لو عدنا عبر التاريخ البشريّ لفهم العلاقة القائمة بين الإنسان واللّفظ ، وخاصة من جهة انفعاله به ، لوجدنا أنّ هذه العلاقة تتجاوز العلاقة التي يتصورها الكثير ، والتي تقوم بين الإنسان والمعنى الموضوع له اللفظ .
وكذلك ، لو عدنا إلى العلاقة القائمة بين اللفظ والمعنى ، سنجد أيضا أنّ بعض معاني الألفاظ ، ونتيجةً للبُعد الثقافي والإجتماعي الذي يحكم الواقع الذي نُحت فيه مفهوم أو معنى اللفظ ، قد رَبط بعض المعاني الأخرى بالمعنى الموضوع له اللفظ .
ولتوضيح الفكرة الأولى نقول : أننّا لو تعقبنا سيرة الإنسان في علاقته الإنفعالية مع اللفظ ، لا نجدها تقف عند المعنى الذي وُضع له ، بل إنّ الإنفعال البشري باللفظ وفي أغلبه يتجاوز هذا المعنى الخاص باللفظ ، إلى معاني أخرى لها ملازمة في ذهن الفرد بالمعنى الذي وضع له اللفظ ، وهذه المعاني تختلف كمّيتها وكيفيتها من فردٍ لفردٍ آخر .
وبمعنى آخر ، أنّ الواضع للّغة قد يضع لفظًا خاصًا لمعنى محدّد ، وتأتي الأفراد والأجيال التي بعده ، ومن خلال استعمالها لهذا اللفظ في المعنى الذي وضعه الواضع ، فيُحَمِّلونه معان أُخرى ، قد تكون سلبية وقد تكون إيجابية ، ولعلّ الواقع الذي يعيشه الفرد ومن خلال انعكاسه على محتواه الداخلي، هو الذي يقف خلف تحديد المعاني التي ترتبط بالمعنى الموضوع للفظ من الأساس .
فنحن لو عدنا للواقع المعاش في عالمنا الإسلامي للكشف عن هذه الحقيقة ، سنجد عبارة وُضِعَت في معنى إيجابي وهي " الله يهديك " أو " هداك الله " ، والتي هي عبارة عن لفظتين وضعتا لتُدلّلا على معنى الهداية وحقيقة الخالق ، وكذلك استعملت في سياق الدعاء للمقابل بما فيه الخير ، وهذا السياق أيضا فيه من الإيجابية الكثير .
إلا أنّ واقع الكثير من النّاس ، ربَطَ و حَمَّل معنى هذه العبارة الإيجابي ، معاني أخرى سلبية ، فتراهم ينفعلون سلبًا عندما تخاطبهم بهذه العبارة ، وتزداد سلبيتهم عندما تخاطبهم بها ، وهم في مقام ثورة عصبية نتيجة اصرارهم على ما يتوهمونه أنّه الحقُ ، فمباشرة يجيبك بقول " هل أنا كَفَرت ، أو هل أنا ارتكبت كبيرة حتى تدعو لي بالهداية " .
فالسبب الذي دفع بهذا الفرد نحو عدم تقبّل هذه العبارة ، هو تلك المعاني الثانوية التي ارتبطت في ذهنه بمعنى العبارة أو سياقها ، من قبيل أنّ هذه العبارة لا تقال إلاّ لمن كان في مقام الكُفر أو ارتكاب الكبيرة .
بينما نجد البعض يسعد لو خاطبته بهذه العبارة ، والسبب أنّ هذا الفرد توقف عند المعنى الموضوع لألفاظ العبارة ، ولم يحمّلها معان أخرى سلبية .
أما توضيح الفكرة الثانية فنقول : أنّ طبيعة الواقع الثقافي والتجاذبات الإجتماعية التي تحصل في الواقع الذي حُدِّدَ ونُحِتَ فيه مفهوم اللفظ ، له دور كبير في التأثير على المعنى الذي حُدّد ووضع له اللفظ .
وبمعنى آخر ، أنّ النظام اللغوي في ذهن الإنسان ، يعمل ضمن قانون ربط المعاني بعضها ببعض ، هذا بعد أن يتقبّل كل لفظ على حدى ، وعلى ضوء ذلك لا يمكن لذهن الإنسان أن يُرسخ مفردات اللّغة بما تحمله من معانٍ بمعزل عن عملية الربط بينها .
ومن هنا وحسب ما نلحظه من واقع الإنسان من جهة علاقته بالمفاهيم ، التي تنظم حياته ،أنّ هناك عوامل كثيرة لها علاقة في ربط معاني الألفاظ بعضها ببعض ، قد نجد منها ماهو نفسي فردي ، ومنها ماهو ثقافي واجتماعي .
فالمجتمع الذي يعيش حالة من الاضطهاد من قِبَل رجالات الدين ، وحين نَحْته لمفهوم أو معنى " الحرية " ، سوف يُحدّد مفهوم " الحرية " عنده بالتخلص من سلطة رجال الدين والإنعتاق من اضطهادهم ، وبالتالي سوف يرتبط مفهوم " الحرية " في ذهنه ، بكل المعاني التي من شأنها أن تخلصه من هذا الواقع الإضطهادي السلبي الذي يعيش فيه .
وفي الحقيقة هذا ما وقع في المجتمعات الغربية ، خلال الفترة التي يسمونها " عصر التنوير " ، أي المرحلة التي أعقبت ما يصطلحون عليه بـــــــــ " القرون المظلمة " ، فجُلّ المفاهيم التي صاغها وتقبّلها هذا المجتمع ، كانت متأثرة بالواقع المعاش الذي قد نتفق معهم أنّه كان واقعًا سلبيًا .
وعليه نقول :
أولا : أنّه على المسلمين ، أن لا ينساقوا خلف ما يُطرح من ألفاظ، وخاصة التي تمّ استيرادها من واقع وثقافات أخرى غير إسلامية ، و وُضِعَت كعناوين لتّدليل على الأفكار ، وما يصلح أن يكون طرح معرفي .
لأنّ الخطورة ليست في اللّفظ ذاته ، بل في المعنى أو المفهوم الذي يقف خلفه ، والذي يحمل وتتعلّق به معاني أخرى سلبية في أكثرها .
وثانيا : أن يدقّقوا في استعمالهم للألفاظ التي تصلح أن تكون عنوان معبّر على فكرة أو طرح معيّن .
فعبارة " قراءة قرآنية معاصرة " والتي نراها اليوم تنتشر في الأوساط العلمية وخاصة الدينية منها ، تحمل من المعاني السلبية ، والتي تصطدم مع ثقافتنا وفكرنا الإسلامي ، بل يمكن القول أنّ الكثير من هذه المفاهيم المستوردة ، قد تمّ تضمينها بمعاني هي في واقعها باطلٌ محض .
وسلبية هذه العبارة تمكن في مفهوم " المعاصرة " ، نعم نحن نُسلّم بأنّ الفهم الشخصي الذي يحصّله كل فرد من القرآن ، هو لا يخرج عن كونه قراءة وفهم خاص به ، ولا يمكن الجزم بحجّيته على العباد ، وإن كان لابد من عدم اهماله ، وخاصة إذا لم يُعد من الاسقاطات الذهنية والنفسية على النص القرآني .
ولكن الاشكالية والخطورة تكمن في مفهوم ومعنى " المعاصرة " الذي أُرِيدَ به معنى يقابل معنى " القديمة " .
فنحن لو عدنا للواقع المعاصر ، سنجد هناك حركة تقدم وتطور معرفي كبيرة ، وخاصة على المستوى التقني والعلوم التجريبية ، وإن كنّا نكاد نجزم بأنّه على المستوى العلوم الإنسانية وقعنا في نكسة كبيرة نتيجة الركون للاسقاطات النفسية ، وتمازج المزاج الفردي مع العقل في انتاج الفكرة .
وهذه الحركة التطورية ، أعطت بريقًا ولمعانًا لمرحلتنا المعاصرة ، وبالتالي رسّخت في وعي النّاس شيئًا من الرضا والإيجابية على هذه المرحلة ، وبالتالي تمّ وبدون وعي من الأفراد تعميم صفة الإيجابية على كل ما أُنتج في هذه المرحلة .
مّما أوجد هُوّة كبيرة بين مفهومي " المعاصرة " و " القديمة " ، وكذلك رَبَطَ المصطلح الأول بمعنى الإيجابية والرضا ، والمصطلح الثاني بمعنى السلبية والرفض .
وعليه ، فنلحظ أنّه كلّما أراد صاحب الفكرة أن يضفي على ما يطرحه معنى الجِدَة ، والتي ترتبط بمعنى التطور والتقدم وما تحمل هذه المعاني من بريق ايجابي ، يضيف لفظة " المعاصرة " إلى عنوان طرحه .
فلفظة " المعاصرة " ومن خلال تحليل مفهومها سواء في الثقافة الغربية ، أو في بعض الأوساط الإسلامية ، التي تتزين بهذا المفهوم دون الوعي بحقيقته ، نجد أنه يتضمن معنى المقابلة الطاردة لما يقابلها من مفهوم وهو " القديمة " ، بل والأكثر من ذلك هو أنّه يُلبس المعنى المقابل له قيمة السلبية والرفض .
وهذا خلاف ما عليه حركة المعارف الإسلامية التي ، تؤمن :
أولا : بأنّ الحركة المعرفية الإسلامية ، وخاصة الدينية منها ، هي حركة تراكمية ، تتطوّر في الفهم مع تطور الوعي العام لعلماء المسلمين ، بل و الإنسانية جمعاء .
وثانيا : أنّ القديم ، أو ما نعبّر عنه نحن بالموروث ، هو لبنة أولى في البناء المعرفي الإسلامي ، وبالتالي فهي تنظر إليه بإيجابية لتعلّقه بمرحلة خاصة به ، وإن كانت لا تراه دقيقًا .
والحمد لله ربّ العالمين .
الكاتب / السيد حبيب المقدم