منهج التبشير
لقد كان الغالب على حياة الرسول وعلى أقواله وأفعاله جانب التبشير، ولم يكن يخرج عن هذا الطبع على الرغم من قسوة المشركين عليه..
روى ربيعة بن عباد الديلي -وكان جاهليًّا ثم أسلم- قال: «رأيت رسول الله بَصَرَ عيني بسوق ذي المجاز يقول: «أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ تُفْلِحُوا». ويدخل في فجاجها[1] والناس مُتَقَصِّفون[2] عليه، فما رأيت أحدًا يقول شيئًا، وهو لا يسكت، يقول: «أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ تُفْلِحُوا». إلا أن وراءه رجلاً أحول وَضِيَء الوجه ذا غَدِيَرتَين، يقول: إنه صابئ كاذب. فقلتُ: من هذا؟ قالوا: محمد بن عبد الله، وهو يذكر النبوة. قلتُ: من هذا الذي يُكذِّبه؟ قالوا: عمه أبو لهب[3].
فالرسول لم يخرج عن أدبه في المعاملة حتى مع السفاهة الواضحة لأبي جهل وأبي لهب، وظل على منهج التبشير يدعو الناس إلى الفلاح والنجاة، بل إنه كان يبشِّرهم بمُلْكِ الدنيا قبل نعيم الآخرة، إنْ هم آمنوا بالله ولم يشركوا به شيئًا..
قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما: «مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاءه النبي ، وعند أبي طالب مجلسُ رجلٍ، فقام أبو جهل كي يمنعه، وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي، ما تريد من قومك؟ قال : «إِنِّي أُرِيدُ مِنْهُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمُ الْعَجَمُ الْجِزْيَة». قال: كلمة واحدة؟! قال : «كَلِمَةً وَاحِدَةً». قال: «يَا عَمِّ، قُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ». فقالوا: إلهًا واحدًا؟! ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق. قال: فنزل فيهم القرآن: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} إلى قوله: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 1-7]»[4].
فهو لا يعبس في وجوهم، ولا يقاطع مجالسهم، ولا ينظر لهم نظرة المتكبِّر المعرض، إنما يتلطف إليهم ويتودد، ويبشرهم بمُلك الدنيا ونعيم الآخرة.
[1] الفجاج: جمع الفَجّ، وهو الطريق الواسع والمكان البعيد. ابن منظور: لسان العرب، مادة فجج 2/338.
[2] المتقصِّفون: المزدحمون والمجتمعون. ابن منظور: لسان العرب، مادة قصف 9/283.
[3] أحمد (491، 492، 493) و(341) وسنده حسن. وقال الساعاتي في الفتح الرباني (20/216): سنده جيد. والحاكم في المستدرك 1/15، ومعجم الطبراني الكبير 5/55، والبيهقي (17505)، وله شاهد من حديث طارق بن عبد الله المحاربي، أخرجه أبو بكر بن شيبة. انظر: ابن حجر: المطالب العالية (4277).
[4] الترمذي: كتاب تفسير القرآن، باب سورة ص (3232)، وقال: هذا حديث حسن. وأحمد (2008)، وابن حبان (6686)، والحاكم (3617)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه. ووافقه الذهبي.
د. راغب السرجاني