تحكي لنا عالمة الرياضيات هنّا فراي القصة المحيرة وراء 'اكتشاف' الصفر، ولماذا لن نستطيع التنبؤ بما سيحدث مستقبلًا من دون الصفر.
لا شيء يمثل صميم العلوم والهندسة والرياضيات، مثل الصفر بالطبع.
وقد أثار هذا الرقم القوي، رغم انعدام قيمته، جدلًا واسعًا وأدخل على النفس سرورًا أكثر من أي عدد آخر، وذلك لسبب واحد، أنه يمكننا من استشراف المستقبل.
لكن لكي ندرك مدى قوته ونفهم مبعث تلك القوة، علينا أن نفهم أولًا كيفية نشأته والمعارك التي خاضها. فالصفر لم يحظ بهذه المكانة إلا بشق الأنفس.
كان الصفر معروفًا منذ قديم الزمان، لكن كمفهوم وليس كعدد. فقد ظهر في كتابات الحضارة البابلية وحضارة المايا، إذ كان يستخدم لحساب انتهاء فصول السنة. كما استخدمه العلماء قديمًا ليرمز إلى عدم وجود عدد في إحدى الخانات، كما هو الحال عندما نضع صفرًا في العدد 101 أو 102، للدلالة على عدم وجود مضاعفات العدد 10 في الخانة الوسطى. وقد كان البابليون يرمزون للصفر بسهمين صغيرين مائلين.
ولكن على الرغم من روعة الرقم صفر، إلا أنه لم يُعترف به كعدد صحيح إلا بعد ألفين سنة، وكانت الهند أولى الدول التي اعترفت به.
يرى أليكس بيلوس، مؤلف كتب الرياضيات، أن الهند وفرت البيئة المثالية لظهور الصفر، ويقول معقبًا: "فكرة اللاشيء، الذي يمثل بذاته شيئًا، هي فكرة راسخة في الثقافة الهندية. لو تأملت مثلًا كلمة 'نيرفانا' التي تعني حالة من اللاوجود أو العدم، حيث تتخلص من جميع مخاوفك ورغباتك. فلماذا لا يوجد رمز للدلالة على اللاشيء؟".
وأطلق الهنود على هذا الرمز اسم "شونيا"، وهي كلمة مازالت تستخدم اليوم لتعني اللاشيء كمفهوم، والصفر كعدد.
وعلى الرغم من أن جميع الأرقام الأخرى التي نستخدمها اليوم قد تغير شكلها تمامًا على مرّ التاريخ، فإن الصفر ظل محتفظًا بشكله الدائري. وقد كنت دومًا أتخيل أن الدائرة ما هي إلا ثقب، لا يمثل شيئًا، إلى أن أدركت مفهوم الصفر الذي عرضته فراي مع روثرفورد في برنامج "الحالات المثيرة للفضول" على إذاعة بي بي سي فور.
ووفقًا للمذاهب الدينية الهندية، فإن الصفر مستدير لأنه يدل على دائرة الحياة، أو كما كان يعرف باسم "ثعبان الخلود (أوروبوروس)".
الرمز الذي كان يستخدمه البابليون للدلالة على عدم وجود عدد في إحدى الخانات.
وعودة إلى الهند، حيث مهّد براهماغوبتا، عالم الفلك، الطريق لصعود الصفر إلى المجد في القرن السابع. وقد يستخدم شونيا (أو الصفر بالهندية)، في الرياضيات، للدلالة على انعدام العدد في إحدى الخانات، لئلا تترك هذه الخانة خالية فتختلط حينئذ الآحاد بالعشرات والمئات، فضلًا عن أنه قد يُستخدم في الحسابات، مثله مثل أي رقم آخر.
وعلى الرغم من أن الصفر قد يُضاف ويُطرح ويُضرب في غيره من الأرقام، إلا أنك قد تجد صعوبة في القسمة على الصفر. غير أن هذا التحدي بعينة كان بمثابة نواة لمجال جديد رائع من الرياضيات، كما سنرى لاحقًا.
وبعد أن شاع استخدام الصفر في جنوب آسيا، وأصبح له مركزًا وطيدًا بين الأرقام، شقّ طريقه نحو الشرق الأوسط، حيث تلقفه العلماء في العالم الإسلامي وحظي بأهمية كبيرة، وشكل جزءًا من نظام العدّ العربي الذي نستخدمه اليوم، (يقول بعض المؤرخين إن الأدلة التي تثبت نشأة الصفر في الهند قد طمست من التاريخ، ومن الأحرى أن نطلق عليه، نظام العد الهندي- العربي).
ولكن بعد هذه البدايات الروحانية والفكرية الرائعة، واجه الصفر صراعًا حقيقيًا. فقد تزامن انتقاله إلى أوروبا مع الحروب الصليبية على البلدان الإسلامية. وفي هذا الوقت، كانت كل الأفكار الواردة من العرب، حتى لو كانت في مجال الرياضيات، تُقابل بالتشكيك والارتياب من مختلف الطوائف.
وفي عام 1299، حُظر استخدام الصفر في فلورنسا، بإيطاليا، وحظرت معه كل الأرقام العربية، لأن هذه الأرقام، حسبما زعموا، ستؤدي إلى إشاعة الغش والتدليس بين الناس. فإن الصفر، بحسب قولهم، يسهل تعديله ليبدو كأنه الرقم تسعة، ثم ما الذي يمنع الناس من إضافة بضعة أصفار إلى الرقم الوارد في نهاية الإيصال لتضخيم السعر؟
والأدهى من ذلك، أنهم كانوا يرون أن الصفر سيؤسس لسلوك خطير، لأنه يمثل مدخلًا إلى الأرقام السلبية. وقد أضفت هذه الأرقام السلبية الصبغة الشرعية على مفهوم الديون والاقتراض.
لا شيء يبعث على الفخر
والعجيب أنه لم يُجز استخدام الصفر وسائر الأرقام العربية في أوروبا سوى في القرن الخامس عشر. علمًا بأن جامعة أكسفورد قد أقيمت في إنجلترا قبل قرون من إجازة الصفر والأرقام العربية، وكانت المطبعة التابعة لها تعمل بنشاط.
ومما لا شك فيه، أن جامعة أكسفورد والمطبعة التابعة لها قد ساهمتا في ازدهار فكرة استخدام الصفر في الرياضيات، ليمثل الركيزة الأساسية لبعض أفضل الأساليب العلمية والتكنولوجية التي نستعين بها اليوم.
يقول بعض المؤرخين إن الأدلة التي تثبت نشأة الصفر في الهند قد طمست من التاريخ، ومن الأحرى أن نطلق عليه، نظام العد الهندي- العربي
ومع حلول القرن السابع عشر، حقق الصفر إنجازًا جديدًا، حين أصبح أساسا لنظام الإحداثيات الديكارتي (أي السين والصاد كما درستها في الرسم البياني في المدرسة)، الذي اخترعه الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت.
ومازال نظام الإحداثيات الديكارتي مستخدمًا في كل شيء من الهندسة إلى تصميمات الغرافيك.
وفي وصف رائع لقدوم الأرقام العربية، قال بيلوس: "أشعل قدوم نظام العد العربي، الذي يتضمن الصفر، إلى أوروبا، شرارة عصر النهضة، ليثري علم الحساب الباهت بالألوان المتعددة ويزيده بهاءً".
وقد زادت قوة الصفر إبان عصر النهضة، ليلهب حماسة محبي الرياضيات مرة أخرى. فقد ذكرت في البداية إشكالية القسمة على الصفر، وقد أضحت مسألة قسمة الصفر على الصفر، الأكثر إشكالًا، أساسًا لحساب التفاضل والتكامل، وهو أحد أفرع الحساب المحببة إلى نفسي.
يُعنى التفاضل والتكامل بحساب معدل التغير ويوفر لنا بعض الأساليب الفعالة للتنبؤ بما قد يحدث في المستقبل، بدءًا من انتشار الإيبولا إلى حركة أسواق الأسهم، فهو يعد أداة ناجعة بالفعل.
وإيجازًا، كيف يعمل التفاضل والتكامل؟ تخيل أنك ترسم رسمًا بيانيًا لشيء يتغير مع مرور الوقت. لنقل مثلًا معدل تركيزك أثناء قراءة هذا المقال. فبما أن انتباهك قد يتشتت مع الوقت، ولا سيما في الجزء الخاص بالإحداثيات الديكارتية، فستجد الخط يتعرج يمينًا ويسارًا.
ولكن بتكبير الرسم البياني، ستجد أن كل جزء من المنحنى يبدو وكأنه خط مستقيم. وبتكبير الرسم أكثر فأكثر، إلى حد يسمح لك بتحليل الأجزاء متناهية الصغر من المنحنى، التي تقترب من حجم الصفر، ستجد أن كل العلاقات المتشابكة أصبحت خطوطًا مستقيمة ومهندمة، ويسهل التعامل معها رياضيًا.
ومن خلال التفاضل والتكامل، يمكنك أن تصف معدل تغير أي شيء يطرأ على بالك، من حركة أسواق الأسهم مع مرور الوقت إلى سرعة انتشار الدواء في مختلف أجزاء جسمنا. وبالطبع لولا الصفر، لما كنا تمكننا من قياس أي من هذا.
ولهذا فإن هذا العدد الأقوى والأكثر استدارة في التاريخ يستحق أن نحتفي به كما ينبغي.