السبب هو أن أي ثورة يقوم بها الجيل العربي الجديد لا تأخذ بعين الاعتبار تحرير هذا الجيل من بعبع الجنس وأفاعيه وعقده الطاحنة، تبقى ثورة في الفراغ، أي ثورة خارج الأرض وخارج الإنسان.
ما دام جسد المرأة العربية مسيّجاً بالرعب والعيب والخرافة وما دام فكر الرجل العربي يمضغ كالجمل غلافات المجلات العارية ويعتبر جسد المرأة منطقة من مناطق النفوذ والغزو والفتوحات المقدسة، فلن يكتب لنا النصر أبداً. لأننا عاجزون عن الانتصار على أنفسنا.
مخطئ من يظن أن هزيمة حزيران كانت هزيمة عسكرية فقط. فحزيران كان هزيمة للجسد العربي أيضاً. هذا الجسد المحتقن، المتوتر، الشاحب الذي لا يعرف ماذا يفعل وإلى أين يذهب.
الجسد العربي هزم لأن المحارب لا يستطيع أن يحارب إلا إذا كان في سلام مع جسده.
نحن بحاجة إلى أن نتصالح مع أجسادنا. أن نلتقي بها، فنحن نعيش في قارة وأجسادنا تعيش في قارة أخرى.
كل ثورة عربية جديدة يجب أن تضع في حسابها إعادة الحوار الطبيعي بيننا وبين أجسادنا، وإعادة الحب إلى مكانته الطبيعية كفعالية إنسانية مبدعة وخلاقة، لا كلص خارج على القانون تلاحقه شرطة الآداب العامة.
ما لم نفتح أمام الحب الضوء الأخضر فسوف نظل مرتبكين ومعقّدين ومفلوجين على الأرض كسيارة فرغت بطاريتها…
ما لم نفتح للحب نوافذنا فسوف نظل نباتات شوكية لا تورق ولا تزهر. وتظل قلوبنا قارات من الملح لا يخرج منها أي غصن أخضر.
ما لم يصبح الحب عاطفة سوية وطبيعية في بلادنا فسنظل كلنا – رجالاً ونساء – غير طبيعيين وغير سويين وعاجزين عن القيام بأي إنجاز حضاري عظيم.
يصدر “يوميات امرأة لا مبالية” في عصر الثورات . لذلك فإنه يحمل عنف الثورة وجرأتها واستماتتها.
تلاميذ العالم يضربون أسوار العالم القديم. يقلعون أعمدته.
تلاميذ العالم يبصقون على كل الأوثان ويركلونها بأقدامهم.
التلاميذ يريدون أن يغيروا العالم . أن يخترعوه من جديد.
العالم القديم يترنح بجامعاته وأساتذته وكتبه وفلسفاته وأخلاقياته ومواعظه.
لم يعد أحد يخاف أحداً. سقطت كل اللافتات تحت الأرجل. ولم يبق سوى لافتة واحدة يحملها الانسان المعاصر.
هي لافتة الحرية. ولأنني مع الحرية حتى النفس الأخير أصدرت “اليوميات”.
ولأن أصابعي حرية، وورقي حرية، وحبري حرية، أصدرت اليوميات.
كان بإمكاني بالطبع أن أسجن اليوميات عشر سنوات أخرى في جوايري. كان بإمكاني أن أحرقها.
ولكنني لم أتعود حرق أفكاري. ربما قال قائل: وهل هذا وقت الحديث عن الحب والجنس ونحن غارقون في المأساة حتى الركب؟
ومرة أخرى أقول: إن هذا هو وقت كل شيء..
وقت الانقضاض على كل شيء. لأنه الوقت الذي يحاول فيه الإنسان العربي أن يغير ويتغير.
والجنس هو واحد من همومنا الكبيرة، بل هو أكبر همومنا على الإطلاق. ولن يكون هناك تغير حقيقي إذا بقي الورم الجنسي ينهش حياتنا وجماجمنا.
نحن بحاجة إلى كسر خرافة الجنس، والنظر إليه نظرة حضارية وعلمية فليس من المعقول أن نكون على أعتاب القرن الحادي والعشرين ولا نزال ننظر إلى الجنس نظرة البدوي إلى منسف.. بكل ما فيها من ضيق وجوع وعشائرية، وننظر إلى جسد الأنثى كساحة حرب وميدان ثأر.
نريد أن نرد جسد الأنثى إليها. فهو حتى الآن ملك التاريخ والأعراف والمؤسسات الدينية والدنيوية تتصرف به على كيفها وتضع له قوانين سلوكه قبل أن يولد.
نريد أن نخلّص جسد المرأة من المزايدات الأخلاقية والعنتريات . فالرجل الشرقي – وهذا أخطر ما في القضية – يربط كل أخلاقياته بجسد المرأة لا بأخلاقياته هو. فهو يكذب، ويسرق، ويزوّر ويقتل ويشلّح على الطريق العام ويبقى أطهر من ماء السماء حتى يعثر في درج ابنته على مكتوب غرام فيشدها من ضفائرها، ويذبحها كالدجاجة ويلقي قصيدة شعر أمام قاضي التحقيق.
سيقول المتزمتون إني أحرض النساء على الحب.
الواقع أنني لا أخاف التهمة ولا أرفضها. بل إنني أباهي بها الخلق يوم القيامة.
فالتحريض على الحب هو تحريض على السمو والنقاء والبراءة والطفولة والعافية.
إنني أحرضكن على أجمل ما فيكن، وأطهر ما فيكن، وأنبل ما فيكن.
أحرضكن على الارتفاع إلى مستوى الإنسان. فنحن نبقى تحت مستوى الإنسان حتى نحب.
وهذه الليلة ستكون ليلة التحريض على الحب.
يعني ليلة الإنسانية.
هذه اليوميات وجدتها مخبوءة تحت حجر في حديقة منزل شرقي قديم.
كانت مكتوبة على أوراق دفتر مدرسي، وبخط عصبي نَزِق.. حتى لكأن الكلمات في تشنّجها أظافر حادة تمزق لحم الورق الأبيض وتنهشه..
ضممت على الأوراق يدي.
كانت باردة ، مبتلة، لاهثة كعصفور لا وطن له طار ألف قرن تحت الثلج والمطر..
وفي غرفتي فتحت غطاء الكنز المسحور. وأوقدت ناراً .. وبدأتُ أقرأ.
ركضت على الحروف المشتعلة كأنني أركض على جسر من أعواد الكبريت.. كلما لمست عوداً تفجّر وفجّر غيره ..
وحين انتهى الليل شممتُ في حجرتي … وفي ثيابي رائحة غريبة.. رائحة امرأة تحترق ….
ليس جديداً أن تحترق امرأة في هذا الشرق … فنصف تراب صحارينا معجون برماد الضفائر الطويلة والنحور المطعونة..
ليس جديداً – في منطق السكين والفأس – أن تُذبح امرأة على سرير ولادتها.. أو سرير زفافها.. فنحن ندحرج رؤوس النساء كما ندحرج أحجار النرد في مقاهينا.. وكما نصطاد العصافير على روابينا..
قبل شهريار ، وبعد شهريار ، ونحن نغتال العصافير المؤنثة.. نسلخها، ونأكلها، ونمسح بدمائها شواربنا المهتزة كأذيال النسانيس..
لا جديد في تاريخ إرهابنا.
ولكن الجديد أن يثور المذبوح على ذابحه، والقبر على حافره..
الجديد أن يرفض الميت موته، وأن يعض الجرح على نصل الخنجر..
وهذا ما فعلته صاحبة هذه اليوميات.
إنها إحدى المصلوبات على جدار التاريخ والخرافة.
ولكنها تبدو – وهي على خشبة الصَلْب – أكبر من قيدها ومن مساميرها. وأقوى من جميع صالبيها..
إن بطلة هذه اليوميات تعرف أنها تُحتَضر ولكنها – مع دفتر يومياتها – تتفوق حتى على احتضارها.
الموت الصامت هو وحده الموت. أما الذين يثقبون بأظافرهم رخامات قبورهم ، ويكتبون شعراً.. على خشب توابيتهم.. فلا أحد يستطيع أن يهزمهم.
.. وبعد فهذه أوراق كتبتها امرأة لا اسم لها.. في مدينة لا اسم لها..
امرأة .. هي الأسماء جميعاً .. والمدن جميعاً ..
وأنا لم أفعل لهذه اليوميات شيئاً ، سوى أني أخرجتها من مخبئها الحجري .. ومسحت الغبار من أجنحتها .. ومنحتها الحرية.