فدك بالأصل عبارة عن قطعة أرض زراعية خصبة بالقرب من خيبر. ولكن قضية فدك وما نشأ عنها وحولها يشكل أحد أكبر المآسي في التاريخ الإسلامي ويسلط ضوء الحقيقة على ما حدث بعد وفاة النبي محمد (ص) حيث أن تلك الأرض هي ملك لفاطمة الزهراء (ع) وقد صادرها واغتصبها منها أبو بكر بعد وفاة النبي محمد (ص). ولذلك يتحاشى الكثير من المؤرخين الإسلاميين ذكر ومعالجة هذا الموضوع بكل صراحة وعقلانية وموضوعية.
كانت فدك في الماضي لليهود الذين كانوا يعيشون عند حصن خيبر. ولما رأوا نجاحات المسلمين المتتالية أرسلوا وفداً يعرض المصالحة على النبي محمد (ص). وبعد أن قبل صلى الله عليه وآله وسلم المصالحة ووقع الطرفان على ذلك نقل المصالحون من اليهود ملكية نصف أرض فدك وفي روايات أُخرى كل الأرضللنبي محمد (ص) و بذلك صارت ملكه الخاص.
بعد ذلك صار النبي محمد (ص) يوزع من ريعها وما تعود به على المحتاجين والفقراء حتى نزلت الآية الكريمة في سورة الإسراء (17) الآية 26 من القرآن الكريم والتي ورد فيها:وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُوبذلك قام النبي محمد (ص) منصاعاً لأمر الله سبحانه و تعالى بإهداء فدك ونقل ملكيتها إلى ابنته فاطمة (ع) في 22ربيع الأول في السنة الثالثة للهجرة. وقد ذكرت ذلك العديد الكثير من المصادر نذكر منها:ورد في كنز العمال عن أبي سعيد الخدري أنه قال: لما نزلت : ( وآت ذا القربى حقه ) قال النبي ( ص ): يا فاطمة لك فدك.وورد في شواهد التنزيل الجزء الأول في سند آخره ...عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن علي قال : لما نزلت : "وآت ذا القربى حقه" دعا رسول الله فاطمة (ع) فأعطاها فدكاً.بعد وفاة النبي محمد (ص) واستلام أبو بكر الخلافة عقب اجتماع السقيفة صادرأبو بكر فدك من فاطمة (ع) وادعى أنها ملك للمسلمين.من الجدير ذكره أن فدك كانت أرض خصبة وكان لها ريع كبير ويروى أنها كانت تدر ما يعادل قيمته 24000 إلى 70000 دينار سنوياً وكان ذلك يعتبر مبلغاً كبيراً في تلك الأيام ويثبت ذلك ما تعلل به أبو بكر لما طالبته فاطمة (ع) بأن يرجع إليها فدك من أن تلك الأرض ليست ملكاً للنبي محمد (ص) وإنما ملك عامللمسلمين يتم منه تمويل جيش المسلمين.
ولما انتزع معاوية ابن أبي سفيان الحكم وزع فدك بين مروان ابن الحكم و عمرو ابن عثمان ابن عفان و ابنه يزيد ابن معاوية مما فيه تعارض صريح وواضح مع ادعاء كونها ملك عامللمسلمين.اتفق فقهاء المسلمين وعلماءهم على أن النبي محمد (ص) سخر كل ما يملك في خدمة الإسلام ولإعلاء كلمة الله في الأرض. وكان يعيش صلى الله عليه وآله وسلم مع زوجته خديجة (ع) والإمام علي (ع) معهما حياة متواضعة بعيدة عن البذخ.وقد كان للنبي محمد (ص) حسب معرفته بالظروف المحيطة به وبالنيات الحقيقية لبعض أصحابه أن الخلافة لن تستتب للإمام علي (ع) كما أمر الله ورسوله وأنه سيغصب حقه وموقعه الذي أراده الله له في غدير خُم.
ولذلك فإنه حسب الفقه الإسلامي الشيعي فإن النبي محمد (ص)أراد أن يؤمن مصدراً مالياً يكون دعامة للإمام علي (ع) ولأهل البيت (ع) لمساعدة الفقراء والمحتاجين وتأمين الاحتياجات المالية اللازمة لإدارة أمور الأمة الإسلامية دون أن يكون الأمر متعلقاً باستلامه الخلافة أو عدمه. وكان ذلك أحد الأهداف الرئيسية التي من أجلها جعل النبي محمد (ص) فدك ملكاً لفاطمة (ع) وتحت تصرفها. ولما غصبها منها أبو بكر طرد عمال فاطمة (ع) منها ووظف غيرهم.وما حصل بين فاطمة (ع) ومن غصب منها فدك ذُكر في مصادر عديدة نذكر منها ما رواه الطبرسي في الاحتجاج ما مفاده أنه لمّا بويع أبو بكر، واستقام له الأمر على المهاجرينوالأنصار، بعث إلى فدك من أخرج وكيل فاطمة بنت رسول اللَّهمنها، فجاءت فاطمة (ع) إلى أبي بكر ثم قالت: لِمَ تمنعني ميراثي من أبي رسول الله (ص) وأخرجت وكيلي من فدك وقد جعلها لي رسول الله (ص) بأمر الله تعالى؟
فقال: هاتي على ذلك بشهود فجاءت أُم أيمن فقالت: لا أشهد ياأبا بكر حتى أحتج عليك بما قال رسول الله (ص). أنشدك بالله ألست تعلم أن رسول الله قال: أم أيمن امرأة من أهل الجنة؟ فقال: بلى. قالت: فأشهد أن الله عز وجل أوحى إلى رسول الله (ص) (وآت ذا القربى حقه) فجعل فدك لها طعمة بأمر اللهتعالى. فجاء عليّ (ع) فشهد بمثل ذلك، فكتب لها كتاباً ودفعه إليها فدخل عمر فقال: ما هذا الكتاب؟ فقال: إن فاطمة ادَّعت في فدك وشهدت لها أُم أيمن وعليّ، فكتبته لها. فأخذ عمر الكتاب منفاطمة، فتفل فيه فمزَّقه، فخرجت فاطمة (ع) تبكي.فلما كان بعد ذلك جاء عليّ (ع) إلى أبي بكر وهو في المسجد وحولهالمهاجرون والأنصار فقال: يا أبا بكر لِمَ منعت فاطمة ميراثها منرسول الله (ص) وقد مَلَكته في حياة رسول الله؟؟ فقال أبو بكر: هذا فيء للمسلمين، فإن أقامت شهوداً أن رسول الله جعله لها وإلا فلا حق لها فيها فيه! فقال عليّ: يا أبا بكر تحكم بيننا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال: لا. قال: فإن كان في يد المسلمينشيء يملكونه فادَّعيت أنا فيه مَن تسأل البينة؟ قال: إياك أسأل، قال: فما بال فاطمة سألتها البينة على ما في يديها، وقد مَلَكته في حياة رسول الله وبعده، ولم تسأل المسلمين البينة على ما ادَّعوها شهوداً كما سألتني على ما ادَّعيت عليهم؟؟
فسكت أبو بكر فقال: يا علي دعنا من كلامك، فإنّا لا نقوى على حجتك، فإن أتيت بشهود عدول، وإلاّ فهي فيء للمسلمين، لا حقَّ لك ولا لفاطمة فيه!!.
فقال عليّ (عليه السلام): يا أبا بكر تقرأ كتاب الله؟ قال: نعم. قال: أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً). فيمن نزلت؟ فينا أو في غيرنا؟ قال: بل فيكم! قال: فلو أن شهوداً شهدوا على فاطمة بنترسول الله (صلى الله عليه وآله) بفاحشة ما كنت صانعاً بها؟ قال: كنت أُقيم عليها الحد كما أُقيم على نساء المسلمين!!! قالعليّ: كنت إذن عند الله من الكافرين! قال: ولِمَ ؟ قال: لأنك رددت شهادة الله بالطهارة وقبلت شهادة الناس عليها، كما رددت حكمالله وحكم رسوله أن جعل لها فدك وزعمت أنها فيء للمسلمينوقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): البينة على المدعي، واليمين على من ادُّعي عليه.
قال: فدمدم الناس، وأنكر بعضهم بعضاً، وقالوا: صدق - والله -عليّ. (إلى هنا)وبذلك فإن أبا بكر كان هو الذي عليه إحضار البينة حسب المقاييس الشرعية وليس فاطمة عليها سلام الله.وفي مرة أُخرى عندما طالبت فاطمة (ع) بفدك احتج أبو بكر بأن النبي (ص)لا يورث وقد ورد ذلك في عدة مصادر مثل الاختصاص للشيخ المفيد وبحار الأنوارللعلامة المجلسي.ومن ذلك ما رواه الشيخ المفيد عن عبد الله ابن سنان عن أبي عبد الله (ع) قال: لمّا قبضرسول اللَّه وجلس أبو بكر مجلسه، بعث إلى وكيل فاطمة صلواتاللَّه عليها فأخرجه من فدك.
فأتته فاطمة (عليها السَّلام) فقالت: يا أبا بكر! ادعيت أنك خليفة أبي، وجلست مجلسه، وأنت بعثت وكيلي فأخرجته من فدك، وقد تعلم أن رسول اللَّه صدّق بها عليّ، وأن لي بذلك شهوداً.
فقال: إن النبيَّ لا يورِّث!!
فرجعت إلى الإمام عليّ (عليه السَّلام) فأخبرته، فقال: ارجعي إليه وقولي له: زعمت أن النبيَّ لا يورّث "وورث سليمانُداود"(سورة النمل، الآية 16) وورث يحيىزكريا، وكيف لا أرث أنا أبي؟!
فقال عمر: أنت معلّمة! قالت: وإن كنت معلّمة، فإنما علّمني ابن عمي وبعلي.
قال أبو بكر: فإن عائشة تشهد وعمر أنّهما سمعا رسول اللَّه وهو يقول: إن النبيّ لا يورّث! (إلى آخر الرواية)ومن هنا يرفض فقهاءالمسلمين الشيعة احتجاج أبا بكر بأن الأنبياء لا يورثون لتعارض ذلك مع نص القرآن الكريم كما أسهبت فاطمة (ع) في إيضاحه في حين أن المسلمين السنة يتمسكون بتلك الحجة اقتداء بأبي بكر رغم أنه سمح لابنته عائشة أن ترث سهمها من حجرات النبي (ص).المثير للانتباه أن عائشة عندما طالبت عثمان ابن عفان بإرثها من النبي محمد (ص) فإنه احتج عليها بما شهدت به من أن الأنبياءلا يورثون مذكراً إياها بحرمان فاطمة من إرثها على هذا الأساس.لما لم تكلل محاولات فاطمة (ع) استرجاع فدك على المستوى الشخصي لجأت عليها سلام الله إلى الرأي العام لعرض مظلوميتها على المسلمين والمسلمات وأعلمت الناس أنها ستخطب في المسجد. لما علم المسلمون أن سيدة نساء العالمين وابنة رسول رب العالمين (ص) ستخطب أقبل المهاجرونوالأنصار ليستمعوا إليها. ويروى أنها عليها السلام أقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشيةرسول اللَّه (ص) حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد منالمهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة، فجلست ثم أنّتْ أنّةً أجهش القوم لها بالبكاء، فارتجّ المجلس، ثم أمهلت هنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم، وهدأت فورتهم، افتتحت الكلام بحمد اللَّهوالثناء عليه، والصلاة على رسول اللَّه فعاد القوم في بكائهم، فلمّا أمسكوا عادت في كلامها. وروت تلك الخطبة التي تعرف أيضاً بالخطبة الفدكية العديد من مصادر المسلمين الشيعةوالمسلمين السنة.لما استمع أبو بكر إلى ما قالته فاطمة (ع)أجابها:
يا ابنة رسول اللَّه (ص) لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفاً كريماً رؤوفاً رحيماً وعلى الكافرين عذاباً أليماً وعقاباً عظيماً، فإن عزوناه وجدناه أباك دون النساء، وأخاً لبعلك دون الأخلاّء، آثره على كل حميم، وساعده في كل أمر جسيم، لا يحبّكم إلا كلّ سعيد، ولا يبغضكم إلا كلّ شقي، فأنتم عترة رسول اللَّه (ص)الطيّبون، والخيرة المنتجبون، على الخير أدلّتنا، وإلى الجنّة مسالكنا، وأنتِ يا خيرة النساء وابنة خير الأنبياء، صادقة في قولك، سابقة في وفور عقلك، غير مردودة عن حقّك، ولا مصدودة عن صدقك، واللَّه ما عدوت رأي رسول اللَّه (ص)، ولا عملت إلاّ بإذنه، وإنّ الرائد لا يكذب أهله، وإني أُشهد اللَّه وكفى به شهيداً إني سمعت رسول اللَّه (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضّة ولا داراً ولا عقاراً وإنّما نورث الكتاب والحكمة والعلم والنبوة، وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر بعدنا أنْ يحكم فيه بحكمه، وقد جعلنا ما حاولته في الكراع والسلاح يقاتل به المسلمون ويجاهدون الكفار، ويجالدون المردة الفجّار وذلك بإجماع من المسلمين لم أتفرّد به وحدي، ولم أستبدّ بما كان الرأي فيه عندي، وهذه حالي ومالي هي لك وبين يديك لا نزوى عنك ولا ندّخر دونك، وأنت سيدة أُمة أبيك، والشجرة الطيبة لبنيك، لا ندفع ما لك من فضلك، ولا نوضع من فرعك وأصلك، حكمك نافذ فيما ملكت يداي فهل ترين أن أخالف في ذلك أباك؟.
فقالت (عليها السَّلام): سبحان اللَّه ما كان رسول اللَّه (ص) عن كتاب اللَّه صادفاً ولا لأحكامه مخالفا، بل كان يتّبع أثره، ويقفو سوره، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالاً عليه بالزور؟ وهذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل في حياته، هذا كتاب الله حكما عدلاً، وناطقا فصلاً، يقول: (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)، (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) فبيّن عزّ وجلّ فيما وزّع عليه من الأقساط، وشرّع من الفرائض والميراث، وأباح من حظ الذكران والإناث ما أزاح علّة المبطلين، وأزال التظنّي والشبهات في الغابرين.
(قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ).