{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}.. إن هذه الآيات آيات غريبة حقا، وهي آيات متعلقة بنبي الله موسى (ع).. فاللقاء الإلهي هنا كان ثلاثين ليلة، ولكن الله -عز وجل- تفضل على موسى، وزاده عشرا.. نستطيع أن نستخلص من ذلك عدة دروس، منها:
الدرس الأول: أن الإنسان بالدعاء الحثيث لإحراز القابلية، تُمدد له العطاءات المعنوية.. فاللقاء الإلهي في طور سيناء، هو لقاء مغتنم ومصيري لنبي الله موسى (ع)، وقد كان بالإمكان أن يواعده منذ البداية أربعين ليلة، ولكنه جعل الموعد على مرحلتين: أولى وثانية.. و"لعله ذكر الليالي دون الأيام -مع أن موسى مكث في الطور الأربعين بأيامها ولياليها.. والمتعارف في ذكر المواقيت والأزمنة ذكر الأيام دون الليالي- لأن الميقات كان للتقرب إلى الله -سبحانه- ومناجاته وذكره، وذلك أخص بالليل وأنسب.. لما فيه من اجتماع الحواس عن التفرق، وزيادة تهيؤ النفس للأنس.. وقد كان من بركات هذا الميقات نزول التوراة".
فإذن، إن الله تعالى قد اختار الليل، ليدل على أن اللقاء الإلهي يتجلى في الليل.. صحيح أن النبي هو موسى (ع)، والمتكلم هو الله عز وجل، والمكان المقدس طور سيناء.. لكن ليله يختلف عن نهاره.. وعليه، فإن هذا درس للجميع، ليغتنموا الليل لخصوصيته واختلافه عن النهار.
الدرس الثاني: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ}.. إن موسى (ع) يذهب للقاء الله وفكره وقلبه في أمته!.. وهذا اللقاء لقاء تخصصي مع الله عز وجل، فقد كلمه تكليما، وأعطاه الله ما لم يعطه للأنبياء السلف: من الحديث المباشر، وخلق الكلام.. ومع ذلك فإن قلبه مع الأمة!.. ومن هنا نعلم الجامعية في التكليف، فالإنسان الذي يصلي صلاة الليل، وهو في قمة إنشغالاته المعنوية، عليه أن لا يهمل أمر من حوله: سواء الزوجة، والذرية، والأرحام، والمجتمع، والجيران.. لا أن يتذرع بأنه مشغول بالمناجاة، فيعيش الفناء الإلهي، والذوبان في المعاني القدسية، وينسى تكليفه الإجتماعي.. فهذا موسى (ع) يذهب، ويعيّن الوصي في قومه.
الدرس الثالث: أن موسى (ع) يعلم بأن الميقات ثلاثين أو أربعين ليلة، ومع ذلك لم يترك الأمة دون وصي فقال:{اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}.. فمعنى ذلك أن هناك مفسدين في الأمة، ووجود النبي في الأمة يمنع المفسد من إظهار إفساده؛ لأن وجود النبي رحمة.. ومن هنا وقعت الواقعة في أمة نبينا الخاتم (ع)، وهذه الرواية المعروفة: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) أراد النبي (ص) أن يُفهم الأمة من خلالها، أنه كما أن غياب موسى (ع) عن الأمة من دون هارون، كان عرضة لظهور المفسدين.. فكذلك إن غياب النبي (ص) عن الأمة من دون وصي، سيكون عرضة لغلبة المستوليين، وانحراف الخط عما رسمه الله تعالى.
الدرس الرابع: {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ}.. فهنا الأبحاث القرآنية معمعة، لماذا قال موسى (ع): { رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ}؟.. إن موسى (ع) هو خامس أنبياء أولي العزم، وهو كليم الله.. فإذن، هو أعرف الناس بالله، وصفات كماله، وجماله.. فهل يقول موسى (ع) لربه:{أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ}، كما أرى الأشياء: كالجبل والأمور المادية؟.. حاشا هذا!.. فإن من أولويات إعتقاد المؤمن العادي، بأن الله -عز وجل- كما يقول تعالى في القرآن الكريم: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}.. فهذه الآية لم تأتِ بشيء جديد، إنها بيان لحقيقة يفهمها جميع الأنبياء والمتبعين لخط الأنبياء.
وبناء على ما تقدم، كيف يقول موسى (ع): {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ}؟.. وهنا انزلق البعض في البحث، وقال: نعم، موسى (ع) طلب من الله -عز وجل- الرؤية الحسية، وكما قلنا: فإن هذا لا يليق بالمؤمن العادي، فضلا عن النبي العادي، فضلا عن نبي من أولي العزم!.. فإذن، إن ما طلبه موسى (ع) هي -قطعا- الرؤية الممكنة!.. والرؤية التي تتناسب مع حقيقة الربوبية، وهي الرؤية التي لا تتوقف عند الحس، كما في النص الشريف: (رأته العيون بحقائق الإيمان، ولم تره بمشاهدة العيان).. إنه نوع من أنواع التجلي، والرؤية القلبية.
إن الله -عز وجل- قد تجلى للبصر: من خلال الشجر والماء، ومن خلال التكوين من الذرّة إلى المجرّة.. وكذلك تجلى للقلب بنوع آخر.. كما أن له أفلاك ومجرات وزينة في السماء، يتجلى بها للمؤمنين.. فكذلك يتجلى بلون آخر لعباده المخلصين.. فإذن، إن هذا هو التجلي، والرؤية التي أرادها موسى(ع) من الله عز وجل.. فما المانع أن يقتدي المؤمن بني الله موسى (ع) بأن يطلب نوعا من أنواع التجلي، أو نوعا من أنواع الرؤية المتناسبة مع عظمة الربوبية؟!.. إنها رغبة مقدسة وعظيمة!..
الدرس الخامس: {قَالَ لَن تَرَانِي}.. فإذا كان موسى (ع) قد طلب الرؤية المعنوية، فلماذا قال: لن تراني؟.. وإذا كان لن تراني، تشير إلى الرؤية الحسية، فلماذا طلب موسى (ع) الرؤية؟.. وهنا قد يبدو شيء من التعارض بين جزئي الآية.. وهنا أيضا بحث دقيق في هذا المجال: {قَالَ لَن تَرَانِي} بمعنى -هكذا أفضل وجوه الجمع- يا موسى!.. إن هذه الدنيا، وطبيعة الحياة الدنيا، لا تسمح لذلك التجلي الخاص الذي أردته مني.. نعم، تراني بمشاهدة القلوب، وكما قال تعالى في سورة أخرى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}.. نعم، إن مقدار من التجليات الإلهية مدخرة في الآخرة.. فموسى (ع) عبارة عن روح وجسد، وهو محكوم ببعض علائق الأرض، وطبيعة الحياة الأرضية لا تسمح ببعض التجليات.. فـ{قَالَ لَن تَرَانِي} بمعنى أنك لن تراني بتلك التجليات والرؤية الخاصة التي يرى ربنا في يوم القيامة.
وبعبارة واضحة: يا موسى!.. لي تجليات في الدنيا، وأخرى في الآخرة.. فهناك قسم من التجليات يمكن أن تشاهدها في الدنيا، من خلال عبادتك، ومناجاتك، وحديثك معي.. وقسم مدخر للآخرة.. كما أن الرحمة الإلهية كذلك، فرحمة الله بعثت النبي الخاتم، ورحمة الله بعثت هذا الوجود.. ولكن هل تعلمون بأن رحمة الله في هذه الدنيا، هي جزء من أجزاء الرحمة الواسعة، ولعله قد ورد في بعض التعابير: أنها جزء من مئة.. فإذن، إن الرحمة الإلهية تتجلى في القيامة بأوسع صورها، مع أنه في الدنيا هناك أيضا رحمة إلهيه متجلية.
الدرس السادس: {وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ}.. أي يا موسى!.. إذا أردت التجلي الخاص، فإني أعطيك أثرا وعيّنة.. فأنا أتجلى لهذا الجبل تجليا لا تحتمله الدنيا.. والجبل عنصر من عناصر المادة، وهو يشترك مع موسى (ع) في أن كليهما محكومان بقوانين المادة.. فتجلى ربنا ذاك التجلي الخاص للجبل، فـ{جَعَلَهُ دَكًّا}؛ أي أصبح مدكوكا متلاشيا في الجو.. {وَخَرَّ موسَى صَعِقًا}؛ أيمغشيا عليه من هول ما رأى.. فكلاهما اندكا كل بحسبه.
{فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}؛ أي رجعت إليك مما اقترحته عليك، وأنا أول المؤمنين بأنك لا ترى، ولن أطلب تلك الرؤية قبل وقتها.
فإذن، إن المؤمن في الدنيا يحب أن يصل إلى بعض المدارج المعنوية العليا جدا، والله يحجبها عنه.. لا لبخل في فيضه، وإنما لعدم تحمل المؤمن لبعض صور العنايات الخاصة.. ولذا، فإن على المؤمن أن يطلب ويقنع.. فعليه أن يطلب الدرجات العليا، ويقنع بما يُعطى.. لأنه هو الخبير والبصير بقابليات العباد، وبما يستحقونه من قوتٍ، سواء في عالم المادة أو في عالم المعنى