قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ﴾ سورة البقرة، الآية: 154.
وقال تعالى في ايةاخرى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾سورة آل عمران، الآية: 169.
إنّ إطلاق كلمة الشهيد ـ من مادة الشهود ـ على هؤلاء، إمّا لحضورهم في ميدان الجهاد ضد أعداء الحق، أو لأنّهم يشاهدون ملائكة الرحمة لحظة شهادتهم، أو لمشاهدتهم النعم العظيمة التي أُعدّت لهم، أو لحضورهم عند الله، كما جاء في الآية الشريفة: (ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربّهم يرزقون)
وقلّ من يصل إلى درجة الشهيد في الإسلام.. أُولئك الشهداء الذين يذهبون ساحة الحرب بين الحق والباطل عن وعي وخلوص نيّة، ويقدّمون آخر قطرة من دمائهم الزكية في هذا السبيل.
وتلاحظ في المصادر الإسلامية روايات عجيبة حول مقام الشهداء، تحكي عظمة عمل الشهداء، وقيمته الفذّة.
فتقرأ في حديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّ فوق كلّ بر براً حتى يقتل الرجل شهيداً في سبيل الله»
وجاء في حديث آخر روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «المجاهدون في الله قوّاد أهل الجنّة»
ونطالع في حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام): «ما من قطرة أحبّ إلى الله من قطرة دم في سبيل الله، أو قطرة من دموع عين في سواد الليل من خشية الله، وما من قدم أحبّ إلى الله من خطوة إلى ذي رحم، أو خطوة يتمّ بها زحفاً في سبيل الله».
وإذا قلبنا أوراق تأريخ الإسلام، فسنرى الشهداء قد سجّلوا القسم الأعظم من الإفتخارات، وهم الذين قدّموا القسط الأوفر من الخدمة.

وليس هذا في الأمس فقط، فإنّ ثقافة الشهادة المصيرية اليوم ترعب العدو أيضاً، وتمزّق صفوفه، وتمنعه من النفوذ إلى حصون الإسلام، وتزرع اليأس في نفسه من إمكان تخطّيها، فما أكثر بركة ثقافة الشهادة للمسلمين، وما أشدّها على أعداء الدين.
لكن، لا شكّ أنّ الشهادة ليست هدفاً، بل الهدف هو الإنتصار على العدو، وحراسة دين الله والحفاظ عليه، إلاّ أنّ هؤلاء الحراس على دينهم يجب أن يكونوا على أهبّة الإستعداد، بحيث إذا إحتاج الحال بذل النفوس والدماء فإنّهم لا يتأخّرون عن بذلها، بل يبادرون إلى البذل والتضحية والإيثار، وهذا هو معنى كون الأمّة منجبة للشهداء، لا أنّهم يطلبون الشهادة كهدف نهائي.
لهذا نقرأ في نهاية حديث مفصل روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في شأن مقام الشهداء أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أقسم وقال: «والذي نفسي بيده، لو كان الأنبياء في طريقهم لترجلوا لهم لمّا يرون من بهائهم، ويشفع الرجل منهم في سبعين ألفاً من أهل بيته وجيرته»
وهناك نكتة تستحق الإهتمام، وهي أنّ للشهادة في ثقافة الإسلام معنيين مختلفين: معنى «خاص»، وآخر «عام» واسع.
أمّا الخاص فهو القتل في سبيل الله في معركة الجهاد، وله أحكامه الخاصة في الفقه الإسلامي، ومن جملتها أنّ الشهيد لا يغسل ولا يكفن، بل يدفن بثيابه ودمائه إذا توفي في ميدان المعركة!!
أمّا المعنى العام الواسع للشهادة، فهو أن يقتل الإنسان في طريق تأدية الواجب الإلهي، فإنّ كلّ من يرحل عن الدنيا وهو في حالة أداء هذا الواجب يعد شهيداً .

وفي هاتين الايتين الكريمتين يُعلِّمنا الله سبحانه وتعالى كيف نتأدّب أمام عظمة تلك الدماء، ففي الوقت الّذي نجد فيه أنّ الموت حقّ وأنّه أمر لا بدّ منه، وأنّه أمر طبيعيّ لكلّ الناس، وليس هو نقصاً،﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ﴾. سورة الزمر، الآية: 30.رغم ذلك كلّه نجده سبحانه وتعالى يأمرنا بالتأدّب أمام عظمة الشهداء فلم يرِد الله سبحانه وتعالى أنُ نطلَقه على الشهداء، تقديماً وتشريفاً لهم حتّى على المستوى اللفظيّ.
ومن اللفظ يتعمّق الفارق حتّى يكون حالة نفسيّة وحالة معنويّة خاصّة تُخيّم بظلالها على ذكر الشهداء والتعاطي معهم في حالة ترقٍّ قرآني من الحالة اللفظيّة إلى الحالة النفسيّة.هذا التأدُّب الّذي أشار إليه ااحد العلماء بشكل واضح في كلماته حيث يقول في بعضها: "كلّ ما للدنيا فانٍ وكلّ ما لله يبقى، وهؤلاء الشهداء أحياء عند ربّهم يُرزقون، لقد نالوا الرزق المعنويّ الأبديّ لدى ربّهم لأنّهم قدّموا كلّ ما وهبه الله إليهم وسلّموا إليه الأمانة. ولقد قبلهم الله تبارك وتعالى ويقبل الآخرين، وأمّا نحن فلنأسف على أنفسنا إذ لم نكن معهم لنفوز معهم. إنّهم سبقونا ووصلوا إلى السعادة ونحن بقينا في الوحل ولم ندرك القافلة لنسير في هذا المسير".

وورد عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "ما من قطرة أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من قطرتين: قطرة دم في سبيل الله وقطرة دمعة في سواد الليل لا يريد بها العبد إلّا الله عزّ وجلّ". بحار الأنوار، المجلسي، ج90، ص 329.إنّ قطرة الدماء تلك ربّما تكون قطرة من جهة الحجم، ولكنّها ليست كباقي القطرات، إنّها تختصر كلّ شيء، إنّها التوحيد الحقيقي الّذي نطق به لسان العمل مع كلّ ما يتفرّع عنه، هي إثبات الإخلاص حيث يرفع الإنسان يديه عن كلّ شيء ليتوجّه نحو خالق كلّ شيء، هي تكبيرة الإحرام العمليّة الّتي يرفع فيها المؤمن يده تعبيراً عن نفض يديه من كلّ شيء، من الدنيا وما فيها من مال وجاه وفتن ويتوجّه إلى الحقّ سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾. سورة الأنعام، الآية:162.وقد ورد عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "فوق كلّ ذي برٍّ برّ حتّى يقتل الرجل في سبيل الله".لكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 348.لعلّ تلك القطرة حصلت في شهادة حدثت في لحظة من الزمن،ولكنّها لحظة أشرف من سنين طويلة، وكأنّها ليلة القدر الّتي هي خير من ألف شهر، تنزّل فيها الملائكة لتبشّر الشهيد وتحتضنه وترفعه إلى جوار الأنبياء والأوصياء عليه السلام، ترفعه إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر!
الشهيد في الحسابالحساب هو ذلك الموقف الصعب الّذي يقف فيه الإنسان ليُسأل عن كلِّ كبيرة وصغيرة ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾سورة الزلزلة، الآيتان: 7 - 8..وهو من الأيّام العصيبة والطويلة والشاقّة حتّى يقول فيه البعض ﴿يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾ سورة النبأ، الآية: 40. في هذا اليوم الّذي تشخص فيه الأبصار وترى الناس سكارى، وتذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت، وتضع كلّ ذات حمل حملها، إنّه موقف مخيف وصعب جدّاً على الناس.ولكن هناك أشخاص استثنائيّون لهم وضعهم الخاصّ في كلّ شيء حتّى في هذا اليوم الصعب. لا يمسّهم في هذا اليوم سوء ولا تعب! إنّهم الشهداء، فهم الّذين تُذلّل دماؤهم الصعاب، ويمرّون دون حساب! فهنيئاً لهم!وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "من قُتل في سبيل الله لم يُعرِّفه الله شيئاً من سيّئاته" كافي، الكلينيّ، ج5، ص 54..فكثير من المؤمنين ممّن يغفر الله تعالى ذنوبه، تكون مغفرته بعد السؤال عن تلك الذنوب، وبعد الوقوف والخوف والتعرُّض لأهوال ذلك اليوم، أمّا الشهيدفقد أفادت هذه الروايّة أنّه ليس فقط يُغفر له ذنبه، بل هو لا يسأل عنها من الأساس ولا يقف ذلك الموقف الصعب، "لم يُعرِّفه الله شيئاً من سيّئاته"!.وفي ذلك اليوم هناك الكثير ممّن يتمنّى الرجوع إلى الدنيا لعلّه يُصلح ما أفسد ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا﴾ سورة المؤمنون، الآيتان: 99 - 100.. والشهيد أيضاً يُحبّ الرجوع ولكن لا ليُصلح ما أفسد بل ليُكرِّر عمله ويُجدِّد شهادته!وقد روي عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من أحد يدخل الجنّة يُحبّ أن يرجع إلى الدنيا، وأنّ له ما على الأرض من شيء22 ، غير الشهيد، فإنّه يتمنّى أن يرجع فيقتل عشر مرّات، لما يرى من الكرامة". صحيفة نور، جزء 15، ص 63.فأيّ كرامة تلك الّتي خبّأها الله تعالى للشهيد يا ترى؟!