يخطئ كثير من الناس -من المسلمين ومن غير المسلمين– في تصور أن المسلم المتدين الملتزم هو مسلم مُتشدد في جانب الصلاة والصوم وغيرهما من جوانب العبادة المختلفة، ويخطئون كذلك في اعتقاد أن المسلم الذي يأتي رخصة من الرخص في الدين هو مسلم مُفرِّط مُقصِّر يحتاج إلى تربية وإصلاح!!
إن هذه المفاهيم -ولا شك- دخيلة على الإسلام، وتتنافى مع مبدأ الرحمة التي بُعِثَ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
الدين يسر
والقاعدة الشرعية الرائعة التي تحكم عبادات الناس وحياتهم هي ما جاءت في كتاب رب العالمين واضحة نقية..
قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
وهذا واضح في كل أحكام الشريعة، ولقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم عليه في كل خطوات حياته، وفي كل كلماته وأفعاله..
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلا غَلَبَهُ؛ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ"[1].
وقال كذلك: "يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلا تُنَفِّرُوا"[2].
إنه مبدأ واضح في الإسلام، ومخالفته هي مخالفة صريحة للدين، ولا يُعذَرُ المرءُ هنا بحسن نيته، و بعلو همته؛ فإن التشدد منفرٌ، والتعسير يضر أكثر مما ينفع.
الإسلام دين الوسطية
جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا[3]، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟!! قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا؛ فَجَاءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: "أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ: كَذَا وَكَذَا، أَمَا والله إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"[4].
إن هذه القصة لأَصلٌ من أصول هذا الباب في الإسلام.. وفيها بدت الرحمة البالغة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأمته جميعًا..
لقد استغل رسول الله صلى الله عليه وسلم القصة ليضع قاعدة عامة رحيمة تحكم حياة الناس في الإسلام، وهي أن الإسلام دين الوسطية، وأنه لا يطلب من معتنقيه أن يفرِّغُوا حياتهم للصلاة والصيام والتَّبَتُّل والاعتكاف..
بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم لِيُثَبِّت هذا المعنى ويُرسِّخه في أذهان الناس سلك مسلكين رائعين.. أما المسلك الأول فهو القدوة.. فهو يقول للناس: إنني -وأنا الرسول المكلف بالتبليغ والتعليم، وأنا القريب من الله تعالى- أقوم بما تريدون أنتم أن تُحرِّموه على أنفسكم، فإذا رأى المؤمن ذلك لم يتحرَّج مطلقًا من الإفطار والنوم والزواج لأنه بذلك مقلِّدٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ..
وأما المسلك الثاني فعجيب!! إنه جانب الترهيب والإنذار.. وعجيب هنا أن يُرهِب ويُنذِر مَنْ زَادَ في العبادة، ونشط في التبتل، فقد يقول قائل: إنه قد لا يفرض على الناس عبادات شاقة، ولكنه لا يجب أن يمنع من أراد لنفسه ذلك، ولكن العجيب هنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -من رحمته المبهرة بالمسلمين- يرفض هذه الزيادة ويندد بها؛ لأنها قد تصبح مسلكًا عامًا بعد ذلك يضر بالعموم، كما أن هؤلاء النفر إذا شددوا على أنفسهم فلا شك أنهم سيضرون بدوائر مهمة محيطة بهم كعائلاتهم وجيرانهم ورَحِمِهم وأعمالهم، وغير ذلك من الدوائر التي تحتاج إلى أن يُفرِّغ لها المسلم أوقاتًا وفكرًا وجهدًا..
من هنا جاء التحذير النبوي الواضح: "فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"..
هذا هو الإسلام لمن لا يعرفه..
وهذه هي مناهجه وشرائعه لمن لم يطَّلِع عليها..
يقول سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ[5] رحمه الله: "أَتَيْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ! قَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَوْلَ اللَّهِ تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [سورة القلم: 4]؟! قُلْتُ: فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَبَتَّلَ. قَالَتْ: لا تَفْعَلْ؛ أَمَا تَقْرَأُ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رسول الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]؟! فَقَدْ تَزَوَّجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَدْ وُلِدَ لَهُ"[6].
هذا هو الفهم الذي فهمته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهو -ولا شك- فهم راقٍ صحيح..
وسطية الرسول
وعند حديثنا عن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم في جانب العبادات، وحثِّه على التيسير والتخفيف قدر المستطاع، فإننا نشير إلى أمرين هامين..
أما الأول: فإنه ليس معنى التيسيرِ التفريطَ! إذ لا بد أن يكون التيسير في إطار الشريعة، والفيصل في ذلك هو حياته ، والتي نستطيع بها أن نحكم على الأمر أهو يُسرٌ أم تفريط؟
وأما الأمر الثاني: فهو أن الغرض من حديثنا هذا هو عرض رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين في جانب العبادات، وليس الغرض منه عرض أوجه التيسير التي شرعها الله عز وجل في كل عبادة، فهذا ليس تشريعًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو من الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم قد نقله إلينا، ومثال ذلك: التيسير في قَصْرِ الصلاة للمسافر، والتيسير في التيمُّم لمن لا يجد الماء، والتيسير في الإفطار للمريض، ونحو ذلك من أمور، فهذه قد شَرَعها الله ، وطبَّقها رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
[1] البخاري: كتاب الإيمان، باب الدين يُسْرٌ (39)، النسائي (5034)، وابن حبان (351)، والبيهقي في شعب الإيمان (3881).
[2] البخاري: كتاب العلم: باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا (69)، ومسلم في الجهاد والسير باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير (1734)، وأبو داود (4835)، وأحمد (19714) وكلاهما بلفظ: بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا، والنسائي في سننه الكبرى (5890).
[3] تقالُّوها: رأوها قليلة، وفَسَّروا قِلَّتها بأنه صلى الله عليه وسلم لا يحتاج للكثرة لكونه مغفورَ الذنب..
[4] البخاري: كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح (4776)، ومسلم: كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسُه إليه (1401)، والنسائي (3217)، وأحمد (13558).
[5] سعد بن هشام بن عامر الأنصاري من الوسطى من التابعين، ابن عم أنس بن مالك، وقُتِلَ بأرض مكران غازيًا. تهذيب الكمال10/307، الثِّقات لابن حبان 4/294.
[6] أحمد (24645)، وقال شعيب الأرناءوط: حديث صحيح.
د. راغب السرجاني