ناضلت ضد الاحتلال والجهل والفقر وحرمان المرأة من حقوقهاإنها قصة كفاح امرأة في وجه قوى الرجعية في مجتمعها الذي كان يعارض المساواة بين الرجل والمرأة، وسيرتها هي محاولة للتعبير عن مولد وعي نسائي ولكنها أيضاً محاولة للكشف عن بعض جوانب المجتمع المصري في لحظة محددة من تطوره، هي إمرأة مصرية تمتعت بوعي إنساني شكلته القيم الإسلامية والإنسانية وصحوة الهوية القومية، كانت حياتها مثيرة، أبحرت بين أمواج متلاطمة ولكنها استطاعت أن تبحر وتسمع صوتها في الداخل والخارج. اتصلت بالأميرة شويكار والأميرة “فايزة” والملكة نازلي في الوقت نفسه كانت أمها حفيدة الحسيب النسيب “حسين قصبي” من طنطا والذي تقدم صفوف ما عرف (بالطبقة الثالثة) من الوفد المصري، كما ينسب لها الفضل في حصول المرأة المصرية على حق الانتخاب والترشح في دستور مصر العام 1956م.
هي الدكتورة درية شفيق (14 ديسمبر 1908 – 30 سبتمبر 1975) التي اشتهرت بـمؤسسة الدوريات الأدبية، من رائدات حركة تحرير المرأة في مصر ومناضلة ضد الاحتلال البريطاني لمصر وباحثة مصرية.
نشأتها
ولدت في مدينة طنطا في دلتا النيل عام 1908، درست في مدرسة البعثة الفرنسية في طنطا، تم ارسالها ضمن أول فوج طالبات من قبل وزارة المعارف المصرية للدراسة في جامعة السوربون في باريس على نفقة الدولة، وهي نفس الجامعة التي حصلت منها على درجة الدكتوراة في الفلسفة عام 1940، وكان موضوع الرسالة “المرأة في الإسلام”؛ حيث أثبتت في رسالتها أن حقوق المرأة في الإسلام هي أضعاف حقوقها في أي تشريع آخر.
لدى عودتها من فرنسا برفقة زوجها، رفض عميد كلية الآداب بجامعة القاهرة تعيينها في الجامعة كونها “امرأة”!، ولأنها لاتستطيع البقاء في البيت وهي كتلة من الحماس والنشاط اضطرت إلى قبول وظيفة مفتشة للغة الفرنسية لكل المدارس الثانوية في مصر، ولكن بدأت مع الوقت تشعر برتابة العمل وبأنها تقوم يعمل أدنى من مستواها العلمي ، فعرضت عليها الأميرة شويكار منصب رئاسة مجلة المرأة الجديدة التي تصدرها، واستهواها التحدي وراحت تطبق الشعار الذي وضعته لنفسها(أن أعرف، أن أقدر، أن أريد، وأن أجرؤ).. ومع كل هذا الإيمان العميق بقدرتها على النجاح بدأت عملها ولكن بعد فترة شعرت أن المحيط الذي تعمل فيه يتنافى مع طبيعتها فالعمل في محيط القصر، له أسلوبه ونظامه الذي لم ترتح له فقررت أن تترك المجلة فأصدرت مجلة بنت النيل، والتي كانت أول مجلة نسائية ناطقة بالعربية و موجهة لتعليم و تثقيف المرأة المصرية.
تعليم المرأة وتثقيفها
قامت بتأسيس حركة للقضاء على الجهل والأمية المتفشية بين الفتيات والنساء في عدة مناطق شعبية من القاهرة، فأسست مدرسة لمحو الأمية في منطقة بولاق.. واستخدمت مقر المدرسة الحكومية الابتدائية في الحي، ومع نهاية عام1950م بدأ اسم ”درية شفيق” ينتشر في مصر والشرق الأوسط بفضل نجاح مجلتيها وانتشر اسم ”بنت النيل” بين النساء الفقيرات في الأحياء الشعبية في المدن، وبين النساء المتعلمات من الطبقتين العليا والوسطى.
وأعلنت “درية شفيق” عن برنامج طموح للإصلاح الإجتماعي، وسارت في خدمة النساء العاملات والمحتاجات وافتتاح كافيتريا تقدم وجبات ساخنة مدعومة للنساء العاملات، وافتتحت مكتبا لتشغيل طلبة الجامعة.
وداخل “بنت النيل” المجلة والاتحاد وقفت بين طرفين متعارضين المحامي الشاب الماركسي “لطفي الخولي” الذي تولى سكرتارية تحرير المجلة، وكان يكتب لدرية مقالاتها .. وبين “الدكتور عبده” أستاذ الصحافة المعروف والذي اعترض على تعاونها مع “لطفي الخولي”.
قابلت رؤساء الهند وسيلان والعراق وإيران وباكستان، وهذا لم يمنعها أن تندد بالرئيس الباكستاني عندما اتخذ زوجة على زوجته “هاجمها الأصوليون” لأنها غربية التعليم والمظهر.
بداية الحركة النسائية
وفي عصر يوم من شهر فبراير سنة1951 تحركت “درية” من قاعة “ايوارت” في الجامعة الأمريكية بالقاهرة ومعها ألف وخمسمائة امرأة واقتحمت بوابة البرلمان وقادت مظاهرة صاخبة لمدة أربع ساعات، حتى اضطر نائب رئيس النواب إلى استقبالها بعد أن انتزعت من رئيس المجلس وعداً بأن ينظر البرلمان فوراً في مطالب المرأة
لقد كانت هذه اللحظة، لحظة تاريخية فعلا، لا بالنسبة لـ”درية” فحسب ولكن بالنسبة للحركة النسائية كلها، وبفضل مسيرة الاحتجاج هذه أمكن لوفد نسائي أن يطالب للمرة الأولى وفي قاعة البرلمان بحقوق محددة:
أولاً: السماح للنساء بالاشتراك في الكفاح الوطني والسياسي.
ثانياً: إصلاح قانون الأحوال الشخصية، بوضع حد لتعدد الزوجات، وتقنين الطلاق.
ثالثاً: تساوي الأجور في العمل المتساوي.
في الأسبوع التالي وبعد اقتحام البرلمان بأسبوع واحد، قدم نائب وفدي مشروع قانون لرئيس مجلس النواب، بتعديل قانون الانتخاب ومنح المرأة حق الانتخاب والترشح للبرلمان. ولكن تراجع رئيس الوزراء عن الموعد الذي حدده لمقابلة الوفد النسائي، واستدعيت “درية” للمثول أمام المحكمة ليوجه لها النائب العام تهمة اقتحام البرلمان، وقد تطوع للدفاع عنها محامون ومحاميات ولكنها اختارت “مفيدة عبد الرحمن”؛ ونظرا لعدالة القضية ولقوة دفاع المحامين عنها تأجلت القضية لأجل غير مسمى.
النضال ضد الاحتلال
في نهاية عام1951م وتصاعد الصدام المسلح بين فرق المقاومة المصرية ووحدات الجيش البريطاني، دعت “درية” المرأة للمشاركة في النضال من أجل التحرر الوطني؛ فنظم ”اتحاد بنت النيل” أول فرقة عسكرية نسائية في البلاد لإعداد الشابات للنضال مع الرجال جنبا إلى جنب، ولتدريب ممرضات ميدان وتمرين أكثر من ألف فتاة على الإسعافات الأولية. كما قامت بحملة تبرعات لتقديم المساعدات المالية للعمال الذين فقدوا عملهم في منطقة القنال.
كما حوكمت لقيادتها مظاهرة نسائية من “اتحاد بنت النيل” حيث قمن بمحاصرة بنك باركليز البريطاني في القاهرة في يناير 1951م ودعين لمقاطعته.
حزب نسائي
وبعد قيام الثورة 1952 طلبت من الحكومة تحويل (الاتحاد) إلى حزب سياسي وسجلت نفسها رئيسة له، وقد قبل طلبها ليصبح “اتحاد بنت النيل” أول حزب نسائي سياسي، وتصبح رئيسة أول حزب نسائي سياسي بعد قيام ثورة يوليو 1952م، لم يتوقف طموح “درية” فعند تشكيل اللجنة التأسسية عام19544 لوضع دستور جديد للبلاد، احتجت لأن اللجنة لم تضم بينها امرأة واحدة، فأضربت عن الطعام هي وبعض زميلاتها في نقابة الصحفيين لمدة100 أيام ولم توقف الإضراب إلا بعد أن ذهب إليها محافظ القاهرة حاملاً إليها رسالة شفوية من الرئيس محمد نجيب، يعدها بأن الدستور الجديد سيكفل للمرأة حقها السياسي وهو ماتحقق بمنح المرأة المصرية حق التصويت والترشح في الانتخابات العامة لأول مرة في تاريخ مصر الحديث.
ضد عبد الناصر
في فبراير 1957م بدأت الإضراب عن الطعام في السفارة الهندية بالقاهرة، وأعلنت لأجهزة الإعلام الدولية احتجاجها على “دكتاتورية جمال عبد الناصر”، وطالبت باستقالته. ووقف إلى جانبها الرئيس الهندي “نهرو”، وظل على اتصال بجمال عبد الناصر والسفارة الهندية.
هذا كان موقف “نهرو” والقصة الكاملة كالتالي: في عصر يوم الأربعاء 6 فبراير عام 1957م دخلت “الدكتورة درية شفيق" السفارة الهندية على بعد خطوات من مسكنها بالزمالك، وأرسلت بياناً لــ”جمال عبد الناصر” جاء فيه:”نظرا للظروف العصيبة التي تمر بها مصر قررت بحزم أن أضرب عن الطعام حتى الموت.. وأنا كمصرية وكعربية أطالب السطات الدولية بإجبار القوات الإسرائيلية على الانسحاب فوراً من الأراضي المصرية.. وأطالب السطات المصرية بإعادة الحرية الكاملة لمصريين رجالاً ونساء وبوضع حد للحكم الديكتاتوري الذي يدفع بلادنا إلى الإفلاس والفوضى، واخترت السفارة الهندية لأن الهند بلد محايد ولن أتهم بأنني فضلت معسكراً ما”.. واستشاط “جمال عبد الناصر” غضباً لأن الشرطة المصرية لا تستطيع أن تدخل السفارة الهندية للقبض على “درية”.
وقد أفردت الصحافة الأجنبية مساحات واسعة فإضراب “درية” ومطالبتها بإنهاء الدكتاتورية في مصر وخرجت “لندن تايمز” بعنوان “المدافعة المصرية عن حقوق المرأة تضرب عن الطعام في السفارة الهندية”. أما الصحيفة الألمانية “دي فيلت” خرجت بعنوان “امرأة من وادي النيل ترفع راية المقاومة ضد عبد الناصر”.
تقول الكاتبة “أمينة السعيد”: دخلت درية شفيق المستشفى فجأة ودون إنذار مسبق، وأعلنت عزمها الإضراب عن الطعام حتى الموت إذا لم يتنحَ الرئيس عن الحكم. ولحظة وصولها، كان بهو السفارة يعج بالصحفيين الأجانب الذين اتصلت بهم قبل وصولها”.
وقال السفير الهندي:”جاءت إلى السفارة وكانت تحمل في يدها مصحفاً كبيراً”. وبناء على نصيحة زوجها “الدكتور نور الدين رجائي” والتماسات ابنتيها “عزيزة وجيهان” واطمئنانها إلى تدخل “نهرو” نقلوها إلى مستشفى عبد الوهاب مورو في سيارة تابعة للسفارة الهندية واستمرت في الإضراب لمدة 11 يوماً، وفي 17 فبراير حملوها إلى بيتها وتحت ضغط الأسرة أنهت إضرابها، وقيدوا خطواتها واختفت درية من الذاكرة العامة حتى مأساة موتها في 20 سبتمبر عام 1975م”.
ويقول مصطفي أمين:” وعاشت درية شفيق في وحدتها، تخلى الأهل والأصحاب عنها أنصارها تخلوا عنها.. صديقاتها انقطعن عن زيارتها.. والصحف منعت من ذكر اسمها حتى وهي تذكر القرار بمنح المرأة المصرية حق الانتخاب ودخول نائبات في البرلمان وتعيين وزيرة في الوزارة، نسي الناس اقتحامها البرلمان سنة 1951م مطالبة بحق المرأة في الانتخاب، ونسوا أنها فقدت حريتها وصحفها وما لها وزوجها لأنها طالبت بمزيد من التحرر للمرأة”.
إصداراتها
أصدرت درية عدة دوريات أدبية منها مجلة المرأة الجديدة ومجلة بنت النيل ومجلة الكتكوت الصغير للأطفال، في سنوات العزلة انتجت 166 كتاباً وترجمت القرآن الكريم إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية، كما ألفت عدة دواوين شعرية وكتب إضافة إلى مذكراتها الخاصة.
نهاية مأساوية
توفيت درية شفيق في يوم 20 سبتمبر عام 19755م حين سقطت من شرفة منزلها في الزمالك بالقاهرة، حيث بقيت شبه مسجونة في شقتها في الدور السادس بعمارة وديع سعد طوال 188 عاماً، لا تزور أحداً ولا يزورها أحد، وقيل أنها انتحرت.