عندما نتحدث عن الشعائر يسير الذهن إلى الشعائر المتمثلة في مجال النياحة والعزاء، والهيئات والمواكب الحسينية أو (المسيرات الشعبية)، وزيارة الحسين عليه السلام في كربلاء، أو عن بُعد، كما هو مألوف في أوساط المؤمنين في قراءة (زيارة عاشوراء) مثلاً أو (زيارة وارث) عن بُعد، وقرض الشعر في رثاء الحسين عليه السلام وأنصاره؛ وما يشبه ذلك مما هو مألوف ومتعارف في أوساط المؤمنين من أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
فأوّل ما يجب أن نعرفه في هذا السياق هو الدلالات التي تحملها هذه الشعائر التي ورد التأكيد عليها كثيراً في أحاديث أهل البيت عليهم السلام، والتي يتعاطاها المؤمنون من أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
إنّ هذه الشعائر التي تتجدد كل سنة، تحمل دلالات سياسية وثقافية واضحة، ولا نحتاج إلى توقف كثير لنكتشف الدلالات التي تختزنها مجالس النياحة، والعزاء، ومسيرات التعاطف، والتفاعل، والتضامن مع القضية الحسينية في عاشوراء.
إنّ هذه المسيرات والتجمّعات تحمل معنى (الشعار)، ومعنى الشعائر: الإعلام، والإعلان، والإشهار… هذا أولاً، وهذا الإعلام والإعلان ينصب على (الموقف) و(الانتماء).
إنّ هذه الشعائر إعلان للموقف السياسي والثقافي، وإعلان للانتماء، والهوية الحضارية والثقافية والسياسية للناس… وهذه هي النقطة الثانية.
ولماذا هذا الإصرار على إعلان (الموقف) والانتماء؟
هذا هو السؤال الذي تثيره هذه الشعائر ويتطلب الجواب الصحيح.
إنّ الإصرار على إعلان (الموقف) و(الانتماء) بهذه الصورة من المتابعة، والتأكيد، والتحديد، لا يكون إلاّ في ظروف صراعات حضارية صعبة، لابدّ أن يتميّز فيها كل من المعسكرين المتصارعين.. عندئذ لابدّ للأطراف المتقابلة في هذا الصراع أن تكشف عن هويتها، وتعلن عن انتمائها السياسي والحضاري.. وإلاّ فسوف يمحق في هذه المعركة، ويكتسحه الطرف الآخر.
إنّ الصراع اصطفاف لمعسكرين متقابلين.. وكل عنصر يدخل في هذا الصراع لابدّ أن يحدّد موقعه وصفّه من هذه المعركة، وفي غير هذه الصورة يكتسحه ويجرفه الطرف الآخر، ولكي لا ينجرف في ساحة الصراع إلى طرف العدو، لابدّ أن يحدّد موقعه من المعركة، ويصطفّ إلى جانب المعسكر الذي ينتمي إليه، ويعلن عن انتمائه وموقعه وموقفه في تلك المعركة.. وهذه قضية معروفة واضحة في المعارك العسكرية: (الاصطفاف)، (الانتماء)، ولا يختلف الأمر في الصراعات الحضارية والسياسية والثقافية عن المعارك العسكرية، ففي كلّ منهما لابد من تحديد الانتماء، والموقف، والمواقع من المعركة، وإعلان الانتماء وإشهار الموقف.
ونحن نعيش على وجه الأرض في ساحة صراع سياسي وحضاري وثقافي.. ويجب ألاّ تخدعنا حالة السلام العسكري أو الهدنة العسكرية عما تختزنه الساحة السياسية والحضارية من صراع ومواجهة.. وإذا كانت المعارك العسكرية تقبل الحلول النصفية والترقيعية؛ لأنّها حالة الحرب، فلا تقبل الصراعات السياسية الحلول النصفية.
وليس معنى هذا الكلام أنّنا ننفي أو نرفض (حوار الحضارات)، فإنّ الإسلام لا ينغلق على هذا المشروع الحضاري في بعض الحدود المعقولة، ولكننا بصدد بيان الواقع الحضاري في حياة الناس، بعيداً عن الشعارات، وما يختزنه الواقع من صراع قاس شديد، ينتقل من جيل إلى جيل، حتى يرث الصالحون بإذن الله تعالى الأرض وما عليها، وتنتقل السيادة على وجه الأرض إلى الصالحين من عباد الله {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}.(الأنبياء:105)
إنّ الصراع القائم بين وموسى على نبينا وآله وعليه السلام وفرعون، وبين عيسى على نبيّنا وآله وعليه السلام وقومه، وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعتاة قريش.. لم ينقطع بعد موسى وعيسى ابن مريم على نبينا وآله وعليهم السلام، وبعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والقتال في (صفين) امتداد للقتال في بدر.
وعلي عليه السلام وعمار رضوان الله تعالى عليه وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقفوا في صفين على مواقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في (بدر)، ومعاوية وعمرو بن العاص وقفوا في صفين على مواقف أبي سفيان وأبي جهل في بدر.
ومعركة الطف امتداد لمعركة (صفين) ومعركة (بدر).
ولم ينقطع هذا الصراع في تاريخنا، وإن اختفى الوجه العسكري لهذا الصراع.
إنّ هذا الصراع يمتد من جيل إلى جيل، ومن أرض إلى أرض.
فما دام يحكم حاكم على وجه الأرض بغير حكم الله.
وما دامت حدود الله معطلة.
وما دامت الفرائض الإلهية لا تقام على وجه الأرض.
وما دام السلطان والقوة لغير دين الله.
وما دام الشرك يلوّث وجه الأرض.
وما دام الظلم يحكم عباد الله.
وما دام الاستكبار والاستضعاف يشطر الناس إلى شطرين.
وما دام الطاغوت يصدّ الناس عن دين الله، ويحمل الفساد والظلم إلى الناس.
وما دام للظلم والشرك سلطان على وجه الأرض فالصراع باق لا محالة، ولم يكن خروج الحسين عليه السلام على حكومة بني أمية إلاّ تجسيداً لهذا الصراع، وتأكيداً وتعميقاً له.
ولم يكن للحسين عليه السلام دعوة ولا غاية في هذا الخروج إلاّ الأمر بالمعروف الذي جاء به جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وشرّعه ومنهج أبيه علي بن أبي طالب عليه السلام والنهي عن المنكر الذي أسّسه بنو أمية وأتباعهم من يوم سقيفة بني ساعدة.
ونحن اليوم في ساحة الصراع نقف عند مواقف إبراهيم الخليل، وموسى الكليم وعيسى روح الله على نبيّنا وآله وعليهم السلام، ومواقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى مواقف أمير المؤمنين علي عليه السلام، ومواقف الحسن والحسين عليهما السلام؛ والطغاة، والجبابرة، وأئمة الضلال والكفر وأذنابهم، يقفون على مواقف نمرود وفرعون وأبي جهل وأبي سفيان وآل أبي سفيان وبني أمية، وآل مروان وآل أمية.
وفي هذا الاصطفاف الحضاري والسياسي لابدّ من إعلان (الموقف) وإشهار (الانتماء).
وهذا هو معنى الشعار والشعائر.
والشعائر الحسينية تقع في هذا السياق.
إذن لكي نفهم قيمة الشعائر الحسينية ودورها في حياتنا الحضارية، والسياسية، والثقافية، وضرورتها، وأهميتها التاريخية لابدّ أن نتوقف عند المفاهيم الثلاثة التالية التي تحدثنا عنها هذه المقدمة وهي:
(الشعار) و(الانتماء) و(الصراع)

الشعائر الحسينية الصراع الولائي العقائدي
الحاجة إلى الشعار والإشعار تبرز في ساحات الصراع العقائدي والعسكري غالباً.
فإنّ الشعار: إشعار بالانتماء؛ والمقصود من الانتماء كلمة (الولاء) في المصطلحات الإسلامية.
والشعار إشعار بالولاء، وليس هو الولاء.
وتتأكد الحاجة إليه في ساحات الصراع، لأنّ الإنسان يحتاج إلى أن يذكّر نفسه بولائه وانتمائه في ساحات الصراع، ويختلف المنتمي عن اللامنتمي كثيراً في الثبات على الموقف.. ولذلك يحتاج المقاتل أن يشعر نفسه ويذكّرها بولائه بصورة مستمرة، ليثبّت أقدامه على أرض المعركة.
وكان المقاتلون يحتاجون في ساحات القتال والمعارك العسكرية إلى الشعار حتى يعرف به عدوه عن صديقه.
فقد كانت صفوف المقاتلين تتشابك في القتال عندما كان القتال يجري بالسلاح الأبيض، فلكي يميّز المقاتلون خصومهم عن أصدقائهم، ومن يقاتلونه عمّن يقاتلون معه، كان يتّخذ كل معسرك لنفسه شعاراً واحداً ليتمايزوا به عندما تشتبك صفوف المقاتلين.

وهذه الشعارات كانت تعبّر غالباً عن انتماء كل منهما العقائدي والقومي والوطني والديني، حسب نوع المعركة.
وهكذا شاعت ظاهرة الشعارات في الحروب، هذا عن (الشعارات) في ساحة المعركة.
وأمّا (الشعائر) التي يتخذها الناس في سلوكهم الاجتماعي الديني والحضاري فهي أيضاً نوع من التعريف بانتمائهم الديني والثقافي والحضاري في ساحة الحياة، وساحة الحياة ساحة صراع دائماً، وهذا الصراع هو صراع الولاءات، وما يحتاج المقاتل في ساحات القتال يحتاجه في ساحات الصراع الحضارية أيضاً من الإعلان عن انتمائه وولائه، تثبيتاً لمواقفه في هذه الساحة، وتعريفاً بانتمائه وولائه.
فالحديث عن (الشعائر الحسينية) يختص ساحات الصراع العقائدي والثقافي وهي ساحات لصراع الولاءات، وهو من أضرى أنواع الصراع في حياة الإنسان.
وهذا الصراع قائم بين أنصار الحسين عليه السلام على امتداد التاريخ وخصومه.
ولم تنقطع المقابلة والمواجهة بين جبهة الأنصار والخصوم منذ يوم عاشوراء من سنة 61هـ، إلى اليوم البتة، وسوف يمتدّ ويستمر هذا الصراع، حتى يظهر من يثأر لخط الحسين عليه السلام ودعوته، آخر الزمان، وهو المهدي من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، من أحفاد الحسين عليه السلام.
وأما الشعارات الحسينية فهي التي كان الحسين عليه السلام وأنصاره يرفعونها في ساحة القتال للتعريف بأنفسهم ودعوتهم وانتمائهم وولائهم.
وعلى كل حال، فإنّ (الشعائر) و(الشعارات) من باب واحد، تخصّ ساحات الصراع والمواجهة، للتعريف بانتماء الإنسان وولائه في ساحة الصراع.