لقد خاض محمد معركة الحياة الصحيحة في وجه الجهل والهمجية[1].
تقول الأديبة البريطانية الشهيرة كارين أرمسترونج: "الواقع أن بلاد العرب كانت تعتبر منطقة ذات طبيعة بالغة القسوة, ولم ينجح أي من الأديان المتقدمة التي ارتبطت بالحداثة والتقدم, في النفاذ إلى تلك المنطقة, وكانت كل قبيلة تهجم على الأخرى وتحاربها للحصول على الأموال, وكانت الفتيات يقتلن في طفولتهن بدون شفقة أو رحمة, والنساء شأنهن شأن العبيد[2]".
هذا حالهم ولكن الإسلام شيء آخر!!
إذا كنا منبهرين بنظرة رسول الله للرحمة, وشمول رؤيته لها, فإن هذا الانبهار سيتضاعف –لا شك– إذا اطَّلعنا على نظرة البيئة المعاصرة له لنفس الخُلُق.
قال رسول الله في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار والذي يوضح حال الأرض قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ, فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ"[3]. فقد وصل حال الناس إلى درجة من الانحطاط جلبت عليهم مقت الله سبحانه وتعالى, والمقت هو شدة الكراهية.
واستخدام الرسول صلى الله عليه وسلم لكلمة (بقايا) يوحى بالأثرية, أي كأنهم آثار من عهود سحيقة لا قيمة لها في واقع الناس, ومن جانب آخر فإنَّ هذه البقايا لم تشكل مجتمعات كاملة, بل كانت أفرادًا معدودين.
الدولة الرومانية
مزقت الخلافات العقائدية بين طوائف النصارى أواصر هذه الدولة, فالخلاف بين المذهب الأرثوذكسي والكنيسة الشرقية من ناحية, والمذهب الكاثوليكي والكنيسة الغربية من ناحية أخرى كان خلافًا حادًا أسفر عن حروب مدمرة قتل فيها عشرات الألوف.
بل في داخل الدولة الرومانية الأرثوذكسية الشرقية ذاتها اشتعلت الخلافات العقيمة بين طائفة الملكانية وتعتقد بازدواجية طبيعة المسيح, وطائفة المنوفيسية وهم أهل مصر والحبشة ويعتقدون بطبيعة إلهية واحدة للمسيح, وكانت طائفة الملكانية تقوم بتعذيب الطائفة الأخرى تعذيبًا بشعًا, فيحرقوهم أحيانًا, ويغرقوهم أحيانًا أخرى, مع أنهم جميعًا أبناء مذهب واحد هو الأرثوذكسية.
وقد ظلت هذه الخلافات العقائدية مستعرةً, حتى جاء الفتح الإسلامي لمصر, فشكل لأقباطها خلاصًا من اضطهاد وتعذيب الدولة الرومانية لهم.[4]
كما لم تنج حياة الرومان في داخل دولتهم من القسوة, فقد فرضت الدولة الضرائب الباهظة على كل سكان البلاد, وكان أكثرها وأثقلها على الفقراء دون الأغنياء, وكان المجتمع الروماني ينقسم إلى أحرار وهم السادة, وعبيد وهم ثلاثة أضعاف الأحرار من حيث العدد, ولا يتمتعون بأية حقوق بل مصيرهم في أيدي سادتهم, كما أنهم ليس لهم أي احترام وسط المجتمع, لدرجة أن الفيلسوف أفلاطون نفسه صاحب فكرة المدينة الفاضلة كان يرى أنه يجب ألا يُعطَى العبيدُ حقَّ المواطنة!!.
ولم تكن القسوة مع العبيد والفقراء فقط, بل وصلت –وبقوة- إلى المرأة الرومانية ذاتها, ففي رومية اجتمع مجمع كبير بحث في شئون المرأة؛ فقرر بعد عدة اجتماعات أن المرأة كائن لا نفس له, وأنها لهذا لن ترث الحياة الأخروية, وأنها رجس, ويجب ألا تأكل اللحم وألا تضحك, ومنعوها من الكلام حتى وضعوا على فمها قُفلاً من الحديد؛ فكانت المرأة من أعلى الأُسر وأدناها تروح وتغدو في الطريق أو في دارها وعلى فمها قُفلٌ![5].
الدولة الفارسية
كان الوضع في الدولة الفارسية يمثل مأساة حضارية بكل المقاييس في كل الجوانب الأخلاقية, والاجتماعية, والدينية على السواء, فقد كان الشعب في المجتمع الفارسي يخضع لنظام شديد الطبقية, وفيه مهانة كبيرة للإنسانية, فكان المجتمع مقسمًا إلى سبع طبقات أدناهم عامة الشعب, وهم أكثر من 90% من مجموع سكان فارس, ومنهم العمال والفلاحين والجنود والعبيد, وهؤلاء ليس لهم حقوق بالمرة, لدرجة أنهم كانوا يربطون في المعارك بالسلاسل؛ كما فعلوا في موقعة الأُبلَّة[6] أولى المواقع الإسلامية في فارس بقيادة خالد بن الوليد .
أوربا
يذكر المؤرخ الفرنسي رينو[7] حال أوربا قبل الإسلام, فيقول: طفحت أوربا في ذلك الزمان بالعيوب والآثام, وهربت من النظافة والعناية بالإنسان والمكان, وزخرت بالجهل والفوضى والتأخر, وشيوع الظلم والاضطهاد, وفشت فيها الأمية[8].
ويصف البكري[9] بعض أصناف الصقالبة سكان المناطق الشمالية في أوربا, فيقول: لهم أفعال مثل أفعال الهند, فيحرقون الميت عند موته, وتأتي نساء الميت يقطعن أيديهن ووجوههن بالسكاكين, وبعض النساء المحبات لأزواجهن يشنقن أنفسهن على الملأ, ثم تُحرق الجثة بعد الموت, وتوضع مع الميت[10].
مصر
كانت مصر محتلة من الرومان منذ هزيمة (كليوباترا) على يد (أوكتافيوس) سنة 31 قبل الميلاد, وعندما سقطت الدولة الرومانية الغربية سنة 476 ميلادية (أي قبل ميلاد الرسول بحوالي مائة عام آلَت أملاك الدولة الرومانية الغربية –ومنها مصر- إلى الدولة الرومانية الشرقية.
وهكذا تحولت مصر في عهود الرومان إلى مخزن يُمد الإمبراطورية الرومانية باحتياجاتها من الغذاء, وفقد المصريون السلطة بكاملها في بلادهم, وإن كان الرومان قد حرصوا على أن يتركوا بعض الرموز المصرية كصورة فقط, وذلك لتجنب ثورة الشعب.
وتمَّ فرض الضرائب الباهظة جدًا بمختلف أنواعها على الشعب المعدم حتى تجاوزت الضرائب الأحياء -في سابقة تاريخية- إلى الأموات, فلم يكن يسمح بدفن الميت إلا بعد دفع ضريبة معينة.
وتتبع الرومان قادة الأقباط المصريين بالقتل والتعذيب حتى اضطروهم إلى الهرب إلى الصحراء, وإقامة أماكن عبادتهم في مناطق نائية أو مهجورة حفاظًا على حياة من تبقى منهم[11].
الهند
تميزت الهند أيضًا بالطبقية البشعة, فقد قسَّم الهنود المجتمع إلى أربع طبقات أدناها طبقة "شودر", وهم المنبوذون, وهم بحسب التقسيم أحط من البهائم, وأذل من الكلاب.
والأنكى من ذلك أنَّ من كان في طبقة من الطبقات لا يستطيع أن يرتقي للطبقة الأعلى مهما اكتسب من علم أو مال أو جاه.
أما بالنسبة للمرأة في المجتمع الهندي فقد قضت الشرائع الهندية القديمة: "إن الوباء والموت والجحيم والسُّمَّ والأفاعي والنار خيرٌ من المرأة"[12].
وكان الرجل إذا قامر فخسر ماله, يقامر على امرأته وقد يخسرها فيأخذها الفائز, كما كان من عادة الهنود أن يحرقوا الزوجة مع زوجها عندما يموت ويدفنوها معه, وإذا لم تفعل المرأة ذلك تبقى أمَةً في بيت زوجها الميت, وتصبح عُرضَةً للإهانات والتجريح كل يوم إلى أن تموت[13].
اليهود
وفي سنة (610) ميلادية, (في عهد رسول الله ) انتصر الفرس على الروم {غُلِبَتِ الرُّومُ} [لرُّوم: 2], فانقلب اليهود على نصارى الشام, وقد ضعفت جيوش الروم, فخرَّبوا الكنائس, وقتلوا الرهبان, وظهرت لهم شوكة وتَكَبُّر لعدة سنوات.
ثم انتصر الروم على الفرس {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الرُّوم: 3], فذهب اليهود إلى هرقل, وتذلَّلوا له؛ فقبل منهم, وأعطاهم العهد بالأمان.. ولكن أتى رهبان الشام, فذكروا لهرقل ما فعله اليهود وقت هزيمة الروم, فغضب هرقل وأراد معاقبة اليهود, ولكن منعه العهد الذي أعطاه إياهم, فجاء رهبان النصارى وقالوا لهرقل: لا عليك من العهد, اقتلهم وسنصوم عنك جمعة كل سنةٍ أبد الدّهر, فقبل هرقل وعذب اليهود عذابًا شديدًا حتى لم يفلت إلا الذي هرب من الشام[14].
تمركز اليهود في زمان رسول الله في شمال المدينة المنورة, وكانوا -كعادتهم- قومًا غِلاظ الطباع, قساة القلوب, منحرفي الأخلاق, يعيشون على الرِّبا, وإشعال الفتن, والتكسب من بيع السلاح, وعلى إيقاع السادة في الفضائح الأخلاقية وتهديدهم بها, وعلى السيطرة على الجهال بكتبهم المحرفة وأفكارهم الضالة[15].
أما المرأة فقد وُصفت في التوراة المحرَّفة على هذا النحو: "درتُ أنا وقلبي لأعلم ولأبحث ولأطلب حكمةً وعقلاً, ولأعرف الشر أنه جهالة, والحماقة أنها جنون؛ فوجدتُ أَمَرَّ من الموت المرأة التي هي شِباكٌ, وقلبها شِراك, ويداها قيود"[16].
العرب قبل الإسلام
رغم إيمان العرب بالله إلا أنهم اتخذوا إليه شفعاء ووسطاء وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} [الزُّمر: 3].
وبمرور الأيام أصبحوا يعتقدون أنَّ هذه الأصنام "الشفعاء" تملك قدرة ذاتية على النفع والضر, والخير والشر, فأصبحوا يتوجهون إليها بعبادة مباشرة. وقد كان لكل مدينة صنم, بل كان لكل قبيلة صنم, فمكة - مثلاً - كان أعظم أصنامها (هُبَل), بينما كان (اللات) أعظم أصنام الطائف, وهكذا..
وتفشت في العرب أدواء أخلاقية كثيرة كشرب الخمر والميسر, وانتشر الرِّبَا بشكل فاحش, كما كان للزِّنا صور بشعة في المجتمعات العربية قبل الإسلام, وتصف ذلك أم المؤمنين عائشة كما جاء في صحيح البخاري, فتبين أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: ثلاثة منها تدور على الزنا والدعارة, وواحد فقط هو الزواج الشرعي الذي نمارسه الآن؛ فلما بعث محمد بالحق, هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم[17].
كما انتشرت عادة من أشد العادات قسوة في التاريخ, وهي عادة وأد البنات, ومعناها: دفن البنت حيةً, وكان هذا الوأد يُفعَل لأسباب كثيرة أهمها: خشية الفقر, وخوف العار, والعيوب الخلقية, أو اختلاف اللون كمن وُلِدَت سوداء, وادعاؤهم - كذبًا وزورًا - أن الملائكة بنات الله؛ فقالوا: أَلحِقوا البنات به تعالى, فهو أحق بهن[18].
وكذلك كان من صفاتهم المذمومة العصبية, والتي كانت تقود إلى الحروب المستمرة بين القبائل؛ وهكذا كانت الإغارة على الغير عادة عند بعض القبائل, وكانت الحروب تشتعل لأتفه الأسباب, ويتساقط الضحايا بالمئات والآلاف, ومن أشهر حروبهم حرب داحس والغبراء[19], كذلك يوم بعاث[20].
هكذا كان الوضع في جزيرة العرب, ومثله في العالم كله, لم يكن على الحقِّ في هذه البلاد, وفي كل هذه الحضارات (إن جاز أن نسمي هذه التجمعات بالحضارات) إلا أفراد قلائل, وقلائل جدًّا.
د. راغب السرجاني