للعلماء والدعاة في تنشئة العلماء دورٌ لا يُضاهيه دور آخر في تأثيره الفعلي ونتيجته المباشرة والقريبة؛ إذ لا يُثمِّن الشيء إلا من علِمَه وزانه، ولا يعرف طعم العسل إلا من ذاقه وطعِمَه، والخدُّ يعلم ما في الدمع من حُرَقِ [1].

فلأنهم أعلم الأمة بمصالح الأمة، ولأنهم أحرص الناس على الإصلاح، ولأنهم أحرصهم على سيادة العلم؛ فكان دورهم جد كبير في إخراج العلماء، وفي تربية المجتمع على إخراج وتنشئة هؤلاء العلماء.

دور الدعاة
أما بالنسبة للدعاة فالمجال رحبٌ والمساحة واسعة، ولو أخذ الدعاة على عاتقهم هذا الدور بمحمل من الجد لخرج لنا جيلٌ من العلماء يكفي الأمة، ويسدُّ الثغرات في كل المجالات!! وكيف لا والدعاة هم أعلام الأمة وموجِّهو دفَّة مسيرتها؟! وهم وسيلة الإصلاح الأولى في المجتمع، وعن طريقهم يحصل الأمل المنشود؟!

وقد جسَّد معاذ بن جبل رضي الله عنه ذلك الدور، فقام وهو يحمل هم الأمة يخطب الناس، ويقول: "تعلَّموا العلم؛ فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، والدليل على الدين، والمصبِّر على السراء والضراء، والوزير عند الأخلاّء، والقريب عند الغرباء، ومنار سبيل الجنة، يرفع الله به أقوامًا فيجعلهم في الخير قادة سادة، هداة يقتدى بهم، أدلة في الخير، تقتص آثارهم، وترمق أفعالهم، وترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، وكل رطب ويابس لهم يستغفر، حتى حيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه، والسماء ونجومها؛ لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلا في الدنيا والآخرة، والتفكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام، وهو إمام والعمل تابعه، يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء" [2].

فلم يترك رضي الله عنه واردة ولا شاردة في الحث على العلم، وبيان فضله ومنزلته إلا أتى بها، يخاطب بها قومه ومجتمعه؛ علَّهم يأخذون في تعليمه ويهُبُّون إلى تحصيله.

فالمهمة جليلة وجد عظيمة، وخاصة إذا كان حال الأمة غير مرضيّ. ولعلنا نوجه من هنا دعوة إلى كل الدعاة في أنحاء العالم الإسلامي، بأن يسدوا الثغرة التي أوكلهم الله إياها وأوقفهم عليها، وأن يقوموا بها على وجهها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً .. " [3].

وحريٌ بدعاة المسلمين بأن يقفوا على مواطن النزف التي تصيب الأمة، وأن يكشفوا عنها، ويعملوا على علاجها ومقاومتها، وألا يتخوضوا في سفاسف الأمور وما لا يعود ينفعٍ على الأمة من قريب أو بعيد، وأحرى بهم بأن يسيروا وفق منهج واضح وهدف محدد، عن طريقه يمكن تربية المجتمع وتنشئة وإخراج العلماء.

على أن دور الدُّعاة غالبًا ما يأخذ طابع الحثِّ والنصح، والتوجيه والإرشاد، على الاهتمام بالعلم وتعليمه، وبذل المال فيه، وإنفاقه على طلبته ومشاريعه ومؤسساته، متوجهين في ذلك لكل فئات المجتمع وطبقاته، بدءًا بالأطفال وانتهاءً بالآباء، ومرورًا بأرباب الصنائع والحرف المختلفة في المجتمع، وانتهاءً بالدولة ومؤسساتها.

الاعتناء بالأطفال ليصبحوا علماء
فكان من ذلك، في سبيل تنشئة الأطفال مثلاً وتعويدهم على أن يُصبحوا علماء، أن عمرو بن العاص رضي الله عنه مرَّ على حلقة من قريش فقال: "ما لكم قد طرحتم هذه الأغيلمة؟ لا تفعلوا! أوسعوا لهم في المجلس، وأسمعوهم الحديث، وأفهموهم إياه؛ فإنهم صغار قوم أوشك أن يكونوا كبار قوم، وقد كنتم صغار قوم فأنتم اليوم كبار قوم" [4].

فكان الاعتناء بتعليم الأطفال الجرأة على طرح أفكارهم، والمشاركة بها في نوادي الكبار، وذلك بمجالسة العقلاء الكبار، فتكبر عقولهم وينضج تفكيرهم. كان ذلك وسيلة مهمة من قبل الدعاة والمصلحين في تنشئة الأطفال ليصبحوا علماء، ومن الخطأ أن يُمنَع الصغير من حضور مجالس أهل الخبرة والتجربة، كما أن من الخطأ عدم الاهتمام بالنشء في هذه الفترة المبكرة.

بل إن ابن شهاب الزهري رحمه الله كان يشجع الصغار ويقول لهم: "لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم؛ فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يتبع حدَّة عقولهم" [5].

نصيحة الآباء بتربية الأبناء
ولم تقتصر نصيحة الدعاة في هذا الدور على الأطفال فحسب، وإنما كانت لهم توجيهاتهم الخاصة لآباء هؤلاء الأطفال؛ وذلك أن الآباء ربما ينخرطون في دوامة الدنيا وصروفها، فينشغلون بذلك عن أبنائهم وتقديم الرعاية اللازمة لهم ليصبحوا علماء، لا عن قصدٍ بقدر ما هو عن تكاسل أو جهل.. وهنا يصبح دور الدعاة دورًا محوريًّا ومهمًّا جدًّا!!

فهذا الإمام النووي رحمه الله وهو طفل صغير كان الصبيان يُكرِهونه على اللعب معهم، وهو يهربُ منهم ويبكي؛ يريد أن يتعلم ويحفظ القرآن، وقد صادف أن مرَّ بقريته الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي ورأى ذلك، فما كان منه إلا أن ذهب إلى والده ونصحَه بأن يفرّغه لطلب العلم، وكان أن استجاب والد النووي، حتى إنه رحل به إلى دمشق ليتعلم في مدرسة دار الحديث [6]. ليصبح بعد ذلك الإمام النووي، والذي ملأ سمع الدنيا بعلمه، وصار إمام عصره، وبرع في الحديث والفقه واللغة، وترك لنا أسفارًا وكتبًا مازالت تحييه في عالمنا!!

الدعاة وتربية المجتمع
وكان للمجتمع أيضًا بصفة عامة نصيبٌ بارز من دور الدعاة في هذا المجال. ومما يُذكر في ذلك أن أسد بن الفرات [7] ولاّه زيادة الله القضاء بإفريقية، وقدَّمه على غزو صقلية؛ فخرج في عشرة آلاف رجل، منهم ألف فارس. ولما خرج إلى سوسة ليتوجه منها إلى صقلية، خرج معه وجوه أهل العلم يشيعونه، وهنا استغل ذلك الحدث الجليل وقام فيهم خطيبًا؛ فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يا معشر الناس، ما بلغت ما ترون إلا بالأقلام! فأجهدوا أنفسكم فيها، وثابروا على تدوين العلم، تنالوا به الدنيا والآخرة [8]!

أمثلة للدعاة والمصلحين
وإذا أردنا تجارب واقعيةً وأسوةً في ذلك الصدد، فإنما هو دور الدعاة والمصلحين في هذه الأمة وعلى امتداد العالم الإسلامي، وسيرتهم في ذلك، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: جمال الدين الأفغاني (1254- 1314 هـ=1838- 1897م)، ومحمد عبده (1265-1323 هـ=1849- 1905م)، ومحمد رشيد رضا (1282-1354 هـ=1865-1935م)، ومحمد أبو زهرة (1316-1394 هـ=1898-1974م)، وحسن البنا (1324-1368 هـ=1906-1949م)، وعبد الحميد بن باديس (1305-1359 هـ=1887-1940م).

وغيرهم كثير من الدعاة والمصلحين، والذين ينبغي أن يُترسَّم خطاهم ويُقتَفَى أثرُهم، وخاصة فيما نحن بصدده في قضية تنشئة العلماء.

[1] شطر بيت لشاعر المهجر إلياس فرحات، وتمامه هو:
الخد يعلم ما في الدمع من حرق *** وليس تعلم ما فيه المناديل
[2] رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 235) وقال: هكذا حدثنيه أبو عبد الله عبيد بن محمد / مرفوعًا بالإسناد المذكور، (وكان قد ذكر الإسناد).
[3] البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل (3202).
[4] انظر الخطيب البغدادي: شرف أصحاب الحديث ص 159.
[5] رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1/ 409.
[6] انظر القصة في تحفة الطالبين في ترجمة الإمام النووي لابن العطار ص 2.
[7] هو أسد بن الفرات الفقيه المالكي العظيم، أصله من خراسان، ورحل أبوه إلي القيروان في جيش الأشعث، فأخذه معه وهو طفل، فنشأ بها ثم بتونس، ورحل إلي المشرق في طلب الحديث. دوّن مذهب الإمام مالك، وكان يعمل قاضيًا للقيروان، ثم مجاهدًا في سبيل الله، وفتح جزيرة صقلية، واستُشهِد هناك سنة 213هـ. الأعلام 1/ 298.
[8] انظر النباهي: تاريخ قضاة الأندلس ص 31.

د. راغب السرجاني