بقلم: الشيخ حسن الشمري
من الأسباب التي دعت الإمام عليه السلام إلى النهوض هي كثرة الرسائل التي انهالت عليه من مدن كثيرة وليس الكوفة حسب تطلب منه النصرة، وإقامة العدل الإلهي.
وما كان من الإمام إلا أن ينهض، ويستجيب لمطالب الأمة ويأخذ بحقها التي استلبه حكام الجور والطغيان، فقد سلب حكام الجور حقوق الأمة الطبيعية التي أقرّها الإسلام وثبتها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشقّ الأنفس.
فقد سلب حكام الجور ((كرامة الأمة))، وهي من أهمّ الحقوق التي سعى إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحققها بكلّ معانيها الفذة.
وقد عرف الإنسان هذه الخصلة بعد أن غابت عن ذهنه مدة طويلة.
جاء في سيرته المثلى:
عندما دخل عليه عدي بن حاتم الطائي قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأجلس عدياً مكانه، ثم أعطاه وسادته ليتكأ عليها وجلس سيد الكائنات على بساط خفيف لا يحجبه عن الأرض كثيراً.
فتعجب عدي بن حاتم من هذا الخلق الرفيع، فترك أثراً عميقاً في نفسه، ثم بعدها أسلم (رضوان الله عليه).
إنّ هذه الأخلاق رسمت الكرامة بكل وضوح، وأعطتها معنى سامياً.
من هنا فإن الإنسان في ظل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سما كثيراً، وتألق في سماء الفضيلة.
وكما هو ثابت في علم النفس التربوي: إنّ الإنسان إذا تلقّى الاحترام والتقدير من كبار القوم بالذات من القادة فإنّه يسمو بنفسه، ولا يميل إلى ما يشين سمعته.
وهكذا سمت شخصيات كثيرة، وأصبحت مثالاً يحتذى به، ولكن عندما جاء معاوية إلى الحكم وجد هذه الشخصيات عقبة كؤود أمام حكمه الجاهلي، فسعى بكلّ الوسائل للتخلص منها حتى يتمكن من السيطرة على الدولة، فتوسّل بولاة لا يقيمون وزناً لـ((لكرامة الإنسان))، ولا يفهمون معانيها.
فعبيد الله بن زياد كان لئيماً، وفاقداً للكرامة، وفاقد الشيء لا يعطيه، فألبس الناس الذلّ حتى غدا الواحد منهم لا يجرؤ على الكلام، ناهيك عن الاعتراض.
يقول التاريخ:
((فغاضت الألسن وكأن لم يخلق الله للقوم ألسناً وغارت الكلمات)).
ثم إنّ معاوية استعمل أسلوب التهكّم والاستهزاء بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبالأئمة عليهم السلام.
قال ابن حجر المكي: ((جاء بسند رواته ثقات: إنّ مروان لما ولي المدينة كان يسبّ علياً على المنبر كل جمعة، ثم ولي بعده سعيد بن العاص فكان لا يسبّ، ثم أعيد مروان فعاد السب))[1].
ويعد السبّ من الأساليب التي استعملها معاوية (لامتهان كرامة الأمة) عبر التجاوز على الرموز العملاقة التي تحفظ كرامة الأمة.
ثمّ جاء يزيد ليكمل المسلك السيء فأخذ بمنهاج أبيه، وزاد عليه بأن أفصح تماماً عن خطته اللئيمة في امتهان ((الإنسان))، وهكذا طلب البيعة من الإمام أبي عبد الله عليه السلام حتى يقيده بشروط مذلّة، ليسقطه في أعين الأمة.
ولكنّ الإمام أبا عبد الله الحسين عليه السلام أبى إلا أن يقاوم هذه الخطة، ويفشل مخططات الطغمة الحاكمة، ويحفظ كرامة الأمة، فشمّر الإمام عليه السلام عن ساعد الجد لضرب أيّ تحرّك يستهدف كرامة الأمة وينال من شخصيتها، فقد رفض البيعة وتحدى قوى الشر والظلام بكلّ قوة وصلابة، وهذا درس كبير من دروس التحدي والبطولة.
إنّ إذلال الأمة وامتهان كرامتها يعدّ خرقاً للقوانين الإسلامية وتجاوزاً على حقوقها الأساسية، فالكرامة حق طبيعي لا يمكن التفريط به بأي شكل من الأشكال، لذلك فإنّ الإمام أبا عبد الله عليه السلام ركز كثيراً على هذا الحق، وجعله من أولويات اهتمامه حتى أنه رفض أيّ شكل من أشكال المساومة إزاءه، من هنا فإنّ خروج الإمامعليه السلام من المدينة كان حفظاً لها ولكرامة أهلها.
وقد أخطأ البعض عندما حصر خروج الإمام وأوعزه إلى نداءات أهل الكوفة، ويدلّ هذا الرأي إلى سذاجة التفكير وسطحية الرؤية لعدة أسباب:
أولاً: هل غائب عن ذهن الإمام عليه السلام سيكولوجية الكوفيين وتركيبتهم السكّانية؟.
ثانياً: إنّ الإمام (صلوات الله عليه) لم يتوجه تلقاء الكوفة ليصنع الثورة حتى يعترض البعض.
فتحرك الإمام لم يتّسم بطابع الانفعال بفعل الرسائل التي انهالت عليه، ولم يجعل الكوفة هدفه النهائي، بل كان يريد تحرير الإنسان في كل الأمصار بدليل توجهه إلى مكة المكرمة، ثم إرسال المبعوثين إلى البصرة وباقي الأمصار، ثم إن الذين بعثوا الرسائل للإمام عليه السلام كان معظمهم من الخط المناوئ لأهل البيت عليهم السلام فكيف يطمئن الإمام عليه السلام إليهم؟.
لذلك فإنّ الإمام عليه السلام أرسل ابن عمه مسلم بن عقيل (رضوان الله تعالى عليه) حتى يستطلع الأمر، ويقف على حقيقة الأوضاع، وهذا يدلّ على حنكة الإمام عليه السلام وتحركه على وفق خطة محكمة بعيدة عن ردّات الفعل.
ثالثاً: إنّ هؤلاء لم يستقرئوا الظروف التي أحيطت بالكوفيين فجاء اعتراضهم أعوراً.
إنّ مشكلة المعترضين تكمن في عدم إحاطتهم بالحدث فيأتي الاستقراء مشوّهاً وعليلاً.
إنّ الكوفة كانت في عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام تشكّل العمق الاستراتيجي:
ولكن التغيير الديمغرافي الذي حصل بفعل التسفيرات للعوائل الشيعية جعلها على الهامش، ولكن مع هذا التهميش خرج منها من يعادل جيشاً كاملاً في نصرة أبي عبد اللهعليه السلام وسوف نفصّل ذلك.
فعليه فإن الإمام الحسين عليه السلام استطاع بنهضته المباركة إرجاع الكرامة وحفظ كيان الأمة. وقد تشكّل الثورات المتعاقبة إحدى الأدلة على ذلك، فقد تنفّس الحسّ الإنساني الصعداء، ونفض غبار الذلّ والمهانة فأخذ يقاوم بكل جرأة حكّام الجور، وينسف كل حواجز الخوف والتردد، إنّ العبرة بالنتائج، لذلك يقول العلماء: إن أيَّ حدث يقيّم بحسب نتائجه المستقبلية وليست الآنية.