الأحماض الأمينية والنيوكليوتيدات وجزيئات السكر. لقد بدأوا قرب حدود المحيط، حيث لم تكن المياه ساخنةً جداً، بالإرتباط إلى سلاسل – مكوّنين الكاربوهيدرات والبروتينات والنيوكليوتيدات مثل الـDNA. بعدها، وكلما إقتربت المياه من المحيط بردت أكثر، كانت هذه الجزيئات لا تزال تتجمع إلى خلايا بسيطة.
    كانت فرضيةً أنيقة، وقد قامت بجذب إنتباه الناس. لكن ستانلي ميلر، الذي ناقشنا تجربته المؤثرة عن أصل الحياة في الفصل الأول، لم يكن مقتنعاً. في مقالٍ في عام 1988، كان يرى أن الفتحات كانت ساخنة جداً.
    في حين أن الحرارة الشديدة تؤدي إلى تكوين المواد الكيميائية مثل الأحماض الأمينية، إقترحت تجارب ميلر أنها من شأنها أن تدمرها أيضاً. إن المركبات الرئيسية مثل جزيئات السكر “ستنجو… لثوانٍ على الأكثر”. الأكثر من ذلك، فإنه من غير المرجح إرتباط هذه الجزيئات البسيطة في سلاسل، بسبب أن المياه المحيطة ستقوم بكسر السلاسل على الفور تقريباً.


    الجيولوجي والباحث في أصل الحياة مايكل راسل ”Michael Russell”

    في هذه المرحلة، صعد الجيولوجي مايك راسل إلى النزاع. إعتقد راسل أن نظرية الفتحات يمكن أن تعمل بعد كل شيء. الأكثر من ذلك، أن الفتحات بدت له البيت المثالي لكائنات واتشترشاوزر (أسلاف الكائنات الحية). هذا الإلهام من شأنه أن يؤدي به إلى خلق واحدة من أكثر النظريات قبولاً عن أصل الحياة.

    أمضى راسل حياته المبكرة بطرقٍ مختلفة، من صناعة الأسبرين وإكتشاف المعادن الثمينة وتسجيل ردات الفعل – في واقعةٍ ملفتةٍ للنظر في ستينيات القرن الماضي – لبركانٍ محتمل الإنفجار، على الرغم من عدم تدربه على هذا الأمر. لكن إهتمامه الحقيقي كان في كيفية تغير سطح الأرض على مدى العصور. لقد شكّلت هذه الناحية الجيولوجية أفكاره عن أصل الحياة.
    عُثِر في ثمانينيات القرن الماضي على أدلة أحفورية لنوع أقل حدةً من فتحات المياه الحارة، حيث كانت الحرارة أقل من 150 درجة سيليزية. قال راسل، من شأن هذا الإعتدال في درجة الحرارة أن يسمح لجزيئات الحياة أن تبقى حية أكثر بكثير مما ستعيش في إفتراض ميلر.
    ما هو أكثر من ذلك، فإن الأحافير من هذه الفتحات الأبرد لا تزال تملك شيئاً غريباً. وهو معدنٌ غريب يدعى البايرايت، وهو مصنوع من الحديد والكبريت، وقد تكوّن في أنابيب تمتد لحوالي 1 ملم.


    نتوءٌ من معدن البايرايت – أو حديد البايرايت

    في هذا الوقت، كان واتشترشاوزر قد بدأ بنشر أفكاره، والتي كانت تعتمد على دفقات المياه الساخنة الغنية بالمواد الكيميائية فوق المعادن. فقد إقترح حتى أن معدن البايرايت كان ضمن الأمر.
    لذلك قام راسل وإستناداً لما سمعه وشاهده، باقتراح أن الفتحات الحرارية المائية في أعماق البحار، فاترة بما فيه الكفاية لتكوين هياكل البايرايت، وقد قامت هذه الهياكل باستضافة كائنات واتشترشاوزر. إن كان راسل على حق، فإن الحياة بدأت في قاع البحر – وقد ظهر التمثيل الغذائي أولاً.
    قام راسل بوضع كل هذا في ورقةٍ نُشِرت في عام 1993، بعد 40 عاماً من تجربة ميلر الكلاسيكية. لكنه لم يحصل على نفس التغطية الإعلامية المثيرة، بالرغم من أنه يمكن القول بأنها أكثر أهمية. فقد قام راسل بالدمج بين فكرتين تبدوان منفصلتين – الدورات الأيضية لواتشترشاوزر والفتحات الحرارية المائية لكورليس – إلى شيءٍ مقنعٍ حقاً.
    ولجعل الورقة أكثر تأثيراً، عرض راسل أيضاً تفسيراً لكيفية حصول الكائنات الحية الأولى على الطاقة. بعبارةٍ أخرى، لقد إكتشف كيفية عمل دوراتهم الأيضية. إعتمدت فكرته على عمل أحد العباقرة المنسيين في العلم الحديث.


    سيفوز بيتر ميتشل “Peter Mitchell” بجائزة نوبل عن بحثه

    في ستينيات القرن الماضي، مرض الكيميائي الحيوي بيتر ميتشل وقد كان مضطراً إلى الإستقالة من جامعة إدنبرة. ولكنه بدلاً من ذلك، أنشأ مختبراً خاصاً في منزلٍ كبيرٍ وبعيد في كورنوال. وبمعزلٍ عن المجتمع العلمي، تم تمويل عمله جزئياً عن طريق قطيعٍ من الأبقار المنتجة للحليب. العديد من علماء الكيمياء الحيوية، بما فيهم، في البداية، ليزلي أورغل، الذي ناقشنا عمله على الـRNA في الفصل الثاني، إعتقدوا أن أفكاره سخيفة تماماً.
    بعد أقل من عقدين من الزمن، حقق ميتشل المجد الأكبر: جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1978. لم يكن إسمه مألوفاً أبداً، لكن أفكاره كانت في كل كتب الأحياء.
    أمضى ميتشل حياته المهنية يكتشف ما الذي تفعله الكائنات الحية مع الطاقة التي تحصل عليها من الطعام. في الواقع، كان يسأل كيف يمكننا جميعاً البقاء على قيد الحياة بين لحظةٍ وأخرى.

    عَلِمَ ميتشل أن كل الخلايا تقوم بتخزين الطاقة في نفس الجزيء: الأدينوسين ثلاثي الفوسفات (ATP). هذه القطعة الحاسمة كانت سلسلة من ثلاث مجموعات فوسفات، ترتكز على الأدينوسين. يتطلب إضافة مجموعة الفوسفات الثالثة الكثير من الطاقة، حيث يتم حبسها بعد ذلك في الـATP.
    عندما تحتاج الخلية للطاقة – فرضاً، إن إحتاجت العضلة لأن تتقلص – فإنها تكسر المجموعة الثالثة من الفوسفات عن الـATP. هذا يحوّلها إلى ثنائي فوسفات الأدينوسين (ADP) ويحرر الطاقة المخزونة.
    أراد ميتشل في بادئ الأمر معرفة كيف يمكن للخلايا أن تصنع الـATP. كيف أنها تقوم بتركيز طاقة كافية للـADP، لكي يتم إرفاق مجموعة الفوسفات الثالثة؟
    عَلِمَ ميتشل أن الإنزيمات التي تصنع الـATP تستقر على غشاء. لذلك إقترح أن الخلية تقوم بضخ جسيمات مشحونة تدعى بالبروتونات عبر الغشاء، بحيث أنه كانت هناك الكثير من البروتونات في جانب، وبالكاد توجد في الجانب الآخر.
    تقوم البروتونات بعدها بمحاولة التدفق مرةً أخرى عبر الغشاء لتحقيق التوازن بأعدادها على كل جانب – لكن المكان الوحيد الذي يمكن أن أن تمر عبره كان الإنزيم. يمر دفق البروتونات معطياً الإنزيمات الطاقة اللازمة لصنع الـATP.
    عرض ميتشل هذه الفكرة لأول مرة في عام 1961. وقضى الـ15 عاماً المقبلة في الدفاع عنها ضد جميع القادمين، حتى أصبح الدليل قاطعاً. نحن نعلم الآن أن عملية التعريف التي قام بها ميتشل قد تم إستخدامها من قِبَل كل شيءٍ حيٍ على الأرض. فهي ما يحصل داخل خلايا الجسم في الوقت الحالي. كالـDNA مثلاً، والذي هو ضروري للحياة كما نعرفها.

    إن النقطة الأساسية التي إلتقطها راسل في تحلل بروتون ميتشل: هو أنه يملك الكثير من البروتونات على جانبٍ واحد من الغشاء، وعدد قليل في الجهة الأخرى. كل الخلايا تحتاج لإنحدار البروتون لتخزّن الطاقة.
    تخلق الخلايا الحديثة الإنحدار عن طريق ضخ البروتونات عبر الغشاء، لكن هذا ينطوي على الآلاتٍ جزيئية معقدة لا يمكن أن تكون قد قفزت مباشرةً إلى الوجود. لذلك، قام راسل باستنتاجٍ منطقيٍ آخر: وهو أن الحياة يجب أن تكون قد تكونت في مكانٍ ما مع إنحدارٍ طبيعي للبروتون.
    في مكانٍ ما، مثل فوهات المياه الحارّة. لكن يجب أن تكون نوع معين من الفوهات. عندما كانت الأرض فتيّة كانت البحار حمضية، والمياه الحمضية تملك الكثير من البروتونات التي تسبح في داخلها. ولخلق إنحدارٍ بروتوني، يجب أن تكون المياه من الفتحة منخفضة البروتونات: أي يجب أن تكون قلوية.
    إن فتحات كورليس لن تنفع. ليس فقط لأنها كانت حارةً جداً، لكن لكونها حمضية. ولكن في عام 2000، إكتشفت ديبورا كيلي “Deborah Kelley” من جامعة واشنطن أول الفتحات القلوية.


    جزء من المدينة المفقودة “Lost City” وهي منطقة حرارية مائية في المحيط الأطلسي

    كان على كيلي المكافحة فقط لتصبح عالمة. توفي والدها وهي على وشك إنهاء المدرسة الثانوية، وكانت مضطرة للعمل لساعاتٍ طويلة لإعالة نفسها خلال الكلية.
    إلا أنها نجحت، وأصبحت مفتونة بكلٍ من البراكين تحت سطح البحر والفتحات الحرارية المائية شديدة الحرارة. أدى هذا التوأم المعشوق بها في نهاية المطاف إلى منتصف المحيط الأطلسي. كانت قشرة الأرض هناك يتم سحب أجزاء منها وترتفع قمم الجبال من قاع البحر.
    على هذه القمم، وجدت كيلي حقل فتحاتٍ حرارية مائية أطلقت عليه تسمية Lost City. فهي ليست مثل تلك التي وجدها كورليس. المياه تتدفق منها بحوالي فقط 40-75 درجة سيليزية، وهي معتدلة القلوية. وقد تجمعت معادن الكربونات من هذه المياه نحو “المداخن” البيضاء شديدة الإنحدار التي ترتفع من قاع البحر كآلة الأرغن الموسيقية ذات الأنابيب. مظهرها مخيف ويشبه الأشباح، ولكن هذه العبارة مضللة: فهي موطن لمجتمعاتٍ كثيفة من الكائنات الحية الدقيقة التي تعيش على مياه الفتحات.
    كانت هذه الفتحات القلوية مكاناً مثالياً لأفكار راسل. فقد أصبح مقتنعاً بأن فتحاتٍ مثل فتحات المدينة المفقودة كانت المكان حيث بدأت الحياة.
    لكن كان لديه مشكلة. لكونه جيولوجياً، لم يعرف بما فيه الكفاية عن الخلايا البيولوجية لجعل نظريته مقنعة حقاً.


    الفتحات الحرارية المائية المسماة بالمدخن الأسود “Black smoker”

    لذلك تعاون راسل مع عالِم الأحياء ويليام مارتن “William Martin”، وهو أمريكي مشاكس قضى معظم حياته المهنية في ألمانيا. في عام 2003 وضع الزوج نسخةً محسّنة من أفكار راسل المبكرة. يمكن القول أنها القصة الأكثر تفصيلاً عن كيفية بدء الحياة.
    وبفضل كيلي، فهم يعرفون الآن أن الصخور من الفتحات القلوية كانت مسامية: كانت تحتوي جيوباً صغيرة مملوءة بالمياه. إقترحوا أن هذه الجيوب الصغيرة، كانت بمثابة “الخلايا”. كل جيب كان يحتوي على مواد كيميائية أساسية، بما في ذلك المعادن مثل البايرايت. جنباً إلى جنب مع إنحدار البروتون الطبيعي من الفتحات، وقد كان المكان المثالي لبدء عملية التمثيل الغذائي.
    يقول كلٌ من راسل ومارتن، حينما إستخدمت الحياة الطاقة الكيميائية من مياه الفتحات، بدأت بصنع الجزيئات مثل الـRNA. وخلقت في نهاية المطاف غشائها الخاص بها وأصبحت خليةً حقيقية، ومن ثم أفلتت من الصخور المسامية إلى المياه المفتوحة (المكشوفة).
    تعتبر هذه القصة الآن واحدة من الفرضيات الرائدة في تفسير أصل الحياة.


    هروب الخلايا من الفوهات الحرارية المائية

    وجدت هذه الفرضية دعماً قوياً في تموز/يوليو من عام 2016، حين نشر مارتن دراسة تعيد بناء بعض الخصائص عن “آخر سلفٍ مشتركٍ للجميع” “last universal common ancestor” لوكا (LUCA). وهو الكائن الحي الذي عاش منذ مليارات السنين فيما مضى وانحدرت منه جميع أشكال الحياة.
    ربما لم نجد أدلةً أحفورية مباشرة عن لوكا، ولكن لا يزال بوسعنا صنع تخمينٍ عقلاني عن الكيفية التي كان يبدو بها وكيفية تصرفه من خلال النظر للكائنات الحية الدقيقة التي ما زالت على قيد الحياة اليوم. وهذا ما فعله مارتن.
    لقد قام مارتن بفحص الـDNA لـ 1930 كائن حي دقيق حديث، وحدد 355 جين كان جميعهم يمتلكونه. يمكن القول أن هذا يعد دليلاً على أن جميع الـ355 جين قد تم إمرارهم من جيلٍ لآخر، بما أن تلك الميكروبات البالغ عددها 1930 ميكروب تشترك في سلفٍ مشترك – تقريباً في الوقت الذي كان لوكا حياً فيه.
    على الرغم من هذا، قال أنصار عالم الـRNA أن نظرية الفوهات تمتلك مشكلتين. يحتمل أن تكون أحدهما يتم قولها دائماً، لكن الأخرى قد تكون قاتلة.


    تعتبر الفتحات الحرارية المائية موطناً للكانئات الغريبة مثل هذه السرطانات متفاوتة الذيل “anomuran crabs”

    كانت المشكلة الأولى أنه لا يوجد هناك أي دليلٍ تجريبي للعمليات التي وصفها راسل ومارتن. لقد كان لديهم قصة مفصّلة، ولكن لم يتم رؤية أي من هذه الخطوات في المختبر.

    يقول الخبير في أصل الحياة مولكيجانيان “Mulkidjanian”، “إن الناس الذين يعتقدون أن التضاعف كان أولاً، إستمروا بتوفير بياناتٍ جديدة”، وأضاف، “بينما كان الذين يعتقدون أن التمثيل الغذائي كان في البداية لم يستمروا بتوفير البيانات”.
    يمكن تغيير هذا، وذلك بفضل نيك لين “Nick Lane” زميل مارتن من جامعة لندن. فقد قام ببناء “مفاعل أصل الحياة”، والذي سيقوم بمحاكاة الظروف داخل فوهاتٍ قلوية. لقد كان يأمل في ملاحظة دورات التمثيل الغذائي، وربما جزيئات مثل الـRNA أيضاً.
    أما المشكلة الثانية كانت في موقع الفتحات في أعماق البحار. وكما أشار ميلر في عام 1988، أنه لايمكن لجزيئات السلاسل الطويلة مثل الـRNA والبروتينات ان تتكون في الماء بدون الإنزيمات التي تساعدها.
    بالنسبة للكثير من الباحثين، كانت هذه حجة قاضية. يقول مولكيجانيان، “إن كنت تملك خلفية في الكيمياء، لن يمكنك شراء فكرة فتحات أعماق البحر، لأنك تعلم أن كيمياء كل هذه الجزيئات غير متوافق مع الماء”.
    على الرغم من هذا، بقي راسل وحلفائه متفائلين.
    لكن في العقد الماضي، تقدمت طريقة ثالثة إلى المقدمة، وذلك بفضل سلسلةٍ من التجارب غير العادية. كان هذا يعد بشيءٍ لم يصل إليه لا عالم الـRNA ولا الفتحات الحرارية المائية: وهي طريقة لصنع خليةٍ كاملة من الصفر.



    يمكن القول أنه وبدون الخلايا لن تكون هناك حياة
    ---------------------------------------------------------------------------------------------

    المصادر :
    http://onlinelibrary.wiley.com/doi/1...E6FC88C.f02t02
    https://www.ncbi.nlm.nih.gov/books/NBK26876/
    https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/16829200
    http://www.iflscience.com/environmen...e-earth-start/
    http://www.bbc.com/earth/story/20161...on-earth-began
    http://www.livescience.com/1804-grea...ise-earth.html
    http://www.sciencemag.org/news/2015/...life-conundrum
    Iraqi Translation Project

  2. #2
    مدير المنتدى
    تاريخ التسجيل: January-2010
    الدولة: جهنم
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 84,945 المواضيع: 10,515
    صوتيات: 15 سوالف عراقية: 13
    التقييم: 87253
    مزاجي: متفائلة
    المهنة: Sin trabajo
    أكلتي المفضلة: pizza
    موبايلي: M12
    آخر نشاط: منذ ساعة واحدة
    مقالات المدونة: 18
    تقرير مذهل ..عاشت ايدك عيناي

  3. #3
    من اهل الدار
    @__@
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة Suzana مشاهدة المشاركة
    تقرير مذهل ..عاشت ايدك عيناي
    تسلمين وردة .. ممتن للتقييم

    ايضا نسيت اذكر انه كل صورة اذا تضغطين عليها تدزج لرابط مصدر المقالة حتى تعرفون المصدر لان هن اكثر من مقالة ..

  4. #4
    저는 여자가 황소자리예요..
    zindagi gulzar hai
    تاريخ التسجيل: July-2014
    الدولة: في اليسار..!
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 14,533 المواضيع: 155
    صوتيات: 24 سوالف عراقية: 0
    التقييم: 18844
    مزاجي: لم يعتق بعد..
    المهنة: خلق الأجنحة ..
    أكلتي المفضلة: لا شيء محدد..!
    آخر نشاط: منذ 3 أسابيع
    مقالات المدونة: 5
    ..


    من الجميل .. أن نتفنن في ما نفعل .. ونقرأ جيدا ..

    مجهود مبارك

  5. #5
    مدير المنتدى
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة Hunter مشاهدة المشاركة
    تسلمين وردة .. ممتن للتقييم

    ايضا نسيت اذكر انه كل صورة اذا تضغطين عليها تدزج لرابط مصدر المقالة حتى تعرفون المصدر لان هن اكثر من مقالة ..
    نعم لاحظت ذلك ..سلمت رائع فعلا

  6. #6
    مـبچيهہمـ آبن آلمـلحهہ
    تاريخ التسجيل: November-2016
    الدولة: البصرة الحبيبة❤
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 2,619 المواضيع: 23
    صوتيات: 6 سوالف عراقية: 0
    التقييم: 1192
    مزاجي: مبتسم
    أكلتي المفضلة: كلشي اكل
    الاتصال: إرسال رسالة عبر AIM إلى kian al-basrawii
    تعبت واني اقرة
    شكرا جزيلا لك

  7. #7
    من اهل الدار
    @__@
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نورانيّة مشاهدة المشاركة
    ..


    من الجميل .. أن نتفنن في ما نفعل .. ونقرأ جيدا ..

    مجهود مبارك
    شكرا جزيلا
    تشرفت بحضورك
    ممتن للتقييم

  8. #8
    من اهل الدار
    @__@
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة Suzana مشاهدة المشاركة
    نعم لاحظت ذلك ..سلمت رائع فعلا
    تسلمين
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة كيان البصراوي مشاهدة المشاركة
    تعبت واني اقرة
    شكرا جزيلا لك
    شكرا لحضورك

  9. #9
    صديق جديد
    تاريخ التسجيل: April-2014
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 0 المواضيع: 2
    صوتيات: 8 سوالف عراقية: 0
    التقييم: 8215
    آخر نشاط: 19/November/2017
    هانت يرادلي 42 يوم حتى اكمل التقرير اذا كل يوم قريت فص منه
    احسبها و تأكد

    احلى شي .. نفس الفكرة مال عام بس هالمرة اوسع و احلى

    اني اصوت لك عود

  10. #10
    من المشرفين القدامى
    تاريخ التسجيل: November-2016
    الدولة: العراق _ بغداد
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 386 المواضيع: 12
    صوتيات: 5 سوالف عراقية: 0
    التقييم: 881
    آخر نشاط: 9/February/2018
    يعني هذا الموضوع يستهويني جدا واستمتعت بكل مقطع لان بالفعل المعلومات مهمه ورائعه وموضوع اصل الحياة والتحول الفريد من chemistry الى biology وتكوين اول self replicated molecule , طبعا هنا ما احجي عن الـ DNA لان هو يعتبر شي معقد بالنسبة لذيج الفترة لان ممكن يحتاج ملايين السنين للوصول الى تعقيد كـ شريط DNA, لكن فكرة البساطه في اول خلية قادره على الانقسام والوقت الي ما يقارب 3 مليار سنه واللي يعتبر وقت كافي ان الـ natural selection حتا يطينا كل هذا التنوع بالحياة بالفعل جداا مهم , وصف رائع قليل بالنسبة لـ موضوع ومعلومات بهذا الحجم .

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال