TODAY - July 21, 2010
البصرة عمتنا النخلة
البصرة مدينة الله الأولى لإنسانه الأول، هي جنة عدن التي استوطنها آدم وزوجه، فهي أول بيت، وأول أسرة. وحيث نزغ الشيطان بينهما، كان أول "خلاف عائلي" على وجه الأرض، بدأ "آدم" بعده، يعزو كل ما يحل به من مصيبة "لحوائه". لتبدأ البشرية مشوار المعرفة والخطيئة، والندم. في البصرة قتل الأخُ أخاه، ومن أهلها حمل حفيد آدمَ نوحٌ ثلة من الصالحين، بسفينة حملت الكون كله، بحمائمه وغربانه، لتبدأ الأرض بداية جديدة لما بعد الطوفان. وحيث يبحر السندباد مجدداً من سواحلها، يحاول إبراهيم أن يعيد جنة عدن إلى تلك الأرض، لكن قابيل آخر كان بانتظاره. وهكذا كان، رحلة إبراهيمية تشبه رحلة ﮔلـﮕامش وصديقه أنكيدو إلى غابة الأرز، لتحرير الأرض من "خمبابا"، وبحثاً عن عشبة الجنة ـ الخلود، لكن إبراهيم لم يعد، .. وورّث حلمه لبنيه، كي يعودوا من بعده إلى موطنهم الأول عند الفرات، إلى أور ـ إلى هور البصرة، فحمله عليٌّ وجاء ممتطياً صهودة جواده.
حاول كثيرون أن يدركوا سر هذه الأرض، سر الشجرة ـ الخلود، جاءها أحد المصريين مهرولاً، باحثاً عن نهر الحياة، حيث الشجرة نفسها هي الحياة، الشجرة التي يعني موتها موت الحياة، الشجرة هي شقيقة جدنا آدم، ووصانا الله بآدمنا ـ بوالدينا، أقرب منا له، ووصانا بالشجرة ـ عمتنا، "أكرموا عمتكم النخلة". الشجرة الخضراء ـ الطاقة الخضراء التي لا ندرك سرها، .. خاطب "اخضرارها" من لا يطيق حمل سره: "هل أتبعك ... على أن تعلمني مما عُلّمت رشدا". لكنه وإن عبر النهر بذلك "البلم" العشاري، لم يستطع عبور الموت ـ إلى الحياة. عجز الآخرون عن إدراك المحليّ البصري، عن إدراك سر البصرة التي تفردت عن غيرها من البلدان، "فعابدها أعبد الناس، وزاهدها أزهد الناس، ومتصدقها أعظم الناس صدقة، وتاجرها أعظم الناس تجارة".
كانت البصرة، مع تعدد تسمياتها من سومر إلى "أوروك" فالعراق، إلى طريدون فالأبلة، بلدة ينبض أهلها بالحياة، حيث تلتقي فيها الأنهر وتتفرع، كما تلتقي فيها الحضارات وتتطور. ولكثر ما يدهشني في هذه البصرة ـ التي تستلزم معرفتها البصر ـ أنني كلما استعملت الهاتف النقال، وحيث العالم الآن من أقصاه إلى أقصاه يستخدم "الأثير" ليتواصل عبره، أتذكر أن أبناء البصرة "إخوان الصفا" كانوا عرفوا تلك المادة وكتبوا عنها منذ عهد بعيد. ويدهشني وأنا أطالع صفحات "الكاريكاتير" في صحف العالم، أو أشاهد "الكارتون" بكلّ لغات العالم، فأذكر أن ابن المقفع "البصري" خط بقلمه أول حوار إنساني على ألسن الحيوانات، وجعل من "كليلة ودمنة" مدرسة للنقد السياسي، وصياغة الرسائل الثقافية.
لا يلفت انتباهي إبداع الصورة في أحد المشاهد السينمائية، حتى أتذكر "الحسن ابن الهيثم" كأول عربي بصري يبحث في البصريات. ولا يشدني حديث تلفزيوني عن الكتاب والتفسير، حتى أرى فضل حبر الأمة ابن عباس، وفضل الحسن البصري على هؤلاء الذين لولا البصرة لكانوا في غياهب النسيان. وما أن يذكروا فرويد وتفسيراته الرمزية للأحلام، حتى أتذكر ابن سيرين ... ولا تغيب البصرة عن بالي، إذ كل ما حولي يذكرني بها.
البصرة اليوم نخلتنا التي تعطينا رطبها كل حين. 85 بالمئة من الوارد المالي "للعراق" يأتي من نفط البصرة، أي أن 85 بالمئة من رواتبنا؛ وموائد طعامنا مما تجود به أرض البصرة. من الرئيس إلى أقل الموظفين في سلم الرواتب .. كل من يتسلم مالا من الدولة يحيون على واردات نفط البصرة ... فلنشكر البصرة، فمن شكر المخلوق، شكر الخالق!
ناصر الحجاج