أمّا القراءة الثّانية للقرآن الكريم فهي قراءة التدبّر، وهو الشيء المطلوب الذي تحثّنا عليه آيات الكتاب الحكيم.
والفرق بين القراءة والتدبّر، هو أن الأولى ليست أكثر من المرور على صُور الكتابة، أَيّة كتابة، ومنها القرآن الكريم، أمّا التدبّر، فهي القراءة مع استحضار العقل والقلب لفهم الآية واستيعابها وهضم معانيها، ولذلك ربطت الآية أعلاه بين التدبّر والقلب (العقل) ففي معاجم اللغة العربيّة فانّ التدبّر يعني النَّظر في عاقبة الأمر، فتدبر الأمر رأى في عاقبته ما لم يرَ في صدرهِ، وقول جرير؛ ولا تعرفون الأمر إلا تدبّراً؛ أن تنظر الى ما تؤول عاقبتهُ، والتدبّر التفكّر فيه.
هذا يعني أنّ القراءة لا تحتاج الى أكثر من تمرير العين على صُور الحروف والكلمات والجُمل، الآيات هنا، أمّا التدبّر فهو القراءة مع استحضار العقل والقلب للتفكّر فيما تمرّ عليه العين من صُور الآيات لاستنطاقها، ولهذا السّبب تصوّر الآية أعلاه حال من لا يتدبّر في آيات القرآن الكريم كما لو أنّ أبواب قلبه مقفولة لا تفقهُ ما يقرأ ولا تفهم شيئاً من صور الآيات التي تمرّ عليها العَين.
ورد في تفسير الآية المباركة {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيراً}، قوله [فالمرادُ ترغيبهم أن يتدبّروا في الآيات القرآنية ويُراجعوا في كلّ حُكمٍ نازلٍ أو حكمةٍ مبيّنة أو قصَّةٍ أو عظةٍ أو غير ذلك جميع الآيات المرتبطة به ممّا نزلت مكيّتها ومدنيّتها ومُحكمها ومُتشابهها ويضمّوا البعض إلى البعض حتى يظهر لهم أَنَّهُ لا اختلافَ بينها فالآيات يصدق قديمها حديثها ويشهد بعضها على بعضٍ من غير أن يكون بينها أيّ اختلافٍ مفروضٍ لا اختلاف التّناقض بأن ينفي بعضها بعضاً أو يتدافعا، ولا اختلاف التّفاوت بأن يتفاوت الآيتان من حيث تشابهِ البيان أو متانة المعاني والمقاصد بكون البعض أحكم بياناً وأشدّ رُكنا من بعض كتاباً متشابهاً مثانيّ تقشعرّ مِنْهُ الجلود].
فلماذا نحن بحاجةٍ الى أن نتدبّر في آيات القرآن الكريم؟!.
إنّ الفهم والاستيعاب والوعي كل ذلك لا يتحقّق إذا غُيِّب العقل عند القراءة، لأنّ مجرّد النّظر الى صور الأشياء لا يُنتج وعياً أو استنتاجاً وإلّا؛ مَن منّا لم يلحظ التُّفّاحة وهي تسقط من الشّجرة على الأرض؟ ولكن مَن منّا استنتجَ من هذه الصّورة قانون الجاذبيّة كما فعل نيوتن؟!.
ذات الأمر ينطبق على كلّ ما نقرأ وتلحظ صورهُ العين، فالقرآن الكريم الذي ترسم آياته الكريمة خرائط طريق لمشاكلنا الاجتماعيّة والأخلاقية والسياسيّة والاقتصادية وغيرها، لم ينتبهَ لها أو يستوعبَها ويستنتجها من يقرأ صور الآيات بلا تدبّر ومن دون استحضار العقلِ والقلب، وإلا كيفَ لنا أن نفهم القرآن الكريم الذي يصفهُ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بقوله:
{وَاعْلَمُوا أَنَّ هذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لاَ يَغُشُّ، وَالْهَادِي الَّذِي لاَ يُضِلُّ، وَالُْمحَدِّثُ الَّذِي لاَ يَكْذِبُ، وَمَا جَالَسَ هذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلاَّ قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَة أَوْ نُقْصَان: زِيَادَة فِي هُدىً، أَوْ نُقْصَان مِنْ عَمىً.
وَاعْلَمُوا أَنهُ لَيْسَ عَلَى أَحَد بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَة، وَلاَ لأحَد قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنىً; فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ، وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لاأوَائِكُمْ، فَإنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ، وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ، وَالْغَيُّ وَالضَّلاَلُ، فَاسْأَلُوا اللهَ بِهِ، وَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ، وَلاَ تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ، إنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إلَى اللهِ بِمِثْلِهِ.
وَاعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَقَائِلٌ مُصَدَّقٌ، وَأَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ فِيهِ، وَمَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْه، فَإنَّهُ يُنَادِي مُنَاد يَوْمَ الْقِيَامةِ: أَلاَ إنَّ كُلَّ حَارِث مُبْتَلىً فِي حَرْثِهِ وَعَاقِبَةِ عَمَلِهِ، غَيْرَ حَرَثَةِ الْقُرآنِ; فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَاسْتَدِلُّوهُ عَلى رِّبِّكُمْ، وَاسْتَنْصِحُوهُ عَلى أَنْفُسِكُمْ، وَاتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ، وَاسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ}.
إذا غيّبنا العقل والقلب عند القراءة، فمنحناهما إجازة مفتوحة عندما نقرأ القرآن في شهرهِ الفضيل؟!.
ولذلك ورد عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} قال:
يرتّلون آياته ويتفقّهون به ويعملونَ بأحكامهِ ويرجون وعدهُ، ويخافون وعيدهُ ويعتبِرون بقصصهِ ويأتمرون بأوامرهِ وينتهون بنواهيهِ، ما هو والله حفظ آياتهِ ودرس حروفهِ وتلاوةِ سورةٍ ودرس أعشارهِ وأخماسهِ، حفظوا حروفهُ وأضاعوا حدودهُ، وإنما هو تدبّر آياته والعمل بأحكامهِ، قال الله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ.
ولتحقيق التدبّر عند قراءة القرآن الكريم لا بأس باتّباع الخطوات التّالية؛
١/ استحضار العقل والانتباه للآيات وأجواءها العامّة عند القراءة، وعدم الانشغال بكلّ ما يسبّب شروداً ذهنياً او عدم تركيز.
٢/ السّعي لفهم الآيات ذاتيّاً قبل العودة الى كُتب التّفسير والشّروحات وغير ذلك، لبذل الجهد من أَجل تحريك العقل واستذكار المعرفة والعلم، فالعودة المباشرة الى التّفاسير تصنع سقفاً لنا يصعب علينا تجاوزهُ لنفكّر بعقولنا، فمن طبيعة العقل عادةً انّهُ يلجأ الى الجاهز من الأفكار والآراء ما لمْ يسعى صاحبهُ لتنشيطهِ بالتّفكر والتدبر، أو ما يُصطلح عليهِ هنا بالعَصف الفكري.
٣/ الرّجوع الى كتب التفسير المعتبَرة ولو البسيطة منها لمعرفة معاني الكلمات وأسباب النّزول وغير ذلك، لتكتمل صورة الآيات ومعانيها وأجواءها عندنا في ظلّ عقلٍ نشيط نستحضرهُ عند القراءة.
وهكذا يُمكن ان تكتمل الشّروط الأوّليّة للتدبّر والتفكّر والتعقّل والفهم والاستيعاب لآيات القرآن الكريم ونحن نقرأهُ في هذا الشّهر الفضيل.
وبقدر أهمّيةً قراءة القرآن الكريم في ربيعهِ النَّضِر، شهر رمضان المبارك، إلا أنّ التدبّر أهم من ذلك بكثيرٍ وأَضعافاً مُضاعفة، وإنّما نَحْنُ لم نستفد من آيات الذّكر الحكيم في حياتِنا اليوميّة على الرّغم من إنّنا نقرأ القران كثيراً طوال أَيّام السّنة، لأنّنا لم نتدبّر في آياتهِ فلم نستوعبها ونفهمها، ولذلك فانّ قراءتنا للقرآن عبارةً عن مرورٍ سريعٍ على صور الآيات البيّنات من دون حتّى محاولة لفهمها واستيعابِها، ومن الواضح جداً فانّ من لم يفهم المعنى لم يقدر على التفكّر والتدبّر، ومن لم يقدر على ذلك كيف تريدهُ أن يستنبط الحلول والآفاق من آيات الذّكر الحكيم؟! ولقد قيلَ في علم الأصول أنّ مقدّمة الواجب واجبة، أليس كذلك؟!.