المكتبة في التاريخ /بقلم رضا العاشور التميمي
· تاريخ المكتبات في العصور القديمة.
أن الثقافة والحضارة متلازمتان ولا يكونا إلاّ أن يكون الكتاب و المكتبة لا تكون المكتبة إلا أن يكون الكتاب، وتأريخ المكتبة يزامنها تأريخ الكتابة ، والكتاب هو الوسيلة الكبرى لنشر الثقافة وتمكين الإنسان من الحياة ، وتطور أفكاره، بحيث يكفل له قطف ثمر الطبيعة وكنوزها لمنفعته ومنفعة من يعش معه ، وقد فهم الإنسان قيمة الكتاب في حياته منذ أن اكتشف الكتابة ، وصار يهتم بالكتب وجمعها وتكوين المكتبات.
وقد عَزا المؤرِّخون ظهورَ المكتبات الأولى إلى الحضارات الأولى في بلاد الرافدين وأرض النِّيل؛ حيث وُجِدَت بها وثائقُ مكتوبة على الألواح الطينيَّة في كلٍّ من بابل ونينوى بالعراق، وأشهَر مكتبة هي مكتبة "آشور بانيبال" التي كانت دارًا لحفظ السجلات والمحفوظات؛ إن (آشور بانبيال) حفيد سنحاريب وآخر ملوك الاشوريين كان مهتما بالمكتبة وأول مكتبة نشأت في العالم هي مكتبة آشور بانيبال وهناك عدد غير قليل من المكتبات القديمة مثل مكتبة الإسكندرية من أشهر المكتبات الوارد ذكرها في التاريخ وقد أسسها الملك بطليموس سوتير، وجلب نفائس الكتب وان مثل هذه المكتبات القديمة التي استعرضناها هنا قد صارت بعد الفتوحات الإسلامية نواة للمكتبات الإسلامية ، وعن طريق المكتبات الإسلامية انبعثت حركة قيام المكتبات بصورة واسعة في جميع الأقطار، وكان للمكتبة الإسلامية شأن كبير في فتح باب الثقافة لأول مرة في وجه العالم.
· المكتبات الإسلامية القديمة في العراق
كانت المكتبات الإسلامية من أهم المؤسسات التي كان لها الدور الأكبر في نشر الثقافة والمعرفة وارتبط ظهورها بعوامل عديدة وهي :
1- ظهور حركة التدوين التي اهتمت في البداية بتدوين الأحاديث والسيرة النبوية ثم اتجهت إلى تدوين التراث العربي الإسلامي
2- ظهور حركة التأليف
3- ظهور حركة الترجمة
-4 انتشار الورق وظهور طبقة الوراقين
5 - اتصال المسلمين بالحضارات الأجنبية التي كانت منتشرة في مختلف البلدان التي تم افتتاحها .
وحين توغل الإسلام في العراق وبلاد الشام، وأقبل سكان البلدان المفتوحة يدخلون الإسلام، ويقبلون على تفهمه، وتتبع نصوص الآيات القرآنية، اشتدت الحاجة إلى معرفة اللغة العربية، وقواعدها، والتعمق في التفسير، وضبط الكلمات ولهجتها، بسبب ابتعاد العرب عن الجزيرة وبسبب هذا الاختلاط الحاصل بين العرب وبين الشعوب الداخلة في الإسلام، وزادت حاجة الأعاجم إلى التمعن في اللغة العربية وآدابها، كلما اتسعت رقعة الإسلام، وتغلغلت التعاليم الإسلامية في الأوساط، لعلاقة هذا الأدب بنصوص الشريعة وتعاليمها، ولعل الدين الإسلامي هو الدين الوحيد الذي لا يمكن الاحاطة به ومعرفة اتجاهاته ومراسيمه عن غير طريق الأدب.
وكان المسلمون عند فتحهم العراق قد اتخذوا من موقع البصرة والكوفة مقراً لهم، فابتدأت حركة مدارسة اللغة، والأدب، والشعر، والتفسير، وتدوين اللغة العربية، وضبطها في هذين البلدين، وقد كان لنزول الإمام عليّ (عليه السلام) مدينة الكوفة شأن كبير في انعاش الحركة الأدبية في الكوفة، والبصرة، بالنظر لتفرده بين الخلفاء الراشدين، وأئمة الآداب العربية، فالذين نقلوا اللغة وأساليبها عن القبائل وأثبتوها في الكتب، وصيروها علماً; هم أهل البصرة والكوفة وكان أكثر المشتغلين في جمع اللغة وآدابها، هم العجم لحاجتهم إلى ذلك أكثر من العرب. أما أقدم الذين عنو بجمع مفردات اللغة والأدب، وأشهر العلماء القراء وأئمة الأدب فقد كان عمرو بن العلاء التميمي في الكوفة، وتعتبر مكتبته أول مكتبة إسلامية عربية في الكوفة، وقد توفي في منتصف القرن الثاني للهجرة، وقد درس عليه عدد من أشهر أئمة الأدب واللغة، أما مكتبته فقد روى المؤرخون عنها أنها كانت تملأ بيته إلى قرب السقف ومع ذلك فقد قال هو:
"ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلاّ أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير".
واشتهرت البصرة والكوفة بما خرجتا في القرن الثاني وما بعده من علماء أفذاذ، كان لكل منهم شأن كبير في علم التأليف والعلم، والشعر، والأدب، كالخليل بن أحمد، وعبدالله بن المقفع، والأصمعي، وأبو عبيدة، وسيبويه، والكسائي، وغيرهم فكثرت الكتب، وكثرت المكتبات في هذين البلدين، وحين قامت دولة العباسيين واتخذت بغداد عاصمة لها، كثرت إلى جانب كتب التفاسير، والرواية، واللغة، والأدب، كتب الترجمة من الفارسية واليونانية، ونشطت حركة التأليف والترجمة، وعظمت صناعة الورق، وتبع ذلك ظهور حرفة الوراقة، ووجود أمكنة للوراقين، وحيث اتخذت منزلا للعلماء والأدباء يتزودون منها العلم والمعرفة، فبدأ وجود المكتبات يكثر ويزخر بالكتب .
وأصبحت المكتبات التي تضم الواحدة عشرات الألوف من المجلدات كثيرة، وتعد بالعشرات للأمراء، والوزراء، والعلماء، من المسلمين وغير المسلمين والعرب، وغير العرب، وأصبح اقتناء الكتب من علامات الحضارة، يتسابق إليها أصحاب الأموال، وطلاب الشهرة، وإن كانوا من غير أهل العلم، وإنما يتفاخرون باقتنائها ويبالغون في إتقان خطها، وتزيين جلودها وزخرفتها، ويتنافسون في استخدام النساخ الماهرين في ذلك. إن هذه المكتبات التي نشأة آنذاك كانت بعضها خاصة بأصحابها و من يأذنون لها من أصدقائهم في المطالعة والاطلاع عليها، وبعضها كان عاماً اُنشىء لخدمة طلاب الاستفادة من الأدباء وغيرهم، وأكثر المكتبات العامة أنشأها الخلفاء أو غيرهم من الملوك مثل بيت الحكمة"او دارالحكمة "، التي أنشأها أبو جعفر المنصور وتوسعت في عصر الرشيد وازدهرت في عصر المأمون ، من أشهر وأعظم المكتبات الإسلامية وقد حرص العباسيون على جمع نفائــس الكتـــب ونوادرهــــا مـــن المؤلفات العربية والمترجمة عن اللغات المختلفة
وقد عمل بها مترجمون ونساخون وخطاطون ومجلدون ، وكان من أبــرز العاملين بها سهل بن هارون وحنين بن إسحاق والخوارزمي ، وقد وجدت بها حجرات ليستخدمها العلماء والمؤلفون ، ولم تكن مجرد مخزن للكتب بل كانت مركزاً للبحث والدراسة وظلت قائمة حتى سقوط الدولة العباسية على يد المغول سنة 656 هـ ثم أتلفوها .
وقد تردَّد إلى هذه المكتبة بحثًا وتأليفًا من المشاهير: الفيلسوف الكِنْدي، ومحمد بن موسى الخُوارزمي، وقد ضمَّت كتبًا من مختلِف العلوم؛ التراث الإسلامي، التراجم والسِّيَر، كتب الكيمياء، الفلك، الطب والجبر؛ واحتوَت على مَرصد فلَكيٍّ، وقد وصَفها "ديورانت" في كتابه "قصَّة الحضارة" بأنَّها مَجمع علمي، ومرصد فلكي، ومكتبة عامة. وقد كانت المكتبة العامة في عصر الحضارة وكثيرا ما كانت تقدم الحبر والورق مجانا للقراء وكان في قسم كبير منه مرشدون يساعدون القراء في الحصول على المصادر والكتب , والمطالعة فيها حرة , وكان عدد من العلماء والوزراء والأغنياء يوقفون بعد موتهم مكتباتهم على مدنهم كما فعل صاحب بن عباد الذي أوقف مكتبته على مدينة الري فأصبحت مكتبة عامة .
كما أصبح تأسيس المكتبات وتزويدها بالكتب وجعلها لكل الناس تقربا إلى الله سبحانه فقد أسس أبو القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي الفقيه الشافعي المتوفى عام 323 هجرية دارا للعلم في بلده وجعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم وقفا على كل طالب لعلم لايمنع أحدا من دخولها وفي بغداد أيضا وفي سنة 383 هجرية أسس أبو نصر وزير بني بويه دارا للعلم في الكرخ غربي بغداد ونقل اليها كتبا كثيرة اشتراها او جمعها وكان بها مائة نسخة من القرآن الكريم كتبت بأيدي أحسن النساخ فضلا عن عشرة آلاف وأربعمائة مجلد آخر معظمها بخط أصحابها أو من الكتب التي كان يمليها رجال مشهورون ولقد احترقت هذه المكتبة في فاتحة استيلاء السلاجقة على بغداد . ومن المكتبات التي أنشئت في بغداد المكتبة التي أسسها الشريف الرضي نقيب الطالبيين فقد أنشأ دارا سماها دار العلم وفتحها عامة لكل طلاب العلم وكما أسس المستنصر بالله المدرسة المستنصرية أنشأ الى جانبها مكتبة.