الرسول واليهود

لم يختلف اليهود كثيرًا عن المشركين، فبعد أن عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفَّى بعهدهم، وأحسن معاملتهم، ما كان منهم إلا الإساءة، ونكران الجميل، والتقوُّل على الله ورسوله وعلى المؤمنين، ومحاولة تشكيك المسلمين فيما يعتقدونه من الحق، وقد صبر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا، وتغاضى عن الكثير من أخطائهم، ولم يعاقبهم عليها رغم فداحتها، إلا أن الأمر بلغ حدًّا

لا يُطاق، وأصبح من الحكمة بمكان أن يتمَّ اتخاذ موقفٍ حازمٍ إزاء ما يفعله اليهود

بني قينقاع

غزوات الرسول مع اليهودبدأت قبائل اليهود في نقض العهود الواحدة تلو الأخرى، فقام يهود بني قينقاع بفعلٍ فاحشٍ تمالأوا فيه على الاعتداء على شرف امرأة مسلمة، كانت تشتري من سوقهم بعض حاجتها، كما اجتمعوا على قتل رجل مسلم[1].

واليهود بهذا الفعل الفاحش، وهذه الجريمة التي ارتكبوها، أصبحوا ناقضين لعهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قبل الرسول صلى الله عليه وسلم بإجلائهم وهو على استطاعة تامة أن يقتلهم جميعًا، وما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم من قبول الاكتفاء بإجلائهم عن المدينة يُعَدُّ عفوًا عظيمًا عن أناسٍ يستحقون القتل لنقضهم العهد، واعتدائهم على حرمات المسلمين، وتمالئهم على ذلك.

بني النضير

ولم يؤاخذ الرسول صلى الله عليه وسلم طوائف اليهود الأخرى بفعل إخوانهم من بني قينقاع، مع أنه كان بالإمكان إجلاؤهم أيضًا، فجميعهم ينتسب إلى دين واحد، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن إلى من بقي من طوائف اليهود، وقابل يهود بني النضير هذا الإحسان بالإساءة، فحاولوا الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاولة قتله، فبينما كان يجلس بينهم، ذهب أحدهم ليلقي صخرة من أعلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم!!

إن الخيانة التي تسري في دماء اليهود قد دفعتهم إلى هذه الجريمة التي لا عقاب لها إلا القتل جزاءً وفاقًا على ما دَبَّروا، ومع ذلك فقد حقن رسول الله صلى الله عليه وسلم دماءهم - بعدما مكَّنه الله عز وجل من رقابهم، وقذف في قلوبهم الرعب – وأجلاهم خارج المدينة، وتلك رحمة غير مسبوقة، ونادرة الحدوث من غير المسلمين في التاريخ البشري..

بني قريظة

ولم يعاقب رسول الله صلى الله عليه وسلم باقي يهود المدينة غير بني النضير، ولم يؤاخذهم بجُرم إخوانهم الذين أرادوا قتله، فقد كان بالمدينة يهود بني قريظة وكانوا على عهد وميثاق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين، أن يدافعوا مع المسلمين ضد أي عدوٍّ يهاجم المدينة، ولكنَّهم خانوا المسلمين في أشد المواقف حرجًا، فقد راسلوا الأحزابالمتجمِّعةَ حول المدينة، والآتية من مكة وما حولها لغزو المدينة واستباحتها، وتأكد الرسول صلى الله عليه وسلم من صحة هذا الأمر..

فعن سعيد بن المسيب رحمه الله[2] - في سياق قصة الأحزاب -: فبينما هم كذلك إذ جاءهم نعيم بن مسعود الأشجعي، وكان يأمنه الفريقان، كان موادعًا لهما، فقال: إني كنت عند عيينة بن حصن وأبي سفيان إذ جاءهم رسول بني قريظة: أن اثبتوا فإنا سنخالف المسلمين إلى بيضتهم[3]..

أي أن اليهود يعِدون الأحزاب إن خرج المسلمون إلى قتالهم أن يعتدي اليهود على نساء المسلمين وذراريهم وأموالهم وهو معنى مخالفة المسلمين إلى بيضتهم.

فهي إذن خيانة عظمى من هذه الفئة التي كانت على عهد وميثاق مع الدولة الإسلامية، ثم هي في أحلك الظروف تنقض العهد، وتتعاون مع العدو المهاجم من خارج الدولة.

فسبب غزوهم هو نقضهم للعهد الذي كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم في أحلك الظروف وأصعبها على المسلمين، فهل يدَّعي أحد بعد ذلك أن العقاب الذي أنزله النبي صلى الله عليه وسلم بهم فيه شيء من الإجحاف أو الظلم، وماذا لو تمَّ لهم ما أرادوا من غدر وخيانة للمسلمين، إن مصير المسلمين في هذه الحالة – من دون شك – هو القتل والتشريد وضياع المال والولد والأهل، وإذا كان الجزاء من جنس العمل فلا شك أن ما لحق ببني قريظة أمر يستحقونه نظير غدرهم وخيانتهم للعهد والميثاق، رغم الوفاء الكامل من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين لهم، وذلك بشهادتهم هم[4]..

يهود خيبر

أما يهود خيبر؛ فقد تحالفوا مع من جاءهم من يهود بني النضير كحيي بن أخطب، وكنانة ابن أبي الحقيق، وهَوذة بن قيس الوائلي، وخرج هؤلاء إلى قريش يدعونهم للتجمع والتحزب لاستئصال المسلمين في غزوة الأحزاب، ثم خرجوا إلى غطفان؛ فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجعلوا لهم تمر خيبر سنةً، إنْ هم نصروهم، وأخبروهم أنَّ قريشًا قد تابعوهم على ذلك، واجتمعوا معهم فيه، ثم خرجت يهود إلى بني سُلَيْم فوعدوهم المسير معهم إذا خرجت قريش.. لقد كانوا – إذن - العقل المدبر لتحالف الأحزاب ضد المسلمين. وعندما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر قريش وأَمِن جانبها بصلح الحديبية تفرَّغ ليهود خيبر وحاربهم.. فهل يُلامُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على حربه لمن حزَّب الأحزاب بغرض إبادة جماعية للمسلمين؟!

[1] ابن هشام: السيرة النبوية 2/47.

[2] هو سعيد بن المسيب المخزومي القرشي، أبو محمد، وُلِدَ سنة 13 هـ، سيد التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، جمع بين الحديث والفقه والزهد والورع، وكان أحفظ الناس لأحكام عمر بن الخطاب وأقضيته، حتى سُمِّي راوية عمر. توفي بالمدينة سنة 94هـ انظر: وفيات الأعيان 2/375 - الأعلام 3/102.

[3] انظر مصنف عبد الرزاق (9737) 5/368، من مرسل سعيد بن المسيب، وأبو نعيم، من مراسيل سعيد دلائل النبوة 2/504 – 505، وقد جاء من حديث عائشة، وأخرجه البيهقي في الدلائل4/1008، والحاكم في المستدرك3/34 - 35، وقال: صحيح علىشرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقرَّه الذهبي.

[4] انظر ابن كثير: السيرة النبوية 4/ 115 ، 116.



د. راغب السرجاني