الدقات الناعمة للساعة المعلقة في الحائط لا تمل من التكرار .. وقد تعودت حاسة السمع ذلك الإيقاع حتى أصبح الإيقاع جزءَ لا يشكل الانتباه .. وبالعكس قد تحدث الربكة إذا توقفت الساعة عن الإيقاع لعطل في الأداء .. ذلك الإيقاع المقدس الذي يمثل سيرة الإنسان متى ما تواجد في سواحل الحياة .. ويمثل الحكمة القائلة بأن العمر دقائق وثواني .. تلك السعة من العمر التي تمثل حكمة النهر في أداء الواجب .. فالحركة الدءوبة من المنبع إلى المصب .. والزمن لا يجامل أحداَ في مساره .. حيث يظل دائماَ في مسار الثبات .. يتخطى كل أنواع العوائق والعثرات .. وتجري فيه الأحداث بأقدار ثم تنتهي بأقدار .. يشب فيه الشباب ويشيب فيه الشيب .. يقيم فيه القائمون ويرحل عنه الراحلون .. ومسار الزمن يظل ذلك المشوار الثابت إلى قيام الساعة .. جلست الأرملة وحيدة وقد انتصف الليل .. وتلك الأجفان قد تجافت المنام .. فارقت عالم الواقع حين سرحت في الخيال بأغنام إبليس .. فتلك الليلة في مسار حياتها تمثل الصفحة الأخيرة لكتاب من النضال الطويل .. جلست وحيدة فوق سريرها تعيد شريط الذكريات .. تلك الذكريات التي أبت أن تكون مجرد تلميحات .. بل تحولت لتجري بالصوت والصورة .. فهي الآن في جلستها تلك ترى أطياف الصغار حين كانوا صغاراَ .. وترى ملامح الكبار حين أصبحوا كباراَ .. كما تسمع صيحات الأطفال حين كانوا أطفالاَ .. تراهم في الخيال أمامها يلعبون ويركضون ويمرحون .. يملئون أركان البيت ضجيجاَ وأصواتاَ .. تلك الأصوات التي كانت تملأ جوانبها نشوةَ وحبوراَ .. تتذكر الماضي وأهل الماضي فتجري الدموع ساخنة فوق خدودها حين تفقد الأصوات في الواقع الملموس .. ولسان حالها يقول : يا ليت الماضي يعود بالخطوات مرةَ أخرى ! .. فيعود الكبار صغاراَ ولا تنتهي مراحل الشقاء والنضال .. ثم فجأة تقع الفاجعة المريرة حين يتمثل أمامها الواقع المرير .. فيختفي الممثلون عن مسرح الخيال .. لتحل محلها ظلال السكون والوجوم والوحدة والوحشة ! .. وهي في تلك الليلة عادت لدارها بعد أن ودعت آخرة العنقود التي كانت تشكل الحبة الأخيرة في سلة الفواكه .. سافرت الصغيرة لزوجها الذي يعمل بعيداَ في بلاد الغربة .. كانت تلك الصغيرة هي الركيزة الأخيرة التي تطرد عنها مرارات الوحدة والإنفراد .. ومن قبل كم ودعت فلذات أكبادها الذين تركوها ليلبوا واجب السنة والحياة .. الأبناء والبنات .. أما الزوج فقد رحل عنها للدار الآخرة قبل سنوات عديدة .. وقد تركها عند مهب الرياح تناضل وتكافح تيارات الحياة وحيدة .. والعهدة كانت ثقيلة عليها حيث أربعة من الأبناء وثلاثة من البنات .. ومع ذلك فقد أدت الرسالة بمنتهى الإخلاص والإجادة .. وقامت بواجب الأبوة والأمومة على أحسن المنوال وبأعلى المقياس .. وبتزويج تلك الصغيرة الأخيرة أدت الأمانة كاملة دون نقصان .. وقد برأت ذمتها من مسئولية التفريخ ثم التنشئة ثم التفريغ .. ولكنها فجأة وجدت نفسها تعيش في وادي الإنفراد والوحشة والوحدة والنسيان .. تبحث عن الآخرين في أركان الدار فلا تجدهم .. وتكتفي بعالم الخيال حيث آثار الذكريات .. تلك النقلة القاسية في مسار حياتها .. وتلك التجربة المريرة .. تتألم حين لا تجد من يناديها في الدار حتى تلبي النداء .. ولا تجد من يكلمها أو ينازعها في شأن من شئون الأحباء .. والمحصلة توحي بأن دورها قد انتهى في هذه الحياة .. وذلك الإحساس هو من أوجع الإحساس في مسار أي إنسان ناهيك عن أم وحيدة تفتقد أفراخ عشها السعيد .. تلك الوحدة القاتلة الكئيبة القاسية .. تعيش معظم الدقائق والثواني في عالم الخيال والذكريات .. والثمار في النهاية عادةَ هي تلك الدموع المنهمرة بغزارة فوق خدودها .. وفي زحمة الذكريات يتمثل لها طيف تلك الأخيرة التي غادرت وهي تلوح بالأيدي وداعاَ .. ثم تلك النظرات الأخيرة منها .. وتلك تجربة جرت مثلها في السابق حيث ودعت الأبناء والبنات .. وكل حالة وداع كان يعني الجدب في جانب من جوانب أرضها .. حتى أصبحت أرضها في النهاية هي تلك القاحلة الموحشة البور ..
لتفرض سؤلاَ من قبيل الفطرة في الإنسان .. تلك الفطرة المقرونة بالعواطف الهوجاء .. وهو هل جزاء الإحسان هو النسيان ؟؟! .. أم جزاء الإحسان هو الإحسان ؟؟ .. ولكن لا يلوم أحد أحداَ فتلك سنة الحياة وفروضها .. تسقط الشجرة في نهاية المطاف وقد ألقت بثمارها في مجاري الأنهار .. تلك الثمار التي تنمو في أمكنة وأزمنة مغايرة .. والعزاء الوحيد في مسار الفرضية أن الرسالة قد تمت وتوجت بالنجاح .