أن تلوح بالوداع (وإن كنت طائعًا مختارًا)!..
أن تقرره حقيقة، وتعيش تفاصيله تمامًا، ثم تراه واقعًا ماثلاً أمامك، تحسه في لهفتك المتوارية، وأسف محبيك، ودموع المخلصين لك منهم! وحنينهم الذي حل قبل أن يبدأ! هو ذاك (وإن كان اختيارك) يبقى له قساوة الحجر، ومرارة الفقد! حتى وإن كنت تلهث وتسابق الزمن لتنتزع نفسك سريعًا من محيطك معهم، وقد أرخصت أثمانًا ليست سهلة لتمضي؛ لتحظى بكلمة الوداع، وتستدير راحلاً! وتلوح مجددًا بصمت الراضي الطائع، لكنه يظل موجعًا، ينتأ العبرات، ويقرص صبرها المصطنع، ويداريه إن نفد.. يستل آهاتها الكئيبة، ويقضم بعض فرحك أحيانًا كثيرة؛ لأجل الأشياء الجميلة التي أحببتها، والناس الطيبين الذين عشقت حضورك بينهم، وأحببت الأمكنة لأجلهم، الذين شرفت بهم، ثم حزنت لفراقهم، وستظل تفاصيل وقتك وإياهم ماثلة، باقية كما هي، تستعيد مجدها كما لو كانت للتو هطلت، وهذا الزمن الذي مضى بنا وبهم بدا كسفينة قد تهدأ الأمواج تحتها وتستكين، وربما ارتفعت واهتزت أشرعتها.
قد تضحك ملء قلبك، وقد تغضب كما لم تفعل من قبل! تشاكس، وترضى، تحاجج، وتستسلم أيضًا! كأنك مجموعة إنسان يتشكل حسبما تجري عليه أيامه! ثم يبرز بياض القلوب التي تحبها كضوء بديع في عتمة ما! لينسيك كل شيء وأي شيء مما يثقل القلب، ويجعلك تنسحب بهدوء عجيب!
يالهذه الحياة السريعة كيف تمضي بنا؟ وأقدار الله تعالى تفعل بنا ما لا نتوقعه أو نحسب له! لا أحد يعدد على أصابعه ويثني أنامله ويخطط طويلاً ويلهث مجددًا أو حتى يعتب على أيامه ويسأم من حاضره، كلها ستمضي وتندرج في الماضي، وتؤرشف في ذاكرة قد تحضر، وما أكثر ما تغيب!
أن تقول وداعًا لبيئة عملك، لمكان سكناك، لجيرانك، لبلد ما، لشخص ما، لأي شيء ولأي أحد تبقى دنيا أنت فيها حاضر، قد تلتقي بكل أولئك يومًا، وتستعيد روايتك معهم التي سطرتها أيامكم معًا، وحتى تفاصيلكم الصغيرة ستحضر كأنها الأمس،
لكن الوداع المخيف الذي يقطعك عن كل أولئك ويقطعك منهم، ذلك الموت الحقيقة التي نتوارى عنها، ولا نكاد نصدقها! فاللهم أحسن خواتيمنا، واجعل خير أيامنا يوم نلقاك يا رب.
لذا كن إيجابيًّا مع البيئة التي تحيطك، والبشر الذين تتعامل معهم؛ فمهما لبثت فيها وبينهم من سنوات لا تظن نفسك باقيًا إلى الأبد؛ سيأتيك ما يجعلك تقول لهم: وداعًا.