إجتماع الهم والغم في بعض الأحيان فيكونان (المصيبة)
حينما خلق الله تعالى الحياة الدنيا جعلها محفوفة بالبلايا والمكاره مما يجعل البلاء يتفاوت في مراتب الشدة ويتنوع في مجاريه الحياتية، فمرة يصيب العافية، ومرة يصيب المال، وأخرى الولد وأخرى الإيمان ــ نعوذ بالله ــ من مواطن الابتلاء بالإيمان.
وقد أشار القرآن إلى كثير من هذه الابتلاءات وبين آثارها على الإنسان ونبه إلى طريقة التعامل معها ونهى عن الانزلاق في نتائجها كالجزع والتقصير والكفر وغيرها.
وفي نفس الوقت أشار القرآن الكريم إلى منزلة الفائز في هذه الابتلاءات لدرجة أنه خصهم بصلاة الرحمن جلت قدرته لاسيما في مواطن المصيبة والتي كما أسلفنا تتكون من اجتماع الهم والغم في منزل واحد، قال تعالى في سورة البقرة (الآيتان: 156، 157):{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ *أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}، ولشدة ما يصيب القلب من الانقباض والكدورة وانحصار الدم فيه استحق أصحاب المصائب هذه الرتبة.

أما اختلاف أنواع الابتلاءات فقد دل عليها قوله تعالى في سورة البقرة (الآية155): {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ }.
إذن: فقد تجتمع على الإنسان في مرحلة من مراحل حياته ابتلاءات يكون فيها الهم والغم قرينين وهو ما أشار إليه الإمام الحسين عليه السلام في دعائه.
والإمام الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء قد جعل للهم دلالتين وللغم دلالتين في دعاءه.
أما الهم فقد دل عليه بقوله: «كم من همٍ يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة» وهذا كاشف عن أمرٍ لم يقع وإنما سيقع مستقبلا وكلما كانت القرائن على قرب وقوع البلاء كلما كان الهم أعظم، ووفقا لذلك فقد جعل الإمام الحسين للهم علامتين وهما:
1ــ ضعف الفؤاد.
2ــ قلة الحيلة.
وقد دل عليه أي على الغم بعلامتين وهما:
1ــ يخذل فيه الصديق
ولا يخذل الصديق إلا عند ملاحظته وملامسته لوقوع البلاء فيخذل صاحبه عندها.
2ــ ويشمت فيه العدو
ولا يشمت العدو إلا بوقوع مكروه في خصمه. فكلتا الحالتين ــ أي خذلان الصديق وشماتة العدو ــ لا تحصل إلا عند وقوع البلاء، فيخذل الأول ويشمت الثاني، وكلاهما من حيث حجم البلاء النازل به عليه السلام واحد، أي يصبح الصديق الخاذل والعدو الشامت في رتبة واحدة من البلاء، مما يزيد في غم المؤمن.
فأين يكون المخرج عند اجتماع الهم والغم؟.
هذا ما يجيب عليه الإمام الحسين عليه السلام بقوله: «أنزلته بك، وشكوته إليك، رغبة مني إليك عمن سواك».
وهذه حالة خاصة بسيد الشهداء عليه السلام؛ إذ في الغالب يلجأ الإنسان في المصائب إلى الأهل والأخوان وينسى لعظم مصيبته اللجوء إلى الله تعالى فيلتمس من المخلوق قبل أن يلتمس من الخالق.

لكن الإمام الحسين عليه السلام يبدأ من الله تعالى وإليه يعود فلا ينزل هذه المصيبة إلا في حضرة قدسه ولا يشكو همه وغمه إلا إلى الله تعالى، وهذا يكشف عن حجم البلاء النازل به فهو بين هم ما ستوقعه الحرب من البلاء على أبنائه وعياله وأصحابه وأطفاله وبناته، وبين الغم الذي يكشف عن يقينه بما سيحل به وبأهل بيته، وهذه من خواصه الفريدة؛ إذ الداخل إلى الحرب لا يصيبه الغم وإنما الهم لأنه غير متيقن مما سيحل به فقد لا يصيبه مكروه ويعود إلى أهله سالما غانما ولذا فهو مهموم تحسبا من وقوع أذى.
بينما سيد الشهداء عليه السلام كانت نتائج الحرب كلها حاضرة أمام عينيه، بل أينما وقع نظره رأى ما يدور في هذا المكان أو ذاك من حوادث.
ولذلك لم يصب أحد من أولياء الله بمثل ما أصيب به حتى الأنبياء عليهم السلام فهم في حالة الهم في نزول البلاء وليس الغم لأنهم يرجون دفع البلاء عنهم في جميع لحظات الحرب أو البلاء، قال تعالى في سورة يوسف (الآية: 110): {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ }.
في حين كان سيد الشهداء عليه السلام موقناً لا محالة بما سيحل به مفوضا أمره إلى الله تعالى، لأنه مأمور بالذهاب إلى هذا البلاء وتلقيه بنفس راضية مطمئنة ولطالما بيّن ذلك في يوم عاشوراء حيث قال: «هون ما نزل بي أنه بعين الله» (الانتصار، العاملي: ج9، ص62).

المسألة الثالثة: علاقة الهم بالفؤاد
غالبا ما نجد الدلالة اللفظية بين أهل اللغة والقرآن مختلفة، فدلالة الفؤاد عند اللغويين هي القلب، وقيل: وسطه، وقيل: غشاء القلب، والقلب حبته وسويداؤه (لسان العرب لابن منظور: ج3، ص329).
والدلالة اللفظية للفؤاد في القرآن: هي الفكر (تفسير الميزان، محمد حسين الطباطبائي: ج12، ص312)، قال تعالى في سورة النجم (الآية: 11): {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}.
وقال تعالى في سورة النحل (الآية: 78): {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }.
قال العلامة الطباطبائي قدس سره: (ــ والآية تشير ــ إلى مبادئ العلم الذي أنعم بها على الإنسان فمبدأ التصور هو الحس والعمدة فيه السمع والبصر، وإن كان هناك غيرهما من اللمس والذوق والشم ومبدأ الفكر هو الفؤاد) (تفسير الميزان، محمد حسين الطباطبائي: ج12، ص312).
ومن هنا أراد الإمام أبو عبد الله عليه السلام أن يظهر للناس العلاقة بين الفؤاد ــ الذي عرفته عنه الآية بأنه الفكر ــ وبين الهموم التي تضعف هذا الفكر، أي الفؤاد.
أما كيف يتم ذلك؟ فمن خلال انشغال فكر الإنسان بهذا البلاء يضعف فؤاده وينسى ذكر الله تعالى، ويرى أن مصيبته ليس لها مثيل وأنه ابتلي بما لم يُبتلَ به غيره، وكلما ازداد البلاء وعظم أمره كلما كانت النتيجة عكسية على الفكر وانشغاله وتشتت البال وشروده.

في حين يعيد الإمام عليه السلام الفؤاد إلى جادة الطريق ويرجعه إلى موطنه ومهده حينما أنزله من منزل الانشغال والاضطراب إلى منزل الأنس والطمأنينة، فقال عليه السلام: «أنزلته بك وشكوته إليك»، أي حينما يكون الدافع في الشكوى إلى الله تعالى في نزول البلاء وتعاظمه على الإنسان، هو الرغبة إلى الله تعالى عمن سواه من الخلق فالنتيجة حتما ستكون: «فكشفته وفرجته».
وهذا يكشف عن أمرين:
أحدهما: أن الإنسان في الشدائد والكروب والخوف والحزن يفزع إلى الأقرب والأحب لديه دون أن يدرك ذلك، ولا غرابة في هذا، لان هذا الشعور متمركز في اللاوعي لاسيما وأن الإنسان في المراحل الأولى من عمره يلجأ إلى الأم ومن ثم إلى الأب أو الزوجة أو الزوج أو إلى الأخ، وحتى في الالتجاء إلى الأخوان نرى أن البعض من حيث اللاوعي أو اللاشعور يذهب إلى الأحب إلى قلبه منهم وهذا في لحظات ورود الشدة، أما في حالة الاستقرار فقد يبحث الإنسان في هذه الحالة بوعي عن الأكفأ والآنس لحل مشكلته.
في حين نرى الإمام الحسين عليه السلام يفزع في كل كرب وشدة وهمّ ــ وهو الذي يضعف معه الفؤاد ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو ــ إلى الله تعالى رغبة منه عمن سواه، وإن هذه الرغبة من صميم الفؤاد ــ أي الفكر ــ.
وهذا يعني: أنه عليه السلام قد فزع والتجأ وشكا إلى الأقرب والأحب إلى قلبه لأن الرغبة أحد مصاديق الحب وهي شعور وجداني إنساني ينبعث من القلب فيحرك المشاعر نحو المقصد وهو الله تعالى.
والأمر الآخر: هو الخلوص في التوحيد لله تعالى، بمعنى لم يكن في قلبه من هو أحب إليه من الله تعالى وأن جميع المتعلقات الدنيوية من الأبناء والأخوان والوالدين والأقرباء والأصحاب والمال وغير ذلك، كل هذه المتعلقات الدنيوية لم تكن تنال الشراكة في قلبه وحبه لله تعالى، وإلا لكان قد شكا هذا الهم إلى أحد أولئك.