طوال حياته المهنيّة، لم يرسم ليوناردو دافنشي سوى 20 لوحة، بقي منها إلى اليوم 14 لوحة فقط. كان بطيئا جدّا في عمله. فخلال الفترة التي رسم فيها الموناليزا، كان مايكل أنجيلو قد أكمل تقريبا جميع رسوماته في سقف كنيسة سيستين.
كانت مدينة ميلانو هي المكان الذي طوّر فيه ليوناردو أفكاره كرسّام فيلسوف. وفيها تحوّلت ملاحظاته الدقيقة للطبيعة إلى وسيلة لاكتشاف قوانينها، ومن ثمّ استخدامها لإبراز العالم المادّي والميتافيزيقي.
وقد حظي ليوناردو في ميلانو برعاية أميرها لودوفيكو سفورزا، وهو سليل عائلة متنفّذة لعبت دورا مهمّا في تاريخ هذه المدينة. والمعروف أن الأمير والرسّام كانا متماثلين في السنّ، إذ ولدا في نفس السنة، أي 1452م.
كان لودوفيكو الابن الرابع لعائلته. وكانت آماله متركّزة على الثروة وليس السلطة. ولهذا السبب كان صعوده إلى الحكم مفاجئا وقبضته على ميلانو ضعيفة في بداية الأمر. كان لودوفيكو بحاجة ماسّة إلى ليوناردو دافنشي وإلى خبراته العملية ومهاراته الفنّية. وقد أشار ليوناردو نفسه إلى هذه الحقيقة في رسالة أعلن فيها عن نفسه كمصمّم لأدوات الحرب، التي يمكن تكييفها لتُستخدم في زمن السلم، في مجال العمارة وتصميم المباني وفي تسيير المياه من مكان إلى آخر.
في ذلك الوقت، كان الرسّام يكرّس كلّ وقته لدراسة التصميم وتجريب كلّ شيء كان قد تعلّمه عن المنظور الجوّي والضوء والظلّ. وكان يرى أن الفهم الحقيقيّ للأشكال الموجودة في أعمال الطبيعة هو السبيل الأمثل لفهم صانع هذه الأشياء.
وأثناء إقامته في ميلانو، رسم ليوناردو ثلاثا من أشهر لوحاته. الأولى هي بورتريه سيسيليا غاليراني "سيّدة مع إيرمين". والثانية امرأة بعقد جميل "أو لا بيل فيرونيير" التي يصوّر فيها لوكريشيا كريفالي عشيقة لودوفيكو. والثالثة، وهي غير معروفة كثيرا، بورتريه لموسيقيّ.
ويقال إن الفنّان رسم هذه اللوحات الصامتة، لكن الرائعة، لأعين الخبراء والمختصّين، لأنه وضع فيها عصارة تجاربه في أساليب التوليف والإفصاح عن المشاعر. ومن الواضح انه تجنّب عمدا استخدام الألوان الساطعة، لأنه كان يعتقد أن "كلّ من يرسم بلا ظلال لا يمكن أن يحقّق المجد الفنّي الذي لا تدركه سوى العقول الفطنة والنبيلة".
النظرات المباشرة للمرأة في لوحة لوكريشيا كريفالي توحي بالعلاقة بين الموضوع والمتلقّي وتضفي على المرأة بعدا شخصيا. وقد أشيع في بعض الأوقات أن من رسم اللوحة هو احد تلاميذ دافنشي. لكن نموذج الوجه والملامح يرجّح احتمال أن من رسم اللوحة هو ليوناردو نفسه. معرفة الرسّام بالضوء مكّنته من تصوير الملامح الدقيقة للمرأة من خلال هذه الصورة المدهشة ذات البعد الثلاثي التي يبدو التناغم فيها واضحا بين المعرفة العلمية والبراعة الفنّية.
وفي جميع هذه اللوحات الثلاث، فإن تحويرات الألوان والضوء، والتحوّلات غير المحسوسة في الأجساد والنماذج، والتعامل الحريص مع النسيج، كلّها أشكال وسمات اعتمد فيها الرسّام، كليّا تقريبا، على الملاحظة البحتة.
أثناء مكوثه في ميلانو، كان ليوناردو يبحث عن شكل جديد من الرسم. وأصبح يعتقد بأن الفنّ يمكن أن يبلغ درجة الكمال، وبأن الغاية من الرسم هي تصوير كلّ ما يُرى وما لا يُرى، من ملامح الوجه إلى المشاعر العابرة.
كان ذلك نوعا من الطموح الرفيع وغير العاديّ. وهو يفسّر، جزئيا، لماذا كان الرسّام غالبا يتوقّف عن رسم لوحة ما دون أن يكملها لينتقل لأخرى.
لوحات دافنشي في ميلانو كانت محاولات لأخذ رسم الوجه إلى ما هو ابعد من مجرّد تصوير الملامح. وجميع هذه الوجوه الثلاثة قريبة من تصوّرات ليوناردو المثالية عن النِسب والتناغم. كما أنها، وعلى نحو ما، مشرّبة بإحساس روحي لا تخطئه العين.