فى شعره، يبدو بدر شاكر السياب الذى لم يعش غير 38 عاما وذلك بين عام 1926، سنة مولده فى جيكور قرب البصرة، وعام 1964، سنة وفاته فى المستشفى الاميرى بالكويت، وكأنه يجسّد مآسى وعذابات بلده العراق، والمظالم التى تعرض لها فى ظل مختلف الأنظمة السياسية التى تعاقبت عليه، وحكمته بالحديد والنار. وخلال حرب الخليج الأخيرة التى اندلعت إثر الغزو العراقى للكويت وذلك فى صيف 1990، حضرت قصيدته الشهيرة "أنشودة المطر" فى أذهان الكثيرين ذلك أنها بدت لهم وكأنها وصف دقيق لتلك المأساة التى لا يزال الشعب العراقى يعانى منها إلى حد هذه الساعة. ففى تلك القصيدة طبقت شهرتها بلاد العرب من المحيط الخليج، يقول بدر شاكر السياب.
"أصيح بالخليج: "يا خليج..
يا واهب اللؤلؤ والمحار والر{دى!"
فيرجع الصدى
كأنه النشيج"
"يا خليج
يا واهب المحار والردى"
وينثر الخليد من هباته الكثار
على الرمال: رغوه الاجاج، والمحار
وما تبقى من عظام بائس غريق
من المهاجرين ظل يشرب الردى
من لجّة الخليج والقرار
وفى العراق ألفعى تشرب الرحيق
من زهرة يربّها الفرات بالندى
واسمع الصدى
يرنّ فى الخليج
"مطر..
مطر..
مطر..
وكانت حياة بدر شاكر السياب مأساة فى حد ذاتها، فقد توفيت والدته ولا يزال صغيرا فسكنه الشعور بالموت منذ البداية. وعندما كر، أخذ يقول لأقاربه وأصدقائه بأنه لن يعيش طويلا. وهذا ما تم بالفعل وذلك بسبب مرض السل الذى ظل ينخر جسده حتى اللحظة الأخيرة من حياته. وفى العديد من قصائده، وبسبب الآلام والعذابات التى كان يتجرعها، تشبّه بأيوب. وفى قصيدة حملت عنوان: "يسفر أيوب" كتب يقول مخاطبا الله:
لك الحمد مهما استطال البلاء
ومهما استبدّ الألم،
لك الحمد، ان الرزايا عطاء
وأن المصيبات بعض الكرم..
وفى ختام هذه القصيدة يقول:
وان صاح ايوب كان النداء:
لك الحمد يا راميا بالقدر
ويا كاتبا بعد ذالك الشفاء!"
وعن الحضور القوى للموت فى شعر السباب وفى حياته، تقول ريتا عوض:
"كان الموت قضية السياب الكبرى. وقد عانى هذه القضية على مستويات عدة: الفردي، والقومي، والحضارى والانساني".
وبعد أن أمضى بدر شاكر السياب طفولته ومراهقته فى جيكور والبصرة، انتقل إلى بغداد ليلتحق بدار المعلمين العالمية ليدرس الأدب العربي. وخلال الفترة التى أمضاها طالبا والتى امتدت من العام 1943 إلى عام 1948، عاش بدر شاكر السياب فى خضم الحركة الأدبية والشعرية والفنية التى كان العراق يعيشها فى تلك الفترة، وتابع باهتمام كبير الأحداث السياسية الصاخبة بل وشارك فيها بحماس. وفى هذه الفترة كان شديد التأثر بالرومانسية لسببين: أولهما انتقاله من الريف الهادئ إلى المدينة الصاخبة الشيء الذى دعله يحس بالضياع وبالغربة. وثانيهما اكتشافه للرمانسيين الانكليز، خصوصا لشيلى وكيمتش.
ويبدو تأثير الرومانسيين واضحا فى قصيدة له حملت عنوان: "أغنية السلوان" وفيها يبرر فراق المحبين وكأنه سنة الحياة. فى هذه القصيدة التى كتبها عام 1946 يقول:
وكنا لوحتى نافذة فى هيكل الحب
فلو لم نفترق لم ينفذ النور إلى القلب
وكنا كجناحى طائر فى الأفق الرحب
فلولا النشر والتفريق لارتد إلى الترب
ولو لم نبتعد لم تسم نفسانا عن الذنب
وكنا شفتى هذا القضاء مفرّق الصحب
فلو لم ننفرج لم تضحك الأقدار من كربى
ويستفحل هاجس الموت بسبب تفاقم المرض، فيكتب السياب هذه الأبيات الحزينة التى فيها يقول:
لا أكتب قبل موتي، أو جنوني، أو ضمور يدى من الأعياء
خوالج كل نفسي، ذكرياتي، كل أحلامي
وأوهامي
وأسفح نفسى الثكلى على الورق
يقرأها شقيّ بعد أعوام وأعوام
ليعلم أن أشقى منه عاش بهذه الدنيا
وآلى رغم وحش الداء والآلام والأرق
ورغم الفقر أن يحيا".
وقبل أن تنطفئ روحه فى المستشفى الامبرى بالكويت وذلك فى الرابع والعشرين من ديسمبر/ كانون الأول 1964، تذكر السياب أمه وقد أحسّ أن نجاته من المرض أصبحت مستحيلة، فكتب يقول:
فيا قبرها افتح ذراعيك..
إنى لآت بلا ضجة، دون آه!
لقد كان بدر شاكر السياب ضمير العراق الحديث حقا ذلك أنه عبر عن كل محنه ومآسيه وسط مآسيه ومصائبه حيا وميتا. ولعل أفضل ما نختم به هذه الحلقة، فقرة للناقد الكبير احسان عباش، فيها يلخص تجربة السياب الشعرية قائلا:
"كان بدر على خير أحواله اجادة، حين كان يستطيع أن يوحد بين أزمته الذاتية، وأرمة أمته، أو حين يجعل التجربتين غير متباعدتين. ذلك أنه لم يكن قادرا على أن يخرج نفسه من الصورة فى كل حين أو لهذا أجاد حين كان يتحدث مثلا عن الأطفال ودنياهم، لأنه كان يصور نفسه من خلال ذلك وكذلك كان حاله إذا تحدث عن أهوال الفقر والجوع والسجن"
مـما قـرأت وراقَ لي