لعل من الصعوبة بمكان أن نختار عالمًـا واحدًا من علماء الجغرافيا المسلمين لنتوقف أمام سيرته وإنجازاته توقفًا خاصًّا؛ ذلك أن عبقريات المسلمين في ذلك المجال – كما رأينا – كثيرة عددًا.. غزيرة إنتاجًا.. وواسعة سبقًا وريادةً.. ومن ثَمَّ سنكتفي في هذا المقال بالتوقف أمام أحد أبرز عباقرة الجغرافيا المسلمين.. وهو "أبو إسحاق الإصطخري".
المولد والنشأة:
ولد الرحالةُ عالِمُ الأرضِ والجغرافيا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الفارسي الإصطخري (الذي يُعْرَفُ في بعض الأحيان باسم الكرخي) بمدينة إصطخر وهي مدينة برسيبوليس القديمة في بلاد فارس.
وقد عاش في القرن (الرابع الهجري - العاشر الميلادي)، وإن كنا لا نعرف الكثير عن نشأته الأولى؛ فالموسوعات أو كتب تاريخ العلوم لم تحدد عام ميلاده، وكذلك لم تذكر شيئًا عن سيرة حياته.. إلا أنه كان رحالة زار الكثير من أقطار العالم الإسلامي؛ فقد زار أكثر أقطار آسيا حتى بلغ سواحل المحيط الهندي، ودخل الهند وتوفي بها بعد عام (340هـ / 951 م).
منهجه العلمي في أبحاثه:
يستعرض "الإصطخري" منهجه العلمي الذي اتبعه في كتابه "المسالك والممالك" (الذي يُعَدُّ من أشهر مؤلفاته) فيقول:
"..فإني ذكرت في كتابي هذا أقاليم الأرض.. على الممالك، وقصدت منها بلاد الإسلام، وتفصيل مدنها، وتقسيم ما يعود بالأعمال المجموعة إليها.. ولم أقصد الأقاليم السبعة التي عليها قسمة الأرض، بل جعلت كل قطعة أفردتها مفردة مصورة، ثم ذكرت ما يحيط به من الأماكن، وما في أصقاعه من المدن والبقاع المشهورة والبحار والأنهار، وما يحتاج إلى معرفة من جوامع ما يشتمل عليه ذكر الإقليم.. لأن الغرض من كتابي هذا تصوير هذه الأقاليم التي لم يذكرها أحد علمته..".
وقد نهج "أبو إسحاق الإصطخري" منهجا علميا يدل على قدرته الفائقة في تصوُّر شكل الأرض؛ فلم يتجاهل الناحية الفلكلورية أو الاقتصادية أو الاثنوغرافية!! (الاثنوغرافيا هو علم في وصف السلالات البشرية وعادات وأخلاق الشعوب).. والحق أن هذه الطريقة التي سار عليها "الإصطخري" هي ذات الطريقة التي ينتهجها العلماء المعاصرون في مثل هذا النوع من الدراسات؛ وهو ألا تقتصر الدراسات الجغرافية على الجوانب الطبيعية فقط، دون التفات إلى الأبعاد الاقتصادية والثقافية والسلالية وغيرها مما يخص البشر الذين يحيون في هذه البقعة من الأرض..
كما يُحسب للإصطخري رحمه الله أنه ركَّز على المدلول الجغرافي والسياسي والإداري، وتجنب النظريات التقليدية التي تنُصُّ على تقسيم الأرض إلى سبعة أقاليم، وأخذ كل إقليم بذاته كوحدة جغرافية مستقلة.
لقد فهم "الإصطخري" منهج علماء المسلمين في مجال علم الجغرافيا فهمًا جيدًا مُحكمًا، وطبَّقه في مؤلفاته بدقة واستنباط ذكي؛ وبهذا عَرَفَ أصول المنهج العلمي التجريبي القائم على القياس والاستقراء، والمستند على المشاهدة والتجربة والتمثيل.
وإضافة إلى كل هذا فقد اشتهر أبو إسحاق الإصطخري بالإنصاف لمن سبقه من علماء الجغرافيا، كما اتصف بالصدق والأمانة العلمية وتقوى الله، وهي صفات – كما ترى - نحن في أمس الحاجة إليها في ميادين العلوم التجريبية وغيرها، وهي الصفات التي – كما رأينا من قبل كثيرًا – كانت تميِّز البحث العلمي في عصور الحضارة الإسلامية.. ولم تكن ثمار تلك الصفات قاصرة على الأمة الإسلامية.. بل أفادت منها الإنسانية جمعاء.
مؤلفات الإصطخري
لم يكن "الإصطخري" صاحب مؤلفات كثيرة؛ فكل ما وصلنا من أعماله كتابان هما: (صور الأقاليم)، والثاني: (المسالك والممالك).. ولعل تأثُّر "الإصطخري" واضح بعالم الجغرافيا السابق عليه "ابن خرداذبة" الذي ألَّف كتابًا بنفس العنوان (المسالك والممالك)..
كذلك اعتمد على كتاب "البلخي" (تقويم البلدان)؛ فماثل "الإصطخري" كتاب البلخي في مخططه، ولكن بتوسع ومراجعة وتصحيح لكثير مما جاء فيه، وهذان المؤلفان للإصطخري يعدان من المراجع الأمهات في علم الجغرافيا بالأخص.
وقد كان اعتماده الأكبر في تصنيف مؤلَّفَيْهِ السابقَيْن على رحلاته العديدة في طلب العلم في شتى الآفاق الإسلامية؛ فجاء وصف تلك البلدان بإطناب، إضافة إلى تزيينه كتابه الأول (صور الأقاليم) بالخرائط والأشكال التوضيحية.
أما مؤلَّفُه الأشهر (المسالك والممالك) فقد ظل في معظم مكتبات العالم كمخطوط حتى جاءت سنة (1287هـ - 1870م) وطبعه المستشرق (دي خويه) في ليدن بهولندا، وقد أُعِيدَ طبعه بالصور سنة (1346هـ - 1927م)، وقام بتحقيقه محمد جابر عبد العال الحسيني سنة (1381هـ - 1961م) ونشرته وزارة الثقافة المصرية بالقاهرة آنذاك؛ ولعل ذلك كان السبب في انتشار الكتاب وتداوله من قِبَل القراء في جميع أنحاء المعمورة.. ومنه عُرفت مكانة الإصطخري في ميدان علم الجغرافيا الإقليمية.
إنجازات الإصطخري في علم الجغرافيا
يعد الإصطخري من أوائل العلماء الذين جمعوا بين الجغرافيا الطبيعية والجغرافيا السكانية في كتبهم، وإذا كان قد اقتصر في مؤلفيه على وصف العالم الإسلامي فقد قسَّمَهُ إلى عشرين إقليمًا، وكان يتحدث عن الإقليم لا بوصفه نطاقًا يضم عددًا من درجات خطوط العرض، ولكن بوصفه منطقة جغرافية واسعة، لها خصائصها الطبيعية والسكانية والثقافية والاقتصادية التي تُميِّزها.
وقد تحدث في البداية عن الرُّبع المعمور من الأرض وأبعاده.. ثم تحدَّث عن البحار.. ثم بدأ بوصف جزيرة العرب والخليج العربي مع المحيط الهندي.. ثم السند والهند وأنهار سجستان.. ثم المغرب مع الأندلس وصقلية.. ومصر مع بلاد الشام وبحر الروم والجزيرة.. وإيران الجنوبية والوسطي والشمالية مع أرمينيا وأذربيجان وبحر الخزر (قزوين).. ومدن برطس في تخوم البحر المذكور وأعمالها وكورها وجبالها وأنهارها وعمائرها.. ثم يختم بحثه – أخيرًا - بوصف بلاد ما وراء النهر (التركستان).
ويذكر "الإصطخري" عن كل قطر معلومات تتعلق بالحدود والمدن والمسافات وطرق المواصلات، ويذكر تفاصيل متفرقة عن المحاصيل والتجارة والصناعة، وعن أجناس السكان، ولكن معظم التفاصيل تتعلق بالأقطار التي زارها.
وقد أولى "الإصطخري" عناية خاصة لموضوع المد والجزر؛ فله نظريات جزئية في هذا المضمار؛ مما يدل على طول باعه في علم الأنواء، والمعروف بين العلماء في الماضي أن علم الأنواء جزء لا يتجزأ من علم الجغرافيا.
ولا ننسى في حديثنا عن إنجازات "الإصطخري" أنه حاول بكل ما يملك أن يصحح الأخطاء الجغرافية التي وقع فيها علماء الجغرافيا السابقون له، واتخذ من الخرائط التي زخرت بها مؤلفاته وسيلة لشرح وإبراز الأفكار الجغرافية التصحيحية.. ومن أبرز تلك الخرائط (خريطة بحر قزوين) التي شهد المستشرقون بدقتها.. كما ركز على طريقة المقارنة بين المدن.. إلى غير ذلك من الإنجازات المبدعة التي تحملك على الاعتقاد بأنك أمام سيرةٍ وإنجازات لعالِمٍ من القرن (العشرين الميلادي - الخامس عشر الهجري) إلا أنه كان يعيش بين علماء القرن (الرابع الهجري - العاشر الميلادي)!!.
الإصطخري في كتب العلماء المسلمين
أتيح للمقدسي (ت: 380هـ/ 990م) أن يرى بعض كتب "الإصطخري"؛ فأكثر النقل عنه في (أخبار السند)، وقال يثني عليه: "..ورأيت ببخارى مترجَمًا لإبراهيم بن محمد الفارسي (يعني: الإصطخري)..." ثم يُعلِّق عليه بقوله: "..وهو كتاب قد أجاد أشكاله..."
كما يذكر "شاكر خصباك" في كتابه (في الجغرافية العربية) أن "أبا إسحاق الإصطخري" ساح العالم الإسلامي؛ لذا استفاد من رحلاته في تصنيف كتابه (المسالك والممالك) الذي يكتسب أهمية بالغة؛ إذ يعتبر رائدًا للكتب الإقليمية التي أُلِّفَتْ بعده في منهجه ومعلوماته وتبويبه.
بعد هذه الرحلة الموجزة مع حياة عالِمٍ مسلم فذٍّ كالإصطخري.. نجد أن نفس الحقيقة الغالية – التي لن نملَّ من التأكيد عليها – تطل علينا مرة أخرى.. لتؤكد لنا أن جهود علماء المسلمين (وخاصة في الفروع الحياتية من العلوم) ما كان لها أن تبلغ كل هذا المدى من السبق والإنجازات الدقيقة المتميزة – بالرغم من صعوبة الظروف وقلَّة الإمكانيات – لولا أن الصلة لديهم لم تنفصم بين بحوثهم العلمية البحتة وعبادتهم لله رب العالمين وتقّرُّبهم إليه.. فخرج عطاؤهم العلمي (كما نرى دائمًا) فذًّا سابقًا لعصره بقرون!!.. ونافعًا نزيهًا نظيفًا في ذات الوقت..
ونسأل الله عز وجلَّ أن يعز الإسلام والمسلمين..
ـــــــــــــــــــ
مراجع البحث:
1) علي بن عبد الله الدفاع، رواد علم الجغرافيا في الحضارة العربية والإسلامية، ص102 - 106 .
2) عبد الرحمن حميدة، أعلام الجغرافيين العرب، ص199.
د. راغب السرجاني