معالم ومشيدات حمص الاثرية: "الحصن" أجمل القلاع السورية في العصور الوسطى
قلعة الحصن التي تقع في وادي النصارى بالقرب من الساحل السوري تعد إحدى أهم قلاع القرون الوسطى، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، وتحتل موقعاً إستراتيجياً هاماً، إذ ترتفع عن سطح البحر 800 م.
ويحيط بها من جميع الجهات منحدرات متوسطة يمكن منها رؤية قلعة صافيتا (القصر الأبيض) هذه القلعة عُرف موقعُها منذ عصور قديمة جداً، لكنها بُعثت مجدداً مع بداية العصر السلجوقي، وبعد أن احتل الفرنجة أجزاء من بلاد الشام استولوا عليها وآلت ملكيتها إلى فرسان القديس يوحنا (الإستبارية) وظلت تهدد مدينة حمص لقربها منها حتى حرَّرها الظاهر بيبرس، وما تزال هذه القلعة تحتوي على أهم منشآتها وأبراجها وأسوارها، وقد رُممت جزئياً وهي، والحق يقال، من أروع القلاع وأجملها، ليس في بلاد الشام فحسب وإنما في بلدان العالم أجمع.
وتبعد قلعة الحصن عن حمص حوالي /60/ كم ويؤدي إليها طريق متفرع من طريق حمص طرابلس، وقد شيدت القلعة على مراحل متعددة فوق قاعدة من الصخر البركاني، واتخذت شكل مضلع غير منتظم طول قطره الكبير مائتا متر، والصغير مائة وأربعين متراً وبذلك تبلغ مساحتها حوالي ثلاثة هكتارات.
عام 1031 م وضع أساسات القلعة أمير حمص وشغلتها جالية كردية ومن هنا سميت بـ (حصن الأكراد) وربما كان هذا الموقع مسكوناً قبل ذلك ولكن لا يُعرف شيء عن تلك الفترة، ولما كانت الحامية الكردية ضعيفة سلمت الحصن إلى القائد الصليبي (تانكريد) أمير إنطاكية عام/1110 م/ فأعجبه موقعها وإشرافها على مساحات واسعة، إذ من خلالها يمكن مراقبة الطريق الذي يصل الساحل السوري، وباشر (تنكريد) بإضافة الأسوار والأبراج عليه، وراح يشن من خلالها هجماته على الساحل والداخل، وخلال وجود الصليبيين جاءت الحملة الثانية من مدينة (تولوز) الفرنسية وهي بقيادة (ريمون جنجيل الثاني) عام/1142م/ وسُميت هذه الحملة (الإستبارية) أو (فرسان المستشفى) فسلَّمهم (تانكريد) الحصن، وشيَّدوا في موضعه القلعة ويقال إن بناء القلعة آنذاك استغرق خمساً وسبعين عاماً، وشارك فيه أكثر من /11/ ألف عامل وفي عام /1163/ هاجم القلعة (نور الدين الزنكي الشهيد) فاشتبك مع الصليبيين في معركة استطاع فيها دخول القلعة من عدة منافذ موجودة فيها ولكن وقته كان ضيقاً فأعادها الصليبيون مرة أخرى وعزَّزوا منافذ الضعف فيها وأضافوا عليها تحصينات جديدة.
هذه الصورة تم تصغيرها.لعرض الصورة كاملة انقر على هذا الشريط,. المقاس الأصلي للصورة هو 754x505px.
تحطيم الأقنية المائية
عندما فرغ صلاح الدين الأيوبي من تحرير بيت المقدس جاء ليحرر الحصون المتبقية في أيدي الصليبيين، فوصل إلى سهل (البقيعة) الذي يبعد حوالي /15/ كم عن قلعة الحصن، ودارت رحى معركة بين صلاح الدين الأيوبي والصليبيين وعندما شعر أن القوات الصليبية تتقدم مزوَّدة بإمدادات الساحل السوري ذهب للاستيلاء على الساحل السوري، وهنا أصبحت قلعة الحصن معزولة عن الساحل والداخل. وفي عهد الظاهر بيبرس جاءت حملة من المماليك من مصر بقيادته عن طريق حلب التي استولى عليها وشَّيد فيها عدة أبراج، ووصل الظاهر بيبرس إلى القلعة فوجد الحماية الصليبية التي بلغت آنذاك حوالي أربعة آلاف جندي صليبي فاضطر أن يحاصرها ويحطم الأقنية المائية الواصلة من الجبل إلى القلعة ليمنع الخروج والنزول منها للصليبيين الذين تزعزع كيانهم بهذه الخطوة المفاجئة واحتاروا في أمرهم بين فتح الأبواب والموت هلاكاً أو البقاء في الحصار و الموت جوعاً وعطشاً، وقد رجَّحوا الأمر الأول وفتحوا الأبواب أمام الظاهر بيبرس وجنوده. و بعد مرور أربعة عشرعاماً على وجود المماليك في الحصن جاء سيف الدين قلاوون عام /1285/ فدخل القلعة وباشر بإكمال ترميم بعض الأبراج.
تمتد قلعة الحصن مع خندقها على مسافة 240 م (من الشرق إلى الغرب) كما تمتد أسوارها وأبراجها على مساحة 210 × 150 م تحتل مرتفعاً بارزاً من الأرض، تحيط به المنحدرات الشديدة من كافة جوانبه تقريباً وبخاصة من الجهة الغربية، يُرى من أبراج القلعة عبر صافيتا وبرجها جزءٌ كبير من ساحل البحر، كما تشرف أبراجها على كافة أنحاء سهل البقيعة وتتكون القلعة من حصنين بينهما خندق، وحولهما خندق يشرف عليها جميعاً قصر تحميه أبراج.
جدران مائلة
الحصن الداخلي عبارة عن قلعة قائمة بذاتها فوق قاعدة صخرية مرتفعة، يحيط بها خندق يعزله عن السور الخارجي بوابة رئيسية تتصل بباب القلعة الخارجي بواسطة دهليز طويل ينحدر تدريجياً حتى الباب منعطفاً في منتصفه ولهذا الحصن أيضاً ثلاثة أبواب مفتوحة على الخندق، ويمتاز بأبراجه العالية ذات الطوابق العديدة، وأسواره السميكة المدعومة من الخارج بالجدران المائلة (glacis) التي تقاوم الزلازل يتألف الحصن الداخلي من طابقين:
الأرضي ويضم باحة سماوية تحيط بها الأقبية والعنابر وقاعة الاجتماعات والمعبد والمطعم والفرن ومعاصر الزيتون، والطابق العلوي ويحتوي على أسطحة مكشوفة، ومهاجع، وثكنات، وأبراج، وأعالي أسواره مزَّودة بالمرامي والشرفات، أما الخندق المحيط به فمحفور بالصخر سُلطت عليه أقنية تسوق إليه مياه الأمطار.
هذه الصورة تم تصغيرها.لعرض الصورة كاملة انقر على هذا الشريط,. المقاس الأصلي للصورة هو 754x397px.
جسر متحرك
وهو السور الخارجي للقلعة، إلا أنه حصن قائم بذاته، يتألف من عدة طبقات، فيها القاعات، والإسطبلات، والمستودعات، وغرف الحرس مزّودة بثلاثة عشر برجاً بعضها دائري، والبعض مربع أو مستطيل، وهو أيضاً محاط بخندق، ومدعوم في أكثر أقسامه الخارجية بالجدران المائلة، وفيه عدة أبواب:
الرئيسي منها مفتوح في برج بالجهة الشقية كان يُدخل إليه بواسطة جسر متحرك، والأبواب بعضها معلق، والبعض يتصل بسراديب ضيقة تؤدي إلى الداخل، وتستعمل عند الحاجة، وليس في القلعة نبع ماء، ولكنها تضم مجموعة من الصهاريج تملؤها مياه الأمطار التي تسيل من أسطحتها في أقنية منتظمة، موزعة في جميع أنحاء القلعة، بالإضافة إلى مياه الخندق الداخلي الذي يستمد بعض مياهه من الهضبة الخارجية بواسطة قناة محمولة على قناطر، ولا يزال القسم الجنوبي من هذا الخندق يمتلئ بالمياه مشكلاً حوضاً كبيراً، بينما ظلت الأقسام الأخرى مردومة بالأتربة والأنقاض. ويُذكر أن عمليات ترميم واسعة أُجريت ولا تزال للقلعة من قبل المديرية العامة للآثار والمتاحف منذ عام 2002 وشملت هذه العمليات تأهيل المسارات الخاصة بالسياح – الطرقات والممرات إضافة إلى التركيز على صيانة جميع الجدران والمنحدرات للحصن الداخلي من الخارج مع إزالة الأعشاب، وتنظيف الأحجار وتكحيلها بالمونة القديمة بأيدي عمال متخصصين، وترميم فجوات الجدران لاستكمال الشكل المعماري القديم وكذلك ترميم السور الخارجي الشرقي مع فتحات رُماة الأسهم من الداخل وبناء القنوات فوقها، واستكمال بناء الجدار الخارجي حسب المنسوب المجاور، بالإضافة لعزل الأسطح وترميمات بالحجر الكلسي للفجوات التي تشكل خطورة في احتمال سقوط أحجار مجاورة لها في المنسوبين الثالث والرابع ضمن القاعة مقابل برج الفرسان.
هذه قلعة الحصن أشهر وأجمل وأعتى القلاع التي شيدت منذ أقدم العصور تقف اليوم أمام مدفعية النظام وشبيحته وصواريخه التي تنهال عليها ليل نهار، كالطود الأشم لتروي تاريخاً يزيد على الثمانية قرون، تَتَابع فيها على القلعة الغزاة ُ والطامعون وارتدوا عنها خائبين مدحورين، ولا عجب فهذه دروس التاريخ البليغة وحكمه الخالدة.