من تاريخ عادات وتقاليد الشعوب القديمة: عيد راس السنة الاشورية
للشعوب في كل مكان وزمان عادات وتقاليد ومناسبات اعتادت على الاحتفال بها واقامة مراسيمها بشكل ثابت لما تمثله لها من اعتزاز وشعور بكيانها وشخصيتها المعنوية ،فضلا عما لهذا المناسبات من مدلولات دينية واجتماعية وثقافية ناهيك عن الجانب السياسي والوطني منها..
والاشوريون من الاقوام التي سكنت وادي الرافدين منذ اقدم الازمنة واقاموا حضارتهم على تلك الارض الطيبة ارض الخيرات والعطاء وقد استوطنوا في المنطقة الممتدة من شمال الصحراء الغربية الى المنطقة الشمالية .
ومن العادات والتقاليد الثابتة لدى الاشوريون هوما اعتاده اجدادهم سكان وادي الرافدين القدماء على الاحتفال بالاول من نيسان سنويا كاول يوم من ايام السنة وهو رمز ميلاد الارض والحياة عليها. وكانت هذه الاحتفالات من اعظم مايقام من احتفالات دينية وقومية في البلاد.ويعود احتفال سكان وادي الرافدين براس السنة الى اسطورتين كانوا يعتقدون بها ويقدسانها. الاسطورة الاولى: هي قصة الخليقة وبطلها الاله ( مردوخ) لدى البابليين و(آشور) لدى الاشوريين, وقد جاء في كتاب ( الحياة اليومية في بابل واشور) سردا لوقائع هذه الاسطورة مفادها : انه في البدء لم يكن هناك شئ سوى ( ابو) اله الحياة العذبة و ( تياجات) الهة المياه المالحة, ولم تكن هناك ارض ولا سماوات ( حسب اعتقادهم) ، كما ان الالهة الاخرى لم تكن قد خلقت بعد….. وعند تزاوج هذين الالهين اصبحت هناك اجيال من الالهة منهم الجيل الاول ( لخمة ولخامة) والجيل الثاني ( ممود انشاروكيشار) والجيل الثالث ( انو وانليل وايا) ، ولسبب غير معروف بالضبط استاءت الالهة ( تيامات) وزوجها الاله ( ابو) من هذه الالهة ،وقررا التخلص منها , وقد ولدت الالهة ( تيامات) احدى عشر شيطانا مخيفا تقاتل بهم الالهة الصغار يقودهم كبيرهم ( كنكو) وفي هذه الاثناء يولد للأله ( ايا) ولدا عظيما له صفات جليلة تدل على القوة والعظمة اسمه ( مردوخ) لدى البابليين و ( اشور) لدى الاشوريون وعندما سمع الالهة الصغار بالجيش الذي هيئاته الالهة (تيامات) عقدوا اجتماعا وعينوا ( اشور مردوخ) زعيمهم وقائدهم لمقاتلة ( تيامات) ومنحوه كل قوة يملكونها, وتعهدوا له بان يطيعوا امره, وهكذا القى ( اشور) القبض على ( كنكو) واخذه اسيرا, اما ( تيامات) فقد امسك بها وشطرها نصفين, صنع من نصفها ( السماوات) ومن النصف الاخر ( الارض), واخيرا قرر ان يخلق الانسان لكي يخدم الالهة عند استراحتها ونظرا لحاجته الى الدم لكي يجريه في عروق الانسان فقد قتل ( كنكو) واستعمل دمه لخلق الانسان .
اما الاسطورة الثانية والتي حدت با لبابليين والاشوريون الى ان يختاروا الاول من نيسان ليكون اليوم الاول من السنة فهي اسطورة ( عشتار) وزواجها من ( تموز) الملك الذي جعلت منه ( الها) ويصف الدكتور فاضل عبد الواحد علي في كتابه ( عشتار وماساة تموز) تفاصيل هذه الاسطورة بدقة حيث نسمع في البدء حوارا بين ( عشتار) وزوجها الاله ( اوتو) تعلن فيه (عشتار) حبها للفلاح ورغبتها في الزواج منه الا ان اخيها يقنعها بالزواج من الراعي ( تموز) وبعد ان تسمع ( عشتار) كلمات ( تموز) التي يفخر بها بنفسه ويبين تفوقه على الفلاح تعلن عن رايها وتقع في حب الراعي ( تموز) , وبعد لقاء بينهما يقرر (تموز) ان يخطب ( عشتار) من امها ( منكال) وهكذا تتزوج ( عشتار) الهة الحب والجنس من ( تموز) الذي اصبح الها للخصب . ونتيجة لهذا التزاوج تمتليءالارض خصبا وتتكاثر الانساب ، وتقول الاسطورة : ان الالهة ( عشتار) تقرر النزول الى العالم السفلي ( عالم الاموات) حيث مقر اختها ( ايرشكيكال) ولم يعرف السبب الحقيقي لنزول ( عشتار) الى مراسيم دفن زواج اختها كما جاء في عالم الاموات وقد يكون لحضور في النص السومري من الاسطورة او لاطلاق سراح بعض الاموات كما جاء في النص الاشوري من الاسطورة . ومهما يكن السبب فان الالهة ( ايرشكيكال) تبدي عدم ارتياحها من هذه الزيارة وهكذا, وعندما تمر الالهة ( عشتار) بالبوابات السبع ينزع عند كل باب جزء مما ترتدي الى ان تبدو عارية امام اختها ( ايرشكيكال) والتي تلقي اليها بنظرات الموت وتحيلها الى جثة هامدة..
وكانت ( عشتار) قد طلبت من رسولها المفضل ( بيوكال) انه في حالة عدم رجوعها من عالم الاموات بعد ثلاثة ايام فان عليه ان يذهب الى ( ايا) اله الحكمة لكي يساعدها في اطلاق سراحها, ومرت الايام الثلاثة ولم تعد عشتار مما حدا بـ ( بيشوكال) ان يذهب الى الاله ( ايا) ويتوسل اليبه لاطلاق سراح (عشتار) من العالم السفلي .وعندما سمع( ايا) ماحل بالاله ( عشتار) اوجد مخلوقا اسمه ( اسو- شو-نامر) وكان هذا المخلوق جميل الخلق الى حد كبير وطلب اليه ان ينزل الى( ايرشكيكال), في العالم السفلي ويحاول كسب قلبها ثم يطلب منها اطلاق سراح ( عشتار) , يهبط ( اسو-شو-نامر) الى العالم السفلي وما ان تقع عينا الالهة ( ايرشيكيكال) تى باسرها بجماله الباهروعندما يتاكد لديه بانه قد تملك مشاعرها يطلب منها ان تقسم قسم الالهة العظيمة بان لاترد له طلب فتؤدي ( ايرشيكيكال ) القسم المطلوب . وعندها يطلب منها ماء الحياة ليرشها على ( عشتار) ويعيدها تنتبه ( ايرشكيكال) الى الخدعة يتملكها حزن وغضب عميقين ولكنها لاتستطيع الرجوع عن قسمها فتعيد (عشتار) الى الحياة بعد ان تكيل اللعنات والسباب الى ( اسو- شو- نامر ) وتشترط ان تاتي ( عشتار) ببديل يحل محلها في عالم الاموات وعندما تخرج عشتار من عالم الاموات يكون برفقتها زمرة من الشياطين لكي ياخذوا شخصا اخر الى عالم الاموات بدلا من ( عشتار) .
تمر(عشتار) بعدد من المدن فترى بان سكانها قد رفعوا شعائر الحزن بسبب موتها ولكنها عندما تصل الى باب زوجها ( تموز) تراه غير ابه لما حصل وغير مكترث لموتها بل جالسا تحف به مظاهر الاجلال وقد ارتدى افخر الثياب , فتلقى عليه ( عشتار) نظرات الموت ويهجم الشياطين عليه ويتمكن ان يفلت منهم عدة مرات بمساعدة صهره الاله ( اوتو) الا انه اخيرا يقع في قبضة الشياطين فيضربونه حتى الموت وياخذونه الى عالم الاموات فتحزن اخته ( كشتن- انا) وتبكيه وتتوسل الى ( عشتار) ان تطل سراحه ،كما ان ( عشتار) ايضا تحزن لموت زوجها وحبيبها ( تموز) بعد ان تهدا سورة غضبها تلتجئ الى مجلس الالهة متوسلة اليهم ان يعيدوا ( تموز) الى الحياة ولكن المجلس يقرر منح الخلود النصفي ( لتموز) أي يبعث الى الحياة ستة اشهر وينزل الى عالم الاموات ستة اشهر اخرى من السنة هكذا يبعث ( تموز) الى الحياة في اليوم الاول من شهر نيسان الذي كان الشهر الاول من الربيع في ذلك العهد, وتكون علامة بعث ( تموز) الى الحياة هي نمو العشب , وتفتح الازهار, وتكاثر الخرفان, وتناسلها رمزا لبدء الحياة على الارض, ويعود ( تموز) الى عالم الاموات في نهاية شهر اب أي مع بدء فصل الخريف.
وصف الاحتفالات
راينا كيف ان هاتين الاسطورتين قد جعلتا البابليين والاشوريون بحتفلون بالاول من نيسان لعيد راس السنة وبدء الحياة على الارض وكانت الاحتفالات تستمر لمدة اثنا عشر يوما ويصفها الدكتور محمود الامين في كتابه ( اكيتو) كما يلي:ـ اليوم الاول يقوم رئيس الكهنة باكساء وتمثال الاله ( اشو) ( مردوخ) بكسوة قشيبة وتقدم الضحايا والقرابين ويقوم الكهنة ياخذ مكانهم من الاحتفالات.وفي اليوم الثاني يوم رأس الكهنة بالطواف حول تمثال الاله المقدس ثم يجري قداسا في الليل ينشد التراتيل للاله ( اشور) , ثم يدخل كهنة اخرون ينشدون التراتيل الدينية ويقيمون الصلاة للاله ( اشور) والاله ( اتو) في اليوم الثالث يقوم رئيس الكهنة لوحدة باقامة صلاة للاله ( اشور) ثم يشترك معه بقية الكهنة. في اليوم الرابع تعاد مراسيم الصلاة نفسها وفي مساء هذا اليوم يقرا رئيس الكهنة قصة الخليقة على شكل تراتيل دينية. وفي اليوم الخامس يقوم رئيس الكهنة بتطهير معبد الاله ( اشور) والاله ( نابو) حيث يقوم احد الكهنة بذبح كبش ويمسح كاهن التعاويد جدران المعبد بجسم الكبش ويرميه في نهر دجلة . وفي هذاه الاثناء يكسى معبد الاله ( نابو) بغطاء ذهبي ثم يسافر الاله ( نابو) الى ( اشور) حيث مقر الاله ( اشور).
وفي اليوم السادس يقاد الملك ليلمس ايدي الالهة وخاصة يدي الاله ( اشور) ( مردوخ) وعندما يتقدم اليه رئيس الكهنة وينزع عنه شعار الملكية الصولجان والسلاح ويرفع من فوق راسه التاج ويضربه على خدهه ويسحبه من اذنيه حتى يركع امام الاله ويؤدي صلاة الغفران , وفي هذا اليوم ياتي جميع الالهة ال ( اشور) أو( بابل). في اليوم السابع تمثل دراما محزنه لموت الاله (اشور) ( مردوخ) وصعوده الى السماء, ويبحث الناس عنه في كل مكان مولولين وناجيين وتسود الفوضى ويحل الاضطراب في البلاد, حيث يسلم الحكم لاحد الغوغاء ويلتف حوله المجانين والفوضويين فيحكم ويقتل وينهب ويغتصب كيفما يشاء ويعبث بامور البلاد طوال النهار حتى تغرب الشمس وعندها ينزل عن العرش وينتزع منه التاج والصولجان ويقدمان الى المللك الشرعي فيعود الى عرشه ويجلس عليه وسط تهاليل الشعب. والغاية من هذه العملية هي تذكر الناس بالحكم المستقر المنظم ومقارنته بحكم الفوضى وانتصار سلطان الخير على سلطان الشر. في اليوم الثامن يرجع الاله ( اشور) ( مردوخ) الى الحياة وتجتمع الالهة لتعيين اجال البشر للسنة الجديدة وتبدا مسيرة ياخذ الملك فيها يد الاله ويعيد اليه رئيس الكهنة شارة الملك والصولجان والعصا والسلاح والتاج ويصبح الملك الشرعي للبلاد
ولايعرف الكثير عما يجري في اليوم التاسع ولكن في اليوم العاشر تمثل دراما رمزية للخليقة يقوم فيها الملك بدور الاله (اشور) ( مردوخ) حيث يصارع الالهة ( تيامات) ويقتلها. وفي اليوم الحادي عشر تعود الالهة الى المعبد الرئيسي حيث تعقد فيه اجتماعا اخيرا تؤكد فيه اجال البشر التي عينها الاله ( اشور), اما الاله ( اشور) فيقضي ليلته في المعبد العالي مع سيدة من اجمل بنات البلاد ينتخبها كهنة المعبد, وهذا هو الزواج المقدس لتشجيع التكاثر بين الهة الخصوبة والبشر.وفي اليوم الثاني عشر وهي نهاية الاحتفالات تغادر الالهة المدينة فيذهب كل اله الى معبد مدينته.
واخيرا فان قيام الالهة بتعيين الاجال للبشر في اجتماعهم لكل سنة قد ابقى اثاره في المجتمع الاشوري المعاصر حيث يمارسون العاب الحظ لمعرفة حظوظهم لتلك السنة وتطور من ذلك لعب القمار الذي يمارسه البعض البعض ليلة راس السنة كما ان الاشوريون من سكنة قرى الشمال اليوم يضعون قبضة من الحشائش الخضراء بعتبة الدار في اليوم الاول من نيسان كدلالة للخضرة والازدهار بالسنة الجديدة.
ومن الاثار التي بقيت من هذه الاحتفالات ايضا انه في اليوم الحادي عشر وهو يوم الزواج المقدس حسبما جاء اعلاه فان عددا كبيرا من حفلات الزواج كانت تقام في نفس اليوم في المدن الاشورية المختلفة وعليه لم يكن من المستطاع ان تقام كل حفلة زواج لوحدها , بل كانت العرائس تطوف في احياء المدينة من بيت الى بيت. ولايزال الاشوريون يمارسون هذه العادة يوم عيد ( سولافا) حيث تمر العرائس من بيت الى اخر في الاحياء السكنية فيجمعون الهدايا ويوزعونها بينهم. ونستطيع ايضا ان نعزي كذبة نيسان الى ماكان يجري في اليوم السابع من ايام الاحتفالات حيث كانت تمر بيوم ملؤوه الفوضى وعدم الاستقرار.