نصُّ الموعظة القرآنية:
قال تبارك وتعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَ﴾1.
حقيقة الموت
يُجمعُ بنو البشر على حقيقةٍ قطعيّةٍ غير قابلةٍ للإنكار، ألا وهي الموت ووقوع انقطاع حياة الإنسان في هذه الدنيا، في حين يقع الاختلاف والافتراق في تحديد حقيقة وماهيّة هذا الهادم للّذات وطبيعته ولابدّيّة وحتميّة وقوعه، وهنا ينقسم الآدميّون إلى معسكرين، الأوّل وهو المعسكر المادي والإلحادي المُنكر لوجود الباري عزّ وجل، والمؤمن بأنَّ الكون والخلق إنّما كانا صنيعة الصدفة والانفجارات الكونيّة!! وهؤلاء يُنكرون كُلَّ ما جاءت به الشرائع والديانات من بيانٍ لفلسفة الموت وحقيقته وما وراءه من إيابٍ وحساب وثواب وعقاب، وبعبارةٍ أخرى هم لا يعتقدون بقضية المعاد والعالم الثاني من رأس، ولهذا عمدوا إلى البحث عن حقيقة الموت لتفادي وقوعه وحدوثه وتخليداً لحياتهم المهدّدة بالانقطاع والانهدام. وفي هذا السياق انتشرت المئات من الأبحاث العلميّة والنظريّات التحليليّة الموصلة ـ وبحسب المعتقد المادي المعتمد على التجربة والأبحاث المخبريّة ـ إلى أنَّ الموت عبارة عن نتيجةٍ حاصلة من حالاتٍ مَرَضيّة تصيب خلايا وذرّات البدن وتودي بالجسد إلى فقدان مناعته وفاعليّته وذلك من خلال أسباب عديدة منها انتشار السموم والبكتيريا الخفيّة في أنحاء الأنسجة المكوّنة لأعضاء الجسد، وانتشار المواد الهلاميّة الزلاليّة الساكنة وغير الفاعلة في الجسد مكان المواد الموّلدة للطاقة (الروح)، ويحدث من جرّاء ذلك خمودٌ في أنحاء البدن، وتوقفٌ عن الحركة والتفاعل وهذا هو (الموت).
وفي الحقيقة يسعى أصحاب هذه المقولات من خلال هذه الأبحاث والدراسات للوصول إلى أمرين أساسييّن:
الأوَّل: التشكيك في حتميّة ظاهرة الموت، والقول إنَّهُ أمرٌ غير قطعيّ ويقينيّ الوقوع والحدوث.
والثاني: السعي إلى إيجاد حلول تحول دون حصول هذه الأمراض منعاً لوقوع الموت وسعياً للوصول إلى الخلود الدائم الأبدي المنشود.
أمَّا الطرف المقابل للمعسكر الأوّل وهم أصحاب الفكر الديني، فإنَّهم يُقدّمون قراءةً ومقاربةً أخرى حول قضية الموت، هي نظرة الإسلام إلى الموت بغَضّ النظر عن مقولة الماديّين وأصحاب وأتباع الديانات الأخرى.
فالإسلام في نفس الوقت الذي يتحدّث فيه عن حتميّة ولابدّيّة وقوع الموت كما في قوله تبارك وتعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾2، ممّن يسعى للنجاة والمفرّ منه، كما في قوله عزّ وجلّ: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾3، ويقدّم مقاربةً فكريّةً عميقة لحقيقة الموت نستخلص منها ـ ولضرورة إيجاز المقال والاقتصار على الاختصار بحسب ما يتيحه المجال ـ أنَّ الموت عبارةٌ عن تحريرٍ للروح من أسر الجسد، لتلقى جزاءها وحسابها، وأنَّهُ عبارة عن قنطرةٍ من دار ممر إلى دار مقر، فالإنسانُ في حياته الدنيا تحت اختبارٍ وامتحانٍ وابتلاء، لتظهر نتائج أعماله وأفعاله يوم الحساب التالي لسفر الموت، وفي هذا قال تبارك وتعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾4،وقال عزّ من قائل: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾5.
فإذاً، قضية حتميّة الموت، والنشر والحشر، والمعاد والحساب، والثواب والعقاب، من الأمور التي لا تقبل الإنكار في الإسلام، وكثيراً ما تحدّث القرآن الكريم عن هذه الحقائق بشكل لا يبقي أي مجالٍ للتشكيك بحقانيّتها وصدقها.
حالة الإنسان عند الموت
من جملة الأمور التي وردت في الكتاب الكريم حالة الإنسان عند مواجهته الواقعيّة للموت فيراه رأي العين، ويذكر لنا القرآن الكريم نوعاً من الخطاب والحوار بين هذا الإنسان الذي وصل إلى هذه الحقيقة التي لا مفرّ منها، وبين خالقه وبارئه صاحب السلطة والقدرة على محاسبته ونشر كتابه بما يحوي من صالح الأعمال وطالحها.
يقول تبارك وتعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾6، لكن يتفاجئ الإنسان ويصطدم باستحالة العودة، فاليوم حسابٌ ولا عمل، وقد أغفل عُمُراً كاملاً من إمكانيّة العمل دون حساب، فيأتيه الجواب: ﴿كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَ﴾، والنتيجة: ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾7، وهنا يكرّر الله عزّ وجلّ الاستنكار لأهل التمرّد والعصيان، فيسألهم سؤال مستنكر: ﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾88، فيكون جوابهم واعترافهم بشقائهم وضلالهم راجين الله عزّ وجلّ أن يخرجهم من ورطتهم وعذابهم، واعدين إيّاه عدم العود إلى الظلم والمعصيّة، ليأتيهم الجواب كالصاعقة المحرقة لآمالهم والباعثة لآلامهم: ﴿قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾9.
بعد هذا الحوار الصريح والباعث للخوف والرهبة، ينبغي لكُلّ عاقلٍ أن يقف مليّاً عند هذه الآيات الكريمات، فالمحتمل بل المقطوع به خطيرٌ جداً، ألا وهو جهنم والنيران وبئس المهاد والخزي العظيم.