إن القرآن الكريم مليء بالآيات المتنوعة.. ففيه آيات هي قمة التبشير، كآية تبديل السيئات بالحسنات، فهي من الآيات المؤملة جداً في القرآن الكريم.. فالذي يعيش حالة الانحراف دهراً من حياته، ثم يعود إلى الله عز وجل، فإن الله تعالى يبدل سيئاته حسنات.. وفيه أيضا آيات هي قمة التخويف، ومن هذه الآيات هذه الآية الكريمة، وإن كان ظاهر الخطاب يعود إلى المشركين، ولكنه مخيف للجميع.. وهذه الآية هي الآية 103من سورة الكهف: بسم الله الرحمن الرحيم {قُل هل نُنَبِئكم بالأخسرين أعملاً، الذين ضل سعيهم فى الحيوة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً}.
إن الآية تجمع العمل، حيث تقول: هل أنبئكم بالذين لهم أعمال كثيرة، ولكنهم من أخسر الناس؟.. أي أن الإنسان الذي لا عمل له، قد لا يعجب بشيء من عمله، إلا أن صاحب العمل والأعمال الكثيرة، هم فى مظان هذا الخسران.. يقال فى باب التجارة: إن التاجر إذا كان يتاجر، وهو يعلم أنه سيخسر، فإنه يقوم ببعض الإجراءات الإحتياطية.. وكما هو معلوم فى باب التجارة، أن إيقاف الخسارة في أي وقت، هو ربح فى حد نفسه.. ولكن إذا كان التاجر لا يعلم أنه خاسر، ولا يحتمل أنه سيخسر، فإن هذا الإنسان مفلس.. وفي يوم من الأيام سيؤول أمره إلى الإفلاس الشديد المفضوح.. فهؤلاء المساكين أعمالهم كثيرة، ولكن ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون بأنهم يحسنون صنعا.
{أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا}.. فمن هم الذين لا يقام لهم وزن يوم القيامة؟.. ومتى يكون العمل هباءً منثورا؟.. إن من موجبات كون العمل هباء منثورا الكفر.. فالإنسان الكافر وجوده وجود مبغوض للمولى، وهذا الوجود المبغوض لا يمكن أن يتقرب إلى الله تعالى بشيء، لأنه لا يعترف بمن يمكن التقرب إليه.. وكذلك من الذين لايقام لهم وزن يوم القيامة، المؤمن الذي يعمل لغير الله عز وجل.
إن العمل في حد نفسه لا خلود له، ولكن يمكن أن يحمد عليه الإنسان، ويمكن أن يكتسب الثناء الجميل: ككرم حاتم.. ولكن الخلود والانتساب إلى الله عز وجل، وأن تتحول مادة الطاعة إلى طاقة لا نهائية، تتجلى في عرصات القيامة وفي الجنة، فإن ذلك يحتاج إلى انتساب.. والعمل الذي لا ينتسب إلى الباقي، فهو فانٍ شأنه شأن المظاهر الطبيعية.. فكما أن الشمس تتكور، والنجوم تنكدر، وكما أن العظام تؤول إلى رميم.. فكذلك أعمالنا تؤول إلى أمر معدوم ينتهي.. فالذي يعطي الخلود، هو انتسابه إلى الخلود.. والله خير الشريكين، ففي الروايات: إن العمل الذي يكون لله ولغير الله عز وجل، فإن الله عز وجل يقول: أنا خير الشريكين، تنازلت عن حقي، ووهبتك هذا العمل .
وما دام الأمر كذلك، فقبل أن يفكر الإنسان في كم الأعمال، وقبل أن ينظر إلى حجم ما يقوم به من عمل، قبل كل ذلك، ينبغي أن يهيئ القالب الذي يوضع فيه العمل.. ففي اللغة العربية لكل كلمة مادة وهيئة: الضارب هيئته الفاعل، ومادته الضرب.. وكذلك فإن عمل الإنسان له مادة وله هيئة: المادة عبارة عن الإنفاق، والصيام، والصلاة، والحسنات...الخ.. والهيئتة التي تعطيه القيمة، هي عبارة عن انتساب العمل لله عز وجل.. وإلا، في بناء الكعبة ما هو وزن هذا العمل في عالم البناء؟.. كم كلف إبراهيم (ع) بناء الكعبة؟.. إن الكعبة بناء فى منتهى البساطة، ولعله لا يوجد على وجه الأرض بناء ضخم كبساطة الكعبة: فهو بناء مكعب، ليس فيه أي جمال هندسي، ولا فيه تعقيد من تعقيدات البناء المتعارفة.. ولكن هذا العمل على بساطته انتسب إلى الله عز وجل.. ولهذا أول ما قاله إبراهيم الخليل (ع): {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}.. أي تسمع ما نقول، وتعلم ما فى القلوب.
فإذن، صحيح أن الآيات ناظرة إلى المشركين حيث يقول: {أولئك الذين كفروا}.. ولكن روح الآية تنطبق على الجميع.. وعليه، فإن على المؤمن أن يحذر حالة الخسران المستمرة فى حياته.. بمعنى أنه يجب أن ينظر دائما إلى عمله، من خلال المراقبة الذاتية، أو التأمل الذاتي، أو بمراجعة استشارة الغير.. ويحاول أن ينظر دائما إلى أن القالب الذي يعطيه الخلود، هل لازال موجوداً أو غير موجود .
ما هي علامة العمل المقبول؟.. إن العمل المقبول، هو ذلك العمل الذي يعيش معه الإنسان الانتعاش الروحي.. يقول علماء الأخلاق: إن مع كل عمل صالحٍ مقبول هبة نسيم من عالم الغيب.. فالإنسان عندما يزاول عملا مخلصا لوجه الله تعالى، فإنه يعيش حالة من حالات النفحات الإلهية: حيث أنه يرى بأن الله عز وجل ينظر إليه برفق، ويرى التيسير والتسديد أينما يذهب.. بخلاف العمل الذي لا يعمله لوجه الله تعالى، حيث أن عينه تكون إلى الخلق، وإلى المكاسب، وإلى عاجل متاع الدنيا.. من الطبيعي أن يرى ذلك الإنسان أنه يقوم بخير!.. ولكن هذا العمل لا ينعكس لا في صلاته، ولا في دعائه، ولا في علاقته بالله عز وجل.. فإذن على الإنسان أن يتحاشى وبشدة، أن يكون سعيه كسعي الذين كفروا.. {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورا}.