يندفعُ في شاحنتهالأمريكية الحمراء ، يغلقُ الباب بقوة حتى ينطبق على نفسه ، تتخللُ يده أسفَلَكرسي السائق باحثاً عن شيءٍ ما ، يتحسسُ أشياءً ... رزمة من المناجل تحتاجُ إلىالصَقل ، حبل وثيق ملتوٍ على نفسه ، تزدادُ يده بحثاً ... تنقبض على الشيء المُراد، يخرجه و علامة النصر طافقةً بوجنتيه المجعدتين ، تتسعُ عيناهُ الضيقتان ، وجههالمستطيل قاسي الملامح ينفرد قليلاً ، تخرج يده مظفرةً بعلبةِ السجائر التي بحثعنها ، ينتزعُ سيجارةً كان قد خبأها عن " منِي " حبيبته و بنت عمه وزوجته " الصمامية* " ، " مني صمامية " ذات الشعر الأسود والوجنة الوردية ... تتلألأ قلادة ذهبية في جيدها ، تلتحف رداءً أبيضاً مزيناًبالأزهار ، عيناها الواسعتان تعلم الدنيا معنى الاتساع لكل شيء ، المرأة التي تخبئتحتَ السرير الحلوى و العلكة ، الجدة و الأم و الحُب الساري في جسدِه منذ الطفولة، كل " صمامي " يضعفُ أمام " صمامية " لأنها هي الوحيدة التيتعلم كيف تُدرب عصبيته و تقطع أوصالَ ملامحه القاسية التي يصطنعها أمام الزوجة ،يبحث في جيبِ سترته العربية القرمزية اللون عن علبةِ أعواد الثقاب، يخرجُ العلبة ،يسددُ بيدهِ ضربة أسفل العلبة حتى تخرج فاهها و لم يتبقى فيها إلا أعوادٍ قليلة لاتكفي إلا لبضعِ سجائر ، يغرسُ السيجارة في فمه ، يشعلُ عوداً بيدهِ المتيبسةالمتخذة من الحديث " هذه يدُ يحبها الله و رسوله " مقولةً يُحتذى بهافهي قد عملت في كل شيء يمكنُ أن يصنع منها يداً يحبها الله و رسوله ، يخرجُالدُخان المُستخرج من مزارع الدخان بالمدينة ... تلك الأوراق الخضراء اليابسةالعريضة التي تغزو الأرض ، سهلةُ القدوم ... سهلةُ الذهاب ، من ثم تنتقل إلى مصانعالسُخام لتنتج سُخاماً و عفناً يعبقُ في الرئة.


يفتحُ نافذة الشاحنة تصدرُ صريراً غبياً ، يدور محركالشاحنة بغلظة ، ينتابه شعور غريب بالكُحة ... يسعلُ بقوة مؤلمة ، يضغطُ بالشبشبعلى البنزين فتثور الشاحنة العجوز التي أمضى برهةً من الزمن يجمعُ ثمنها ، يدورُفي ذاكرته البغل الذي رافقه طيلة السنين الماضية و الكارطون الخشبي أسودَ اللون وفضلاتٌ من أشياءٍ كثيرة تغزوه ، تمرُ في ذاكرته أيام الثورة الجزائرية و التسللليلاً إلى قاعدة ويلس العسكرية عندما كان ينهبُ هو و صديقه " الشريف "بعض البنادق بطرقهم الخاصة ، يتسللان داخل الأحراش و الصخور المزروعة داخل القاعدةمتخفيين عن أعينِ الحراس ، يتحركان كأشباحٍ بخفة ، يتخذا طريقاً ليست كالتي دخلامنها المعسكر ، ينسدلان مبتعدين عن بعضهما البعض ، يسأله الشريف يحاول طمأنة نفسه" معاك سلاحك ؟ " ، يدخلُ يده في قميصه مفرجاً عن مسدس خبأه ، "رصاص ؟ " يسأله الشريف مرة أخرى ، يضحك مفرجاً عن أسنانه التي أكلهَاالاصفرار الناتج من عُلب السجائر و كؤوس الشاي يقول له " خليتها لا تاكل لاتشرب " ، يبتسم الشريف ، يحملُ بندقيتين على كتفه ، يحملُ هو أيضاً بندقيتينماسكاً بطبنجته التي كان قد تحصل عليها في إحدى عمليات السطو على القاعدة . يتخذطريقاً مليئاً بطوابي الهندي ، يتشهى أكل بعض الثمار لكنه يدرك أنّ لا وقتَ لديه ،يتخفى جُرمه المليء بالخَبَش خلف الطوابي ، يرتفع ، ينخفض ، يخرجُ من القاعدةبنجاح ككل مرة ... يأخذ طريقاً مغايراً داخلَ سوانِي بالأشهر ، بين أشجارِ النخيل، من سانية إلى سانية إلى سانية يصلُ حيثُ وضعَ البغل و الكارطون المليء بنباتِالبرسيم ، يخبئ الأسلحة بعناية داخل البرسيم ، يشعلُ سيجارة منتظراً الشريف حتىيصل ، ما إن يصل الشريف حتى يأخذ عنه الأسلحة ليخبأها بعناية ، يصعدان الكارطون... و يتحركان نحو " بير حسين " حيثُ يقطن ، لكيْ يخبأ الأسلحة داخلالبئر حتى يحين موعد التهريب نحو الجزائر .


يعودُ إلى لحظته التي يعيشها ، يتمسك بمقود الشاحنة، تدفع نفسها نحو الطريق التُرابيْ المُتكسّر ، يقودها بعناية نحوَ الأحياءِالمتقوقعة على ذاتها ، عندما كان البغل و الكارطون في حوزته كان يدور الأحياءبحثاً على مصدرٍ للرزق ، نقل بضائع ، بشر ، أطفال ، حيوانات ، أما الآن فلا يسعىإلا للترويح عن نفسه بعد أن صار " أطفاله " بالأمس رجالاً اليوم ، عندوصوله مُراده عندَ المُنحدر المؤدي نحو " شارع الأصوال " ... يطفئالشاحنة ، يتململ خارجها نحو متجر " الحاج علي " لصقل المناجل ، يسلمُبصوت جهوري كان منذ زمن رمزاً من رموزِ العائلة ، يردُ " الحاج علي "المنغمس حتى آخره في مداعبةِ منجلٍ ما رافعاً بصره مُتلهفاً نحوه " و عليكمالسلام و رحمة الله و بركاته ، صمامة ... مرحب بالجنة جت أدنى " ، يقهقهالرجلان ، يتعانقان ... يقول " الحاج علي " في صوت مبحوح " اللييشوفك يقول بيناتنا جبال " ، يضحكُ قائلاً " يدور الشعير و يرجع لقلبالرحى " . يتسامران ، يسكبُ الحاج له كوباً كبيراً من الشايْ ، يأخذ منهرزمةَ المناجل ، يزيح القطعة التي كان يعملُ عليها و يستمران في الحديث و الحديث والكثير من الحديث و يستمر " الحاج علي في العمل ، يذكره الحاج " منالطبنجة لخدمة المناجل ... " ، يشعر بالحنين " هذه الدنيا " ، يشعلسيجارة للحاج و أخرى له ، يذكره الحاج بأخيه الأصغر لما جاءه يبكي و يشتكي شاباًقد ضايقه كيف ثار عقله و أخرجَ الطبنجة مسرعاً نحوَ الشاب ... قال له "قالوله أهرب الصمامة جايك " ، يضحكُ موافقاً له ، يستمر الحاج في رواية القصة، " و أنتَ روحك واصلة لخشمك و يا تقتله يا تقتله ، الولد من كثر الخوف ماقدرش يتحرك ، حطيتله الطبنجة في دماغه ، و بعد ستين خوذني و نجيبك لين حزوكم الناس، كان هذا مشي دمه و لوحوك في المركز ، كنت واعر يا صمامة ... واااعر " .يضحكان ... يجيبه قائلاً " جابه لروحه الله يرحمه ... " " اللهيرحمه " يترحمان على الرجل الذي تبين أنّه تُوفيَ منذ أشهر قليلة . بعد أنينتهي من كوبِ الشاي و ينتهي الحاج من صقل المناجل يسلم عليه ، يركب شاحنته ،يعودُ بها لقطع رقاب البرسيم بالسانية حاملاً معه ذكريات سادها الخَبَش و لم يفصحعن الكثير منها كعادته الصامتة