ثقافة داخل ثقافة خارج *
إن التنوع/ الانقسام السابق الذي حددناه لم يترك لطبيعته التي يتغذى منها وهي موزائيك التنوع الذي تفرضه الحياة، وإنما ظل يؤدلج في العقود الحديثة في تاريخ العراق القريب لكي يأخذ طابع الانقسام على أنه لا يلغي عراقية أحد الطرفين، ولكنه يصادره عندما يكون الإلغاء أحيانا من خلف المتاريس، مثلما شهدت حقب مثل الستينات أو السبعينات وما تلاها ليومنا هذا، محاولات متنوعة في كل مرة لإشهار ثقافة باتجاه واحد، ثقافة الذي يمتلك زمام السلطة، وآخر ينحّى بعيدا ليس عنها وحسب، ولكن يغيب ثقافيا أيضا بقسرية يشهد عليها العنف والدموية التي عولجت بها انتفاضات العراقيين وتغيب طقوسهم، فالانقسام لم يكن منشغلا بعد ذلك بثقافة شعبية وفلكلورية وأخرى حداثوية مثلا، بل كانت الثقافة تحت ضغط الايديولوجيا تتوجه نحو الشعبية واليومي، ومثالها الكتابة باللهجة الدارجة التي حرص الكثير من الكتاب تقديمها في الستينات في أوج الشعبوية، ومنهم شعراء مهمون في كتابة الشعر الحر.
لقد كرس التغييب والإلغاء بعد ذلك عراقيين في الداخل وآخرين في الخارج، وهم أما عاطل الفعل وكان مغيبا إن كان في الداخل، أو كان متحركا تحت ظروف أخرى تتشكل في المنفى وتطرح نمطا عراقيا للثقافة في فسحة من الحرية، فضلا عن اغتناء بالتجارب العالمية من خلال المجاورة لتلك التجارب، أو الولوج في موضوعات كان من المستحيل فتحها في داخل الوطن بشكل علني آنذاك، كقضايا مثل الديمقراطية، وتداول السلطة، والحريات العامة، والمجتمع المدني، والطائفية والعرقيات، أو إبداع ينتقد السلطة ويدينها ويشير بإصبع الاتهام إلى ما جرته على البلاد من الخراب واستعباد العباد، الانقسام هنا أيضا كرس وجهة من الفاعلية نلمسها في الداخل بالسلبية التي ووجهت بها السلطة الكارثية عندما تركت لمصيرها قبل التاسع من نيسان في نزيف من هجرة المثقفين إلى بلاد مجاورة للعراق كسوريا والأردن، لقد ساعد الخروج من العراق على إنتاج نخبة جديدة تحاول التنظير في القضايا المختلفة ومنها الشأن العراقي، لذلك نلحظ غزارة الكتابات الفكرية والدراسات السياسية التي تحاول أن تنظر للعراق ليس بعين الشاعر كما كان ولكن بعين الناقد والمحلل، لقد ألهم البعد عن العراق انشغالا مهموما بالعراق وطنا، وكيف يجب أن يكون الآتي.
وهنا يجب أن ينظر لهذه الثقافة على أنها مجال من مجالات التقليد والأخذ، وذلك أن ثقافة أي شعب إنما هي أمر متوارث على مر العصور، صالح للتبديل والتحويل قدر ما يتغير العرف والفكر، فإذا ما عرض لثقافة من الثقافات من المؤثرات ما هو صالح لأن يبدلها أو يعدلها، كان ما يلحقها من تبديل أو تعديل دليل حيوية ومرونة، لا يكون دليلا على خسة وركود.
وبعد فهل يكون نسيج الثقافة العراقية في الخارج والداخل وهي بهذا الحجم من الانشغال بهم عراقي تصنف بأنها دون أو فوق أو هربية؟
إن هذه الثقافة (العراقية) سواء وجدت داخل العراق أو خارجه، إنما هي جزء من نسيجه لكنها محكومة بظروف متفاوتة بالتنوع هي نفسها قد تكون في الداخل، إذ ستظل تهيمن موضوعة مثل الاغتراب والإحباط على المثقف في المكانين، وهي من جانب آخر ثقافة عراقية تبحث عن قارئ عراقي في أول همومها أو وهي تنشغل بهم عراقي لافت في كتاباتها.
إن من بين الاتجاهين السابقين نستطيع أن نميز قطاعا من الثقافة والمثقفين المهمشين لا يمكن تناسيه في هذا الموضع، وهو قطاع حرصت السلطة وضدها على دفعه بعيدا إلى الظل، لأن خطابه لا يخدم مصالحها إن لم يكن بالضد منها وهو بالرغم من سلبيته يمثل معارضة.