بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال عز وجل في محكم كتابه الكريم:
(وَاذْكُرْ فِى الْكِتـابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً(41) إِذْ قَالَ لأَِبِيهِ يـأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَالاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيئاً 42))يـاأبت إِنِّى قَدْ جَآءَنِى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأتِكَ فَاتَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيّاً(43) يـاأبَتِ لاَ تَعْبُدِالشَّيْطـانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كَانَ للرحمان عصِيّاً(44) يـاأبَتِ إِنِّىأَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمـانِ فَتَكُونِ لِلشَّيْطـانِ وَلِيّاً(45) سورة مريم
يعطف نبي الله ابراهيم عليه السلام نظره إِلى الجانب السلبي من القضية بعدما ذكر بعدها الايجابي ويشير إِلى الآثار التي تترتب على مخالفة هذه الدعوة، فيقول: (يا أبت لا تعبد الشيطان إِنّ الشيطان كان للرحمن عصياً).
من الواضح أنّ العبادة هنا لا تعني السجود والصلاة والصوم للشيطان، بل بمعنى الطاعة واتباع الأوامر، وهذا بنفسه يعتبر نوعاً من العبادة.
روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من أصغى إِلى ناطق فقد عبده، فإِن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإِن كان الناطق عن إِبليس فقد عبد إِبليس»
قوله تعالى: { يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً } إلى آخر الآيتين
الوثنيون يرون وجود الجن - وإبليس من الجن - ويعبدون أصنامهم كما يعبدون أصنام الملائكة والقديسين من البشر(الميزان)، غير أنه ليس المراد بالنهي النهى عن العبادة بهذا المعنى إذ لا موجب لتخصيص الجن من بين معبوديهم بالنهي عن عبادتهم بل المراد بالعبادة الطاعة كما في قوله تعالى:
{ ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان }
فالنهي عن عبادة الشيطان نهي عن طاعته فيما يأمر به ومما يأمر به عبادة غير الله.
عــرض إبراهيــم على أبيه في البداية أن لا يعبد الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ، وهنا يقول له : لا تعبد الشيطان ، فالشيطان هنا هو الذي يتجسد لهم على صورة صنم ، او على شكل و ساوس نفسية فيزين لهم عبادة غير الله ، و مادام الشيطان عصيا لله ، فهو - بطبيعة الحال - لا يهدي الى سبيل الرشاد ، بل يقود الناس على ما هو عليه من العصيان
لما دعاعمه إلى اتباعه ليهديه إلى صراط سوي أراد أن يحرضه على الاتباع بقلعه عما هو عليه فنبهه على أن عبادة الأصنام ليست مجرد لغو لا يضر ولا ينفع بل هي في معرض أن تورد صاحبها مورد الهلاك وتدخله تحت ولاية الشيطان التي لا مطمع بعدها في صلاح وفلاح ولا رجاء لسلامة وسعادة.
وذلك أن عبادتها - والمستحق للعبادة هو الله سبحانه لكونه رحماناً تنتهي إليه كل رحمة - والتقرب إليها إنما هي من الشيطان وتسويله، والشيطان عصي للرحمن لا يأمر بشيء فيه رضاه وإنما يوسوس بما فيه معصيته المؤدية إلى عذابه وسخطه والعكوف على معصيته وخاصة في أخص حقوقه وهي عبادته وحده، فيه مخافة أن ينقطع عن العاصي رحمته وهي الهداية إلى السعادة وينزل عليه عذاب الخذلان فلا يتولى الله أمره فيكون الشيطان هو مولاه وهو ولي الشيطان وهو الهلاك.
فمعنى الآيتين - والله أعلم - يا أبت لا تطع الشيطان فيما يأمرك به من عبادة الأصنام لأن الشيطان عصي مقيم على معصية الله الذي هو مصدر كل رحمة ونعمة فهو لا يأمر إلا بما فيه معصيته والحرمان عن رحمته، وإنما أنهاك عن معصيته في طاعة الشيطان لأني أخاف يا أبت أن يأخذك شيء من عذاب خذلانه وينقطع عنك رحمته فلا يبقى لتولّي أمرك إلا الشيطان فتكون ولياً للشيطان والشيطان مولاك.
لماذا وضــع الله كلمــة ( الرحمــن ) في مقابل الشيطان ، و لم يضع مثلا " الرب " ؟ ربما لكــي يوضــح حقيقة هامة ، وهي إن الشيطان هو حالة ضد الرحمة و نقيض لها
إِن إِبراهيم يريد أن يعلّم أباه هذه الحقيقة، وهي أن الإِنسان لا يمكن أن يكون فاقداً لخط ومنهج في حياته، فإمّا سبيل الله والصراط المستقيم، وإمّا طريق الشيطان العاصي الضال، فيجب عليه أن يفكر بصورة صحيحة ويصمم، وأن يختار ما فيه خيره وصلاحه بعيداً عن العصبية والتقاليد العمياء.
ثمّ يذكره وينبه مرّة أُخرى بعواقب الشرك وعبادة الأصنام المشؤومة، ويقول: (يا أبت إِنّي أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً).
إِنّ تعبير إِبراهيم هذا رائع جدّاً، فهو من جانب يخاطب عمّه دائماً بـ (يا أبتِ) وهذا يدل على الأدب واحترام المخاطب، ومن جانب آخر فإنّ قوله (أن يمسك) توحي بأنّ إِبراهيم كان قلقاً ومتأثراً من وصول أدنى أذى إِلى آزر
ومن جهة ثالثة فإِنّ التعبير بـ (عذاب من الرحمن) يشير إِلى أن أمرك نتيجة هذا الشرك وعبادة الأصنام قد بلغ حدّاً بحيث أن الله ـ الذي عمت رحمته الأرجاء ـ سيغضب عليك ويعاقبك، فانظر إِلى عملك الذي تقوم به كم هو خطير وكبير! ومن جهة رابعة، فإنّ عملك سيؤدي بك في النهاية أن تستظل بولاية الشيطان..
وفي قوله تعالى
يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا )إن الانسان الذي يريد أن يجمع بين الحق و الباطل ، بين الهدى و الضلال ، بين الخير و الشر ، فانه سيجد أن الخير و الهدى قد تبخرا ولم يبق معه سوى الشر و الضلالة ، إذ لا يمكن أن يجتمع عند الانسان الخير و الشر معا ولابد أن يذهب أحدهما وإذا تمادى البشر فيعبادة الشيطان فان الله يسلب منه ضوء العقل فيصبح وليا للشيطان الى الأبد ، وهذا عذاب عظيم يمس الذين يتبعون الشيطان
ولعل الآية تنفي - بصورة إيحائية - فكرة ضالة يبثها الشيطان في روع تابعيه خلاصتها : إن الله يبغضه وإنما الشيطان يحميه من غضب الرب .. و يسفه السياق هذا الزعم.
أولا : بأن الله هو الرحمن . ولا يبغض أحدا لذاته بل بسبب فعاله القبيحة
و ثانيا : إن إتباع الشيطان عذاب و شر مستطير و ليس فيه أية فائدة.
هذا هو حوار إبراهيم الذي يتميز بعدة سمات:
أولا : إنه حوار هادىء.
ثانيا : إنه يتدرج و يتصاعد شيئا فشيئا ، ففي البداية يقول لم ؟ ثم يقول لا تعبد ، ثم يقول إتبعني ، ثم يقول : إنه يخشى أن تكون وليا للشيطان.
في الواقع إن عم إبراهيم الذي يخاطبه إبراهيم (عليه السلام) بالأب لأنه كان يعيش في بيته كان فعلا وليا للشيطان ، بيد إن إبراهيم لم يجابهه بالحقيقة مرة واحدة 000*********************************************** *** ************************************************** **********************
تفسير الأمثل
تفسير الميزان
تفسير من هدي القرآن