ماذا قال الرسام البريطاني الشهير رايموند بريغز عن الحرب العالمية القادمة؟
لدى رايموند بريغز من المبررات المنطقية ما يكفي للشعور بالتذمر الذي يتظاهر به. إذ توفيت شريكته، التي ظلت معه 40 عاماً، العام الماضي بسبب مرض باركنسون. كانت شريكته مريضةً لسنواتٍ طويلة، أكثر بكثير مما كان يدرك.
يحكي بريغز قائلاً: "أنظر إلى الوراء وأقول لنفسي: يا إلهي، يا لغرابة الأشياء التي فعلتها ليز. منذ أعوام، عدت للبيت ذات يوم، ووجدت سجادةً جميلةً مُلقاةً على العُشب. أمر عجيب. لمَ ألقَتها بعيداً؟ لم أفهم. يا إلهي، كان هذا أمراً مثيراً للغضب. لكن في هذا الوقت، لم نكُن نعلم أنها مريضة. لقد أُصيبت بهذا المرض الفظيع". ثم أخذ نفساً عميقاً وأكمل: "لا عليكِ. كان هذا مزعجاً، لكن ها نحن أولاء، وهكذا الحياة. لا عليكِ".
كانت هذه المرَّة الثانية لبريغز، الرَّسام الإيضاحي، التي يفقد فيها زوجته. ففي عام 1963، وكما يقول تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية، تزوّج رسَّامة قابلها في كُلية الفنون. وقال بريغز: "لم أكن من النوع المُولع بالزواج، ولم يحترق فؤادي بحبها، أو أي شيء. لقد أحببتها، لكني لا أستحسن الزواج تحديداً. ولا أستنكره أيضاً. كل ما في الأمر أنني لا أرى فائدة من ربط العلاقات العاطفية بالقانون. لطالما بدا لي الأمر فظيعاً. لكنها أُصيبت بالفصام (السكيتزوفرينيا)، وقد تزوجنا أساساً لأني ظننت أنَّ هذا قد يساعد حالتها العقلية، ويمنحها شعوراً بالاستقرار". ومع أنَّ بريغز كان "فناناً شاباً عادياً"، فقد قلل من شأن ستينيات القرن الماضي.
وقال: "كان لديّ منزل ورهن عقاري وما إلى ذلك، ولم أشعر بأنني جزء من حركة الستينيات إطلاقاً. أذكر أني كنت أقول لأصدقائي إنَّني أشعر بالقرف حين يتكلم الناس عن فرقة البيتلز اللعينة. لم أكن مهتماً أدنى اهتمام". وماتت زوجته عام 1973 بسبب "مزيج من الشيزوفرينيا وسرطان الدم (اللوكيميا)". وقال بريغز بصوتٍ خافت: "يا إلهي، كان هذا عبئاً شاقاً".
كان يكتب وصيته
أثناء حديث بريغز، كان يتحرك داخل كوخه الفوضوي، ويُعدُّ القهوة. كانت أكوام من الأوراق في كل مكان؛ إذ كان يكتب وصيته. ويقول: "هذا أمر لعين. يسألونني من هو أقرب أقربائي؟ ليس لديَّ أقارب. سألتُ كلاير (ابنة ليز): هل تمانعين أن تكوني أقرب أقربائي؟ لكنها ليست ابنتي، ولا حتى ابنة زوجتي".
كانت كلاير، التي تقترب من عامها الخمسين، هي وأخوها، في المدرسة الابتدائية حين تزوج بريغز أمهما، لكنه لم يشعر أبداً ناحيتهما بمشاعر الأبوة.
يقول بريغز: "لقد ابتعدت عن لعب دور الأب. وضعت قاعدةً بألا أشتري لهما في الكريسماس أي شيء يكلف أكثر من 5 جنيهات إسترلينية؛ لأنني لم أُرد أن أقول: انظروا إليَّ، أنا أفضل من والدكما. لم أُرد التطفل على هذا النحو".
وصمت برهة متجهماً قبل أن يكمل: "كان هذا كله غريباً. يتعامل الناس مع الحياة العائلية وكأنها مثاليةً، أليس كذلك؟ لكنَّ الأمر ليس بالضرورة سهلاً هكذا. لم أكن مهتماً بالأطفال إطلاقاً. لا أكرههم، لكني لست محباً للأطفال"، وقالها بنبرة صوت مزدرية.
شعر بريغز، مؤلف كتب الأطفال الأكثر مبيعاً، بالفزع حين اعتُبر مرشحاً للقب Children Laureate (وهو لقب يُمنح كل عامين في المملكة المتحدة لأحد كُتّاب كتب الأطفال أو رسَّاميها، من أجل أعمالهم البارزة). وقال: "لم أرَ فائدة هذا. بدا الأمر فظيعاً. إنهم يجعلونك تذهبين إلى كل مكان في البلد. تخيلي هذا! تتنقلين بين الفنادق وسيارات الأجرة والقطارات، وتسألين نفسكِ: بالله عليكم، ما فائدة كل هذا؟ سيكون الأمر على ما يرام إن كنتِ تحبين الظهور أمام الناس، لكنَِي أكره هذا".
بريغز ليس مولعاً أيضاً بالجوائز التي تُمنح للمرء عن إنجازات حياته. إذ يقول: "لقد فزت بواحدةٍ أو اثنتين منها، وهو لقب مضحك؛ فحياتي لم تنتهِ بعد. وحين تعطين أحداً جائزة عن إنجاز حياته، فكأنك تقولين له: فلتَمُت الآن يا رجل!"، ويشتهر بريغز، بالتأكيد، بكونه "يكره الكريسماس".
لستُ مقتنعةً بأنَّ بريغز تشاؤميٌّ إلى الحد الذي يتظاهر به. السبب الأول: إنه يُتبع كل رأي غاضب بضحكة قصيرة، وكأنه ألقى دعابة. والسبب الثاني: لقد منحني ذكرى رقيقة مؤثرة حين قابلني في العطلة في اسكتلندا منذ أكثر من 30 عاماً.
لم أكن وقتها سوى طفلة؛ لذا لا أظن أنه يعُدُّ الأطفال عبئاً لا يُحتمل. باهتمامٍ حذر، قدَّم لي طبقاً به بعض كعكات الشيكولاتة، وتظهر عليه علامات الضيافة عديمة الخبرة. ومن الصعب الربط بين كراهيته للبشر وبين جدران مطبخه المكسوة ببطاقات يدوية الصنع، ورسوم أطفال.
إحدى البطاقات مكتوب عليها بخط طفل: "رايموند، أنت مضحك للغاية. أحبك كثيراً، ماتيلدا"، وهناك بطاقة أخرى عليها رسمة على شكل رايموند، رسمها طفل. ويقول بريغز: "كاريكاتير قبيح. لا يشبهني على الإطلاق". لكن رغماً عنه، تعلو وجهه ابتسامة حنونة، ويشير إلى صورة لفتاة تحمل نسخة لكتابه "The Bear"، والذي به شخصية تُدعى تيلي.
ويقول: "وقعت هذه الفتاة في حب تيلي والدب، فجعلت والديها يُسَمُّونها تيلي، وظلت مُصرةً على الأمر حتى غيَّروا اسمها قانونياً في النهاية. وهذا أفضل إطراء تلقيته في حياتي"، ثم أطلق ضحكةً خجولةً وبدت عليه السعادة بوضوح. وعلى الجدار كله، توجد بطاقات تهنئة بالكريسماس من العام قبل الماضي. وبرَّر بريغز وجودها تبريراً غير مقنع، قائلاً: "لم أهتم بإزالتها".
وعلى جدارٍ آخر، يوجد ملصقان لعمليه الكلاسيكيين الخاصين بالكريسماس: "Father Christmas"، و"The Snowman"، وهو ما يجعلني أتساءل عما إذا كان بريغز يكره الكريسماس حقاً. يُصر بريغز على أنه يكره الكريسماس، لكنَّ التفسير الذي يقدمه ليس تفسير شخصٍ يكره البشر حقاً، إذ يقول: "إنَّه القلق. أظل أسأل نفسي: هل أنفقت ما يكفي؟ هل أنفقت أكثر من اللازم؟ كيف سأنقل هذه الهدية؟ هل أعطيتها هذه الهدية من قبل؟ هل تملك هذا الشيء بالفعل؟".
شخص يهتم بإسعاد الآخرين
بالنسبة لي، يبدو بريغز شخصاً يهتم كثيراً بإسعاد الآخرين، لكنه لم يكن متأكداً مطلقاً من كيفية تحقيق هذا، لذا تعلَّم أن يُخفي ارتباكه الاجتماعي تحت قناع من الفظاظة ونفاد الصبر. القصة التي يحكيها عن تلقيه دعوةً ثانيةً للظهور في برنامج الراديو "Desert Island Discs" تؤكد أنَّ خوفه الكبير ليس تهليل الناس له، وإنما أن يرتكب خطأً محرجاً على الملأ. ويقول: "ارتحت للغاية حين قال لي مقدم البرنامج قرب انتهاء المقابلة الثانية: لقد استضفناك هنا من قبل. وكان لسان حالي: شكراً لله، ظننتك لم تعرف، أجل لقد فعلتم".
لم يستطع بريغز إخفاء سعادته من ردود الأفعال الإيجابية التي استقبلها أحدث أفلامه. وقال: "حضرت ثلاثة أو أربعة عروض، وكل مرة كان الحاضرون يُصفِّقون في النهاية، هاتفين: مدهش! مدهش". ثم نظر إليَّ متسائلاً: "لا يُصفِّق الناس كثيراً في نهاية العروض السينمائية هذه الأيام، أليس كذلك؟"، سعدتُ بتأكيد كلامه، ومع ذلك، لا يدهشني مطلقاً أنهم قد صفَّقوا لفيلم "Ethel & Ernest".
الفيلم معالجة سينمائية لكتاب يحمل نفس الاسم، ألَّفه بريغز عام 1998، وهو يحكي قصة حياة والديه البسيطة. كان أبوه بائع حليب، رأى ذات يوم خادمةً تنفض الغبار عن منفضةٍ من نافذة منزل كبير في حي بلغرافيا غرب لندن عام 1928؛ فطرق الباب الخلفي، وبدأت مغازلةٌ مختصرة بينهما، ثم تزوجا، واشتريا منزلاً في ويمبلدون، وأنجبا طفلهما الوحيد، رايموند.
كان إرنست شاباً متفائلاً للغاية ينتمي للطبقة العاملة، وكانت إيثل أقل خبرةً لكنها كانت أكثر طموحاً. وظل إيثل وإرنست متزوجين زواجاً سعيداً حتى وفاتهما عام 1971، إذ ماتت إيثل نتيجة تدهور وظائف الدماغ (الشيخوخة أو الخرف)، ولحق بها إرنست بعد شهور نتيجة إصابته بالسرطان.
سيُعرَض الفيلم يوم 25 ديسمبر/كانون الأول على قناة BBC1. على الورق، بدا الفيلم متواضع المستوى، لذا لم أكن مستعدةً لأثره الصادم. كان فيلماً مؤثراً رقيقاً، لكن قوياً بما يكفي ليظل ملازماً لي بعد أسابيع من مشاهدته. من خلال أعين إيثل وإرنست، العادية، وغير المثقفة، والبريئة، نرى ما حدث في القرن العشرين، بدايةً بالكساد الكبير وصعود هتلر، إلى الحرب العالمية الثانية ودولة الرفاهية، والأشياء الغامضة الجديدة مثل التليفزيون والتليفون، والأعجوبة المتمثلة في سيارة العائلة، وموضات الستينيات التي يصعب فهمها: النساء ذوات التنانير القصيرة، والرجال ذوي الشعر الطويل.
أدَّى جيم برودبنت وبريندا بليثين الأداء الصوتي لشخصيتَي السيد والسيدة بريغز، وقد كان أداؤهما نابضاً بالحياة لدرجة أنَّ رايموند قضى معظم جلسات التسجيل دامع العينين. ويقول رايموند: "شعرت بأنَّ والديَّ كانا معي في الغرفة. أمرٌ عجيب، لا أدري كيف فعلاه بهذه الجودة".
لا أدري سبب تأثري لحد البكاء من سردٍ تاريخي عادي لأحداث كلنا يعرفها. حدث من قبل أن صرعني أحد أفلام بريغز، لكن يمكن لأي شخص أن يفهم لمَ قد يصيب فيلم "When the Wind Blows"، الذي يحكي عن الحرب النووية، مراهقةً بالهلع، عام 1968. قد مرَّت سنوات منذ تعافيت من شعوري بالرعب من حربٍ عالمية ستنهي العالم؛ لذا سألت بريغز ما الذي يجعل فيلم إيثل وإرنست يحمل صدى مشؤوماً الآن.
فأجاب: "لأنَّ هذا الرعب يعود الآن"، وأعطاني بعض الأمثلة: الصين وتايوان، وشرق أوكرانيا، وعبور السفن الحربية الروسية في القناة الإنكليزية، وأكمل: "يمكنكِ أن تظني أنَّ كل هذه تفاهات، أو يمكنكِ أن تعُدِّيها أمراً جاداً وخطيراً. لا يمكنكِ أن تتنبئي بما سيحدث في وجود مجنون مثل ترامب. وحين تركْنا الاتحاد الأوروبي، هذا الهراء المدعو بريكسيت، شعرت بالرعب التام. هذا جنون. حين أُنشئ حلف الناتو والأمم المتحدة، ظننَّا أن هذا يعني عدم إمكانية قيام حرب عالمية أُخرى. لكن قد يحدث ذلك، أليس هذا مخيفاً؟ أنا لا أُصَدِّق ما أراه".
سؤال صعب
لو صنع بريغز فيلماً عن حياته، وهو الأمر الذي علَّق عليه بقوله: "يا إلهي، كلا طبعاً!"، يا ترى أية أحداث عالمية كنا سنراها بعينيه؟ أجاب بريغز عن هذا السؤال بقوله: "يا للهول، هذا سؤال صعب"، وسكت برهةً ليفكر، ثم أكمل: "حسناً، أسوأ شيء كان كارثة الصاروخ الكوبي، أليس كذلك؟ أذكر الشعور بالخوف يسري في أعضاء جسدي في ذلك الوقت. أذكر أنني كنت أنظر من النافذة وأنا جالس على سريري في ويمبلدون، وأفكر: يا إلهي، كل ما أراه الآن يمكن أن يصير هباءً منثوراً بحلول يوم الإثنين".
لا يعرف بريغز هل ما زال يدعو نفسه رافضاً للعنف أم لا، إذ يقول: "لا أعرف تماماً. يعتمد هذا على الظروف". لكنَّ ما يعرفه الآن هو أنه لم يعد مؤيداً ثابتاً لحزب العمال البريطاني. إذ يقول: "في الماضي كنت أؤيدهم تأييداً تاماً، لكني الآن لا أعرف لمَن أصوِّت. بالتأكيد لن أصوِّت لحزب العمال مجدداً. وعبَّر عن حزنه لما آل إليه حال الحزب، الذي كان يحبه، تحت قيادة جيريمي كوربين، قائلاً: "صار الأمر كله هراءً، أليس كذلك؟ انهيار تام".
كنت أظن أنَّ بريغز يمكنه أن يواسي نفسه بثروته، مهما ساء المشهد السياسي العالمي، لكنه ذُهل حين قلت ذلك. وقال: "لا، لا، أنا لست ثرياً". فرددت عليه بقولي إنَّ كتاب "The Snowman" وحده قد باع 8 ملايين نسخة! فأجاب: "حقاً؟ أظن أن الناشرين يقولون هذا فقط"، فقلت له إنني متأكدة من أنَّ مبيعات الكتب تمُرُّ بتدقيقٍ حسابي صارم، فأجاب: "حقاً؟"، وبدت عليه دهشة صادقة، لكنه لم يزل مصراً أنه ليس ثرياً، إذ يقول: "لا أهتم بهذا إطلاقاً. لا أعرف كم أملك من المال، كل ما يهمني أن يكون معي ما يكفي لسداد الفواتير".
لم يشترِ بريغز منزلاً منذ السبعينيات، وهو يقود سيارة "هوندا جاز" مستعملة، ويحب أن يتسوق في المتاجر الخيرية؛ لذا فباستثناء أن يكون لديه أسوأ وكيل أدبي في العالم، فإنَّني أظن أنه أكثر ثراءً مما يحتاج، بل أكثر حتى من أن يهتم ليعرف.
لست أول من لاحظ التشابه المزاجي بينه وبين شخصيته الخيالية الغريبة بابا نويل. لكن من بين كل مشاعره الكئيبة الزائفة، حين أغادر، لن يتبقى له سوى شكويين حقيقيتين تماماً: إنه يقول إنَّه يكره كونه مُسناً؛ لأن كل أعضائه تؤلمه، وهو "مرهق طيلة الوقت"، وإنَّ الكلمات تظل تفلت منه.
وأنا أصدِّقه؛ فقد كتب بقلم أسود الحبر على جدار المطبخ، كوسيلة لمساعدة ذاكرته، الكلمات التالية: إثبات صحة الوصية، علماني، بروستاتا، صداع نصفي، نرجسي، معتل اجتماعياً، كستناء الماء، ميرلو، ملحوظة، جيم برودبنت، بريندا بليثين، كاتي برايس، جوردان، خبز إيطالي، مرض السكري، زهرة الراغورت، لصق فيلكرو، وغيرها.
سيظل الجمهور المترقب يخمن ما في القائمة، لكنَّ بريغز قال إنه اكتفى من أطقم التصوير التلفزيوني الذين "يعبثون بالمكان، وينقلون الأثاث من مكانه، ولا أعرف متى يسرقون الأشياء أيضاً!".
ولا أشك أيضاً في صدق سخطه على المراجعة النقدية لصحيفة الغارديان عن فيلم "Ethel & Ernest". إذ قال: "تقول المراجعة إنَّ الفيلم يذكر إصابة زوجتي بالفصام لكنه لا يركز عليها. ماذا ينتظرون؟ لا يمكن للمرء أن يركز على الفصام أثناء كتابته عن موضوع آخر! الفصام موضوع ضخم. لو كانوا يعلمون أي شيء عنه، لعلموا أن المرء سيحتاج نصف دستة كتب ليكتب عنه".
وبالنسبة للباقي، فأظن أنَّ بريغز، وإن كان يحب التذمر، مثل شخصيته الخيالية بابا نويل، فهو يحب أكثر أن يجعلنا سعداء.
- هذا الموضوع مترجم عن جريدة The Guardian البريطانية، للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا.