للمجتمع في تنشئة العلماء دورٌ كبير، فالمجتمع الذي يعيش فيه العالِم يُعدّ بمثابة البيئة التي يتنفس فيها والأرض التي ينمو في تربتها ومن خلالها؛ ومن ثَمَّ فإنه لكي ينشأ العلماء فلابد من مجتمع واعٍ وفعَّال، يُقدِّر للعلماء قدرهم، ويُنزِلهم مكانتهم التي أنزلهم الله إياها.

والحقيقة أن هذا الدور ليس من قبيل الترف أو الفضل، وإنما هو فرض وواجب على المجتمع تجاه العلماء؛ إذ هم ورثة الأنبياء، وهم الذين زكاهم الله عز وجل ورفع قدرهم فقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].

ويروي عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ" [1].

وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبِيرِنَا" [2].

ومثله ما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِنَّ مِنْ إِجْلاَلِ اللَّهِ: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالى فِيهِ [3]، وَالْجَافِي عَنْهُ [4]، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ" [5].

تكريم العلماء والتواضع لهم
فدور المجتمع إذن في تنشئة العلماء دورٌ مهمٌ وجليل، ويتمثل في توقير العلماء وتقديره لهم، وتكريمه إياهم، والنظر إليهم بعين الإكبار والإجلال والتعظيم. وذلك تمامًا بتمام كما كرَّم الإسلامُ العلمَ، ورفع قدره وأعلى من شأنه وأهله!!

وعلى هذا فإن تكريم المجتمع للعلماء ليس تكريمًا لأشخاصهم بقدر ما هو تكريمٌ للعلم في صورة أشخاصهم.

ومثل هذه الصورة المثلى لم تُعدم في المجتمعات الإسلامية في عصور قوتها، حتى غدا التواضع للعلماء في هذا المجتمع رفعة، وحتى عُدَّ احترامهم والخضوع لهم فخرًا!! فهذا حَبْرِ الأمة ابن عباس رضي الله عنهما مع جلالته وقرابته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأخذ بركاب زيد بن ثابت رضي الله عنه رغم صغر سنه ويقول: "هكذا أُمِرنا أن نفعل بعلمائنا"!!

ولن نعجب حين نرى الشافعي رحمه الله وهو يقول: "كنتُ في مجلس مالك وأريد أن أصفح الورقة [6] فأصفحها صفحًا رقيقًا؛ هيبة له لئلاّ يسمع وقعها" [7]!!

ومثله أيضًا الربيع بن سليمان يقول: "والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليَّ؛ هيبة له" [8]!!

وهذا على مستوى الأفراد، أما على مستوى الجماعات فإن يوسف بن موسى المروزي يحكي فيقول: كنت بالبصرة في جامعها إذ سمعت مناديًا ينادي: يا أهل العلم، لقد قدم محمد بن إسماعيل البخاري. فقاموا جميعًا إليه!!

ثم تابع فقال: وكنت معهم، فرأينا رجلاً شابًا ليس في لحيته بياض (أي صغير السن)، فأحدقوا به وسألوه أن يعقد لهم مجلسًا للإملاء، فأجابهم إلى ذلك، فقام المنادي ثانيًا في جامع البصرة فقال: يا أهل العلم، لقد قدم محمد بن إسماعيل البخاري فسألناه أن يعقد مجلس الإملاء فأجاب بأن يجلس غدًا في موضع كذا .." [9]!!

فهو ينادي في المدينة كلها بقدوم عالمٍ إليها ليس من أهلها، فترى الناس وقد قاموا إليه، وأحاطوا به من كل جانب، يريدون أن يستفيدوا من علمه، فيطلبوا منه مجلسًا لذلك، وحين يحدد ذلك العالم (وهو البخاري) الموعد ينادي المنادي من جديد؛ يُعلم الناس بموعد مجلس العالم المغترب، كي يكون لقاؤهم معه واحتفاؤهم به!!

ولقد كان الناس يجتمعون بالآلاف حول البخاري رحمه الله ليعلمهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو دون العشرين من عمره [10]!!

عندما تضعف الأمة!!
وعلى النقيض من ذلك، ترى الأمة في حال ضعفها لا توقر العلماء ولا تنزلهم منزلتهم ولا ترفعهم قدرهم، بل قد تُعلي من شأن المطربين واللاعبين واللاهين ولا تأبه بوجود العلماء!! ولا شك أن هذه علامة من علامات الوهن الشديد، وهي متكررة في معظم مراحل الأمة.

ومما يُذكر في ذلك أن عبد الملك بن حبيب السُّلَميُّ [11] عالم الأندلس وفقيهها سمع أن زِرْياب [12] (المغنِّي) قدِم الأَندلس في عهده، فاحتفى الناس به أيما احتفاء، وصاروا يقلدونه في كل شيء، وبذل له الرؤساء الأموال، حتى بلغ من ذلك أنه غنَّى يومًا بين يدي الأمير عبد الرحمن الثاني ابن الحكم، فطرِب الأمير لذلك لحسن صوته وعذوبته طربًا شديدًا، فأعطاه ألف دينار دفعةً واحدةً، وكان عبد الملك بن حبيب فقير الحال، لا يكاد يجد من يعينه على العيش، فقال شاكيًا حاله وعاتبًا على أهل زمانه:

صلاح أمري والذي أبتغي *** سهل على الرحمن في قدرته

ألـف مـن الحمر وأقلل بها *** لعالم أوفـى على بغيته

زرياب قد يأخذها دفعة *** وصنعتي أشرف مـن صنعته! [13]

وإن تعجب فعجب بمن يُقدّم صاحب صنعة ما، أنَّى كانت، على صاحب صنعة العلم ووريث الأنبياء!! وإنك لن تراهم في ذلك إلا أصحاب الأهواء والشهوات.

وليت شعري ماذا كان سيقول عبد الملك بن حبيبٍ لو رأى زماننا الذي نعيشه؟! وماذا لو رأى جانبًا أو لونًا من تكريم أرباب الفن واللعب فيه؟!!

على أن الذي نقصده هنا هو أن المجتمع الإسلامي في فترات قوته، والتزامه أحكام الإسلام قد حفظ مكانة العلماء وصانها لهم، وبوَّأهم ما يستحقونه من الحفاوة والإكرام، والمنزلة العالية، والدرجة رفيعة، فسادَ المسلمون الدنيا وملؤوها علمًا ومجدًا وحضارة.

وإن مثل ذلك لو تم القيام به على الوجه الأكمل، فمن شأنه أن يحفز الشباب على بلوغ درجات العلماء، فوق أنه سيجعل باب الإبداع والابتكار مفتوحًا على مصراعيه، فيعود من جديد مجد المسلمين وحضارتهم إلى الرِّيادة والصدارة، وتراهم وقد انطلقوا في أصقاع الأرض، ينشرون العلم، ويبصِّرون الناس، ويدلُّونهم على حقيقة إنسانيتهم وأسرار خلقهم!!

[1] أحمد (22807) واللفظ له، والحاكم (421)، وقال الهيثمي: رواه أحمد وإسناده حسن، وقال الألباني: صحيح (101) صحيح الترغيب والترهيب.
[2] الترمذي: كتاب البر والصلة، باب ما جاء في رحمة الصغير (1843)، وأحمد (6733)، والحاكم (209)، وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، والبخاري في الأدب المفرد (358)، وقال الألباني صحيح (5444) صحيح الجامع.
[3] الغالي فيه: المجاوز حده.
[4] أصل الجفاء ترك الصلة والبر، وجفاه: أبعده وأقصاه.
[5] أبو داود: كتاب الأدب، باب في تنزيل الناس منازلهم (4843)، والبخاري في الأدب المفرد (357)، وابن ابي شيبة (32561)، والبيهقي في شعب الإيمان (2685)، وقال الألباني: حديث حسن (2199) صحيح الجامع.
[6] أي: أعرضها ورقة ورقة.
[7] انظر تاريخ دمشق 14/ 293 - فيض القدير 3/ 253.
[8] انظر تاريخ دمشق 51/ 404.
[9] انظر فتح الباري 1/ 486.
[10] انظر تهذيب الكمال 24/ 452.
[11] هو عبد الملك بن حبيب بن سليمان القرطبي، أبو مروان: عالم الأندلس وفقيهها في عصره. ولد في إلبيرة سنة 174هـ، وسكن قرطبة وتوفي بها سنة 238هـ. له تصانيف كثيرة، قيل: تزيد على ألف، وكان ابن لبابة يقول: عبد الملك بن حبيب عالم الأندلس، ويحيى بن يحيى عاقلها، وعيسى بن عبد الملك بن حسين العصامي فقيهها. انظر تاريخ علماء الأندلس ص 101 - الأعلام 4/ 157.
[12] هو علي بن نافع، أحد المغنين المطبوعين، والموسيقيين المشهورين، سافر من بغداد إلي الأندلس، واستقبله هناك عبد الرحمن بن الحكم. توفي سنة 230هـ. انظر ابن حيان القرطبي: المقتبس من أنباء الأندلس ص 25 نفح الطيب 1/ 344 - الأعلام 5/ 28.
[13] انظر الحميدي: جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس ص 101 - ونفح الطيب 2/ 7.

د. راغب السرجاني