محمد ابو عرب
لا يملك الكتّاب بنادق وسكاكين حادة، ليحملوا قلوبهم على أكفهم ويمضوا إلى الحرب، كالجنود المحملين بالعتاد. فكل ما يملكونه هو اللغة، هي سلاحهم الوحيد ليواجهوا ضراوة الحياة وقسوتها. كم مفردة كانت أكثر فتكاً من رصاصة قناص، وكم عبارة جرحتنا أشد من نصل حربة.
لهذا لا يسعنا ونحن نتابع الحرب التي تعلك أجساد الأطفال، وتعبر من فوقنا مثل مجنزرة ثقيلة، تترك خلفها أشلاءنا، والكثير من الدم، لا يسعنا إلا أن نكتب. ونروي حكاية القتل والفتك، كي نحمل الماضي من فكرة النسيان إلى الأزلية والقداسة. فلا يمكن لهذا الدم الذي يحملنا معه أن يجف، ويُنسى، وكأنه بقايا ليلة ماطرة، تحملها الشمس بعيداً عنا.
هل توقفت البشرية عن الحرب يوماً واحداً؟
كلنا مصابون بالحرب ونملك ما نرويه عنها. فإن لم يكن أجدادنا وآباؤنا قد خاضوا حرباً، فإننا نعيشها اليوم بكامل الذاكرة. كما يؤرخ الأمريكي ويل ديورنت: "لم تتوقف الحرب طوال تاريخ البشرية سوى تسعة وعشرين عاماً". ربما كانت هدنة أو استراحة بين حربين. وكأنه يقول بذلك إن سيرة البشرية هي سيرة القتل والسفك والدم.
لا يبدو ما تشهده بلادنا اليوم من حرب، سوى فصل جديد لتاريخ الدم. فليس للقتل سيَر كثيرة، إنه يكتب حكايته بعبارات جديدة ليس إلا، ونحن المفردات في هذه العبارة القاسية. يكفي الوقوف ملياً عند سيرة جندي واحد، لنعرف أن الحرب هي الحرب، وأننا نعيدها يوماً تلو آخر، لنؤكد أن الإنسانية تعيش زيفها، ولم تحقق من حقيقتها سوى ما يطمح إليه الشعراء.
يدفعني ما يجري اليوم في حلب، إلى سرد حكاية عمي، بوصفه نموذجاً لمن عاش الحرب، وكان على مرمى النار فيها. هو ليس عمي، غازي ذياب أبو عرب، بقدر ما هو صورة الجندي الذي عرفه تاريخ القتل والصراع، منذ أخذت الحرب شكلها، وصار القتل والدم هدفاً لبقائنا، ووهماً لفكرة النصر.
كان عمي واحداً من الجنود الذي شاركوا في معركة الكرامة التي خاضها الجيش الأردني، في 21 مارس 1968، ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي. فكان في عداد جنود سلاح المدفعية، يجلس خلف معدات الرصد، ويتابع إحداثيات سقوط القذائف، ويشكل هدفاً كبيراً لقوات الاحتلال، بوصفه الغطاء المركزي للجنود المشاة.
معركة الكرامة 1968
بقدر ما نزعم أننا نعرف عن الحرب، أو نملك ما نرويه عنها، إلا أننا حقيقةً لا نعرف شيئاً. فكما يقول الشاعر الفرنسي رولان: "الرجل الذي لم يفهم بلحمه ودمه لا يستطيع التكلم عنها". السيرة التي يرويها الجندي بعد عقود طويلة، وحدها ما يمكن أن تجعلنا أكثر قرباً من الحرب، وساحة المعركة.
حكاية الرجل الذي نجا من قذيفة
تسرد سيرة غازي أبو عرب حكاية من ثلاثة فصول، تتكشف فيها مفاهيم عديدة للحرب. الأولى، سيرة فتوة الشباب قبل أن ينخرط في العسكرية، ويرتدي البزة الخضراء الكاكية. الثانية سيرة المعركة ومجرياتها يوماً تلو آخر، والثالثة سيرة الكهل الذي يعاني اليوم آلاماً في ركبتيه، ويعتزل الناس، ويهرب إلى المزارع، يرقب الأشجار، ويسهر على ريّها، ويسمع صوت الماء فيها.
تتحول الحرب في هذه السيرة، التي حين ننزع منها الزمان والمكان، إلى سيرة كل جندي خاض معركة، وسمع أزيز الرصاص، وصراخ الجنود، وهي شكلّت هوية جديدة لغازي، فلم يعد ذاك الفتى الذي كان يشغل الحي بصلابة قامته، ولم يعد كذلك الكهل الذي يربي أبناءه بهدوء من يشرب القهوة صباحاً، ويستمع إلى صوت النهار الذي يطل من خلف الجبال.
الحرب هي هويته الجديدة، تجره نحوها، ولا يمكنه الخروج منها. وكما يقول صموئيل هاينز في كتابه "حكاية الجند"، ترجمة فلاح رحيم 2015: "لا يشارك رجل في حرب دون أن يتغير بفعلها تغيراً أساسياً (...) تبدأ غالبية قصص الحرب بشاب لا يتمتع بمكانة خاصة، يعيش تجربة ليخرج منها وقد أصبح ما حدث له دالاً عليه".
إنها حتماً دالة عليه، فعلى الرغم من أن غازي كان يتحاشى الحديث عما شهده في الحرب، إلا أنه كان يجد نفسه في مرات كثيرة مجروراً نحو واقعة بعينها، يدين فيها للحظ بأن جعله حياً ليرويها. فيسرد أنه خلال المناوشات الكثيرة التي سبقت الحرب، كان ينشر بزته العسكرية بعد غسلها استعداداً لتفتيش عسكري، وفي الوقت الذي أدار ظهره لثيابه المعلقة على الحبل ومشى بضع خطوات عائداً إلى ثكنته، سقطت قذيفة محل قامته، داخل الخندق العسكري، وأخذت الشظايا نصيبها من جسده". حمل غازي بزته العسكرية إلى بيت أهله، ليروي لهم ما جرى، كانت البزة بقايا ثياب عسكرية، احترقت وتمزقت، ولم يبقَ منها سوى بقايا ياقة وكمّين.
يستعيد غازي هذه الحكاية، وكأنه يبرر ما آل إليه اليوم، فكل ما تركته قسوة الحرب في قلبه، صار رماداً بارداً. كثر هم اليوم الذين يلومون انعزاله، وهدوءه المبالغ به، حتى مع أبنائه بات مسالماً، لا يصل معهم إلى مرحلة الأبوة، بقدر ما يظل صديقهم الذي ينظر إلى الحياة بوصفها بركة راكدة، يخشى عليها حتى من الهواء.
عربة للأذرع والسيقان المبتورة
يعيش الجنود في الحرب واقعاً يجدونه طبيعياً خلال المعركة، ولا يقل عن الاستيقاظ مبكراً، والذهاب إلى العمل، رغم أنه بعد الحرب يبدو مفارقاً، وبشعاً، ووحشياً. في مذكرات يرويها الجندي ألشا ستوكويل بعد الحرب الأهلية الأميركية (1861-1865)، يصف تلك الطبيعية المفرطة لوحشية الحرب، فيقول: "عندما عدت إلى المعسكر، كانوا حمّلوا كل شيء على العربة، وتحركنا إلى شرق المدينة حيث يخلى الجرحى، كانوا يطرحونهم في صفوف لا تفصل بينها إلا مسافة تكفي للمسير فيها. وكان ثمة خيمة للحالات السيئة، حيث يتم بتر الأذرع والسيقان. وكان يتكوم خلف إحدى الخيم حمل عربة من الأذرع والسيقان. سيقان لا تزال تحمل الأحذية والجوارب".
ويكتب أحد الجنود الفرنسيين، الذين شهدوا معركة "فيميرو"، واحدة من حروب النزاع بين فرنسا وتحالف قوات إسبانيا، البرتغال للاستيلاء على شبه جزيرة أيبريا من 1807 حتى 1814: "كان مطروحاً على جنبه بين أجمات محترقة، وسواء أكانت حرارة الرمي في المكان قد أشعلت النار في هذه الأجمات، أو شيئاً آخر قدح فيها النار، الأمر لا يستطيع الجزم به، ولكن المؤكد (لأن الكثير من رفقائي رأوها كما رأيتها، وأطلقوا الكثير من النكات) أن هذا الرجل، الذي خمّنا أنه فرنسي، كان قد شوي تماماً كما لو أنه سفد بسيخ أمام نار قوية لشيّ الدجاج. كان قد احترق حتى صار لونه بنياً تماماً، وكل عرزة في ثيابه قد انحلت، وكان مسحوباً إلى الأعلى مثل ضفدع مجفف. أتذكر الآن بشيء من الدهشة أن مصير ذلك المسكين البائس لم يدفعنا إلا إلى أقل القليل من التعاطف، بدا موضوعاً للتندر لا غير".
لماذا يكشف الجنود عن أجسادهم؟
ذلك تماماً ما يتحاشى غازي أبو عرب سرده وهو يستعيد الحرب، فالحكايات حولها تتنامى لتأخذ شكلاً أسطورياً في الكثير من الأحيان. إلا أن ذلك ليس ما كان عليه جندي آخر، كان لا يتوانى عن خلع ثيابه، والكشف عن آثار الرصاص التي اخترقت جسده، والإشارة إلى مكان الحربة التي بقرت بطنه وأخرجت أحشاءه، حين كان جنود الاحتلال "الإسرائيلي" يعودون إلى الأراضي المحروقة، ويتأكدون من موت كل الجنود فيها، بالحراب التي تشق بطونهم ضماناً لموتهم.
شهد القرن العشرون قرابة 35 حرباً، كان فيها ضحايا الحربين العالمية الأولى والثانية فقط أكثر من 60 مليوناً. وها هما العقدان الأولان من القرن الواحد العشرين، يسجلان تاريخاً جديداً للحرب، تروي سيرته المنطقة العربية بكامل قتلاها، ودمائها. فهل حقاً الحرب هي حكاية البشر الأثيرة، ولعبتهم التي لا يملّونها؟