دليل الفطرة
.
• إنّك يا والدي تشجعني، وتبعث الاطمئنان في نفسي، أفأبدأ بسؤال بسيط ؟
ـ تفضل
• لقد قلت لي يا والدي: إنّ الدليل الوجداني أو الدليل الفطري هو الذي يرشدنا إلى وجود الله سبحانه .
ـ نعم، قلتُ ذلك.
• هل هذا هو الدليل الوحيد على وجود الله تعالى ؟
ـ لا، بل هذا هو الدليل الميسّر والقريب من المتناول، أو الدليل الجاهز عند الطلب، إنّه كالثدي بالنسبة للرضيع، يلتقمه كلّما جاع، ولكنه ليس هو الدليل الوحيد، بل إن الأدلة على وجود الله بعدد مخلوقاته، وبعدد الحصى والرمل،وبعدد أنفاس الخلائق لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
• إنّ تشبيه الدليل الفطري بالثدي بالنسبة للرضيع تشبيه جميل جدّاً يا والدي،فقد شدّني منظر أخي الصغير في اليوم الأول من عمره عندما كان يبكي ويبحث عن ثدي أمّه، ولم يسكت حتى وضعت ثديها في فمه فالتقمه وكأنه يعرفه، وسكت صراخه ورضي بما أوتي... لقد سألت نفسي يومها: مَن الذي علّم هذا المخلوق الضعيف، الذي أخرجه الله من بطن أمّه لا يعلم شيئاً، مَن الذي علمه أن غذاءه في الثدي؟
ـ لقد اهتدى إلى مراده بالغريزة ...فالغريزة تربط بين الإنسان وحاجته الفطرية،وهي لا تحتاج إلى معلومات مسبقة كما رأيت في هذا الوليد.. ونفس الشيء ينطبق على الدليل الفطري على وجود الله.. إنّ الإنسان يشعر غريزياً بالحاجة إلى الله، ويبحث عن الله كما يبحث الرضيع عن ثدي أمه، فإذا التقمه اطمأنت نفسه وسكن قلبه . وكما يعجز الرضيع عن تقديم الدليل العقلي على علاقته بالثدي، فكذلك الدليل الفطري لا ينطوي على جانب فكري يذكر في الدلالة على الله تعالى، بل هو اتجاه غريزي نحو الله يحسّ به كلّ إنسان في حالات الضعف البشري حيث ينسلخ من كلّ تعلقاته المادية، ويتّجه اتجاهاً حقيقيا نحو الله، فإذا سألته في تلك الحال عن سبب اتجاهه نحو الله، لم يتمكن أن يقدم لك تبريراً نظرياً أو تحليلاً عقلياً لذلك.
• إذن لماذا يا أبي لا يؤمن جميع الناس بالله؟ أليست الفطرة موجودة في كلّ إنسان ؟ أليست الفطرة لا تموت ؟
ـ بل تتعطل
• نعم، تتعطل ولكنها موجودة، فلماذا لا يؤمن كثير من الناس، بل أكثر الناس،وهي حقيقة نلمسها في آيات كثيرة منها:
• (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)
ـ سؤال جيد يا ولدي، إنني فرح جدّاً لأنك توجّه هذه الأسئلة، لكي تبني إيمانك على قاعدة قوية من القناعة في جو بعيد عن التقليد للآباء من جهة، وبعيد عن الإرهاب الفكري من جهة أخرى
. إسمع الجواب يا ولدي:
أولاً: الآية التي تقول : (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)وغيرها من الآيات المشابهة ناظرة إلى الإيمان بصورة عامة وبأجزائه المختلفة، أي الإيمان بالله والرسل والآخرة، والالتزام بطاعة الله.. فالمؤمنون بهذا المعنى أقلّية، أما الإيمان بالله أي الاعتقاد بوجوده فهو ظاهرة تعمّ الغالبية من الناس في كلّ زمان ومكان. . إنّ الإيمان بالله حالة ميّزت المجتمع البشري على مدى التاريخ . ومن الناحية العلمية فإن كلّ حالة تلازم الإنسان في كلّ زمان ومكان تعتبر حالة أصيلة في الكيان الإنساني، وليست حالة طارئة . إذ لو كانت طارئة، لظهرت في زمان واختفت في زمان آخر، أو لانتشرت في مكان،وانحسرت عن مكان آخر. ولمّا كان الإيمان بالله قد وجد مع البشرية في كلّ زمان ومكان فإننا نستنتج من ذلك أنّها حالة أصيلة وليست دخيلة، معنى ذلك أن الإيمان بالله تعالى هو فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون .
• إذن لماذا لا يؤمن هذا القليل من الناس بالله سبحانه وتعالى ؟
ـ لفساد فطرتهم، أما ترى أنّ الطفل إذا مرض فسد ذوقه، فلا يعود يقبل ثدي أمّه ؟ وهكذا الفطرة تمرض فتعرض عن ذكر الله، وكما يعود الطفل إلى ثدي أمّه بعد علاجه من مرضه، فإن الفطرة تعود إلى ربّها بعد علاجها.
• وعلاجها الصدمة، أو الوقوع في خطر عظيم تعجز عن دفعه
ـ أحسنت، وهذا العلاج للفطرة ينفع في أشدّ الناس انحرافاً وأكثرهم ابتعاداً عن الله.. تصوّر أنّ شخصاً لم يكتف بمعصية الله في كلّ شيء، بل جاوز الحد في طغيانه حتى ادعى الألوهيّة، فرعون، الذي قال : أنا ربّكم الأعلى ... شخص كهذا عندما واجه خطر الموت، استيقظت فطرته وجهر بالإيمان بالله:
حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو إسرائيل
فإذا كان مدّعي الربوبية يعود إلى فطرته عند الأزمات الشديدة، فمن الطبيعي أن يفعل ذلك من هو دونه في الكفر والضلال .
• شكراً لك يا أبي على هذا الدرس، ولكن عندي سؤال آخر.
ـ تفضل يا ولدي.
• قلتَ: إن الإيمان بالله صفةٌ لصيقة بالفطرة، والدليل على ذلك أنّ البشر في كل ّزمان ومكان آمنوا بالله.
ـ نعم .
· ولكنا نجد الديانات الوثنية منتشرة في طول التاريخ وعرضه، فكيف نفسّر ذلك؟
ـ أخوك الرضيع يفسّر لك ذلك.
• أخي الرضيع ؟ كيف ؟ لقد فسّر لي التوحيد، فكيف يفسّر لي الوثنية ؟
ـ أرأيته أحياناً يمصّ إصبعه بدل الثدي؟
• آه ..نعم . نعم يا والدي إنّه يبحث عن الثدي فيخطئه، أو لا يجده فيستعيض عنه بمصّ إصبعه .
ـ وكذلك الوثنية، إنها تمثل خطأ الفطرة في العثور على ضالّتها، وهو خطأ ناشئ من ظروف خارجة عن الفطرة ( كانشغال الأمّ عن رضيعها ( ولكن وكما يرفض الرضيع بعد فترة إصبعه عندما يشتد به الجوع ويعجز الإصبع عن درّ الحليب له، فإنّ الإنسان الوثني أيضاً يترك أصنامه، عندما يتعرض لأزمة شديدة تنفض عن الفطرة غبارها، حيث لا تعود الأصنام قادرة على إشباع حاجة الفطرة إلى الالتحام بالإله الحق .
• الحمد لله، وشكراً لك يا أبي، إسمح لي الآن أن ألخص ما فهمته منك.. الدليل الفطري هو الإحساس الطبيعي عند كلّ إنسان بالاتجاه نحو الله، وهذا الدليل هو عملية انجذاب نفسي غريزي، وهو ليس دليلاً عقلياً فكرياً، وإنما هو انجذاب غريزي نحو القوة المطلقة الغيبية، التي يلجأ إليها الإنسان حين تنقطع به السبل، وإنّ هذا الانجذاب الفطري يضمر عندما تغطيه الأفكار المنحرفة والمعاصي المتكررة، ولكنه سرعان ما ينمو ويظهر في الأزمات الشديدة والأخطار الكبيرة، التي يتعرض لها الإنسان، ويقوم دليل الفطرة عندها بسوق الإنسان نحو ربّه .
ـ هذا تلخيص جيد، هل عندك سؤال آخر أم أضيف أنا شيئاً؟
• تفضل يا أبي.
ـ هناك ظاهرة عقائدية ولدت في القرن العشرين، وعاشت فيه حوالي ثمانين عاماً، ثم انتهت بالفشل الذريع .. هذه الظاهرة، وبالأحرى انتهاؤها، يرتبط بموضوعنا ارتباطاً وثيقاً.
• وما هي يا أبي؟
ـ إنّها العقيدة الماركسية اللينينية او الشيوعية، التي ظهرت في أوائل القرن العشرين، وأمسكت بزمام السلطة في نصف العالم الشرقي، ودانت لها رقاب ثلث البشر على وجه التقريب، واستمرت في السيطرة أكثر من ثلاثة أرباع القرن، واستعانت بالقوة السياسية والاقتصادية والعسكرية، واستخدمت الترغيب والترهيب في نشر أفكارها الإلحادية القائمة على إنكار وجود الله سبحانه وتعالى ... فماذا كانت النتيجة ؟
كانت النتيجة أن فشلت كلّ تلك الجهود الضخمة على مدى هذه الفترة الطويلة، التي ولد وعاش فيها جيلان كاملان ربّتهم الشيوعية على يديها، فلم ينتشر الإلحاد، ولم يقبل الإنسان تلك الفكرة الضالة، ولم تنقطع صلته بالله سبحانه وتعالى، وبقي الملحدون هم الأقلية الشاذة، والمؤمنون بالله هم الأغلبية الساحقة .
• هذا يدل فعلاً على أنّ الإيمان بالله حالة نابعة من صميم الإنسان، وليست مكتسبة من التربية والمجتمع .
ـ لو كانت مكتسبةً لزالت بهذه التربية الجديدة، التي مارستها الشيوعية لثلاثة أرباع القرن، ولم تترك مظهراً من مظاهر الدين إلاّ وقضت عليه، وباشرت في زقّ الأطفال بالفكر الإلحادي في المدرسة والشارع والراديو والتلفزيون والصحافة والملعب والمعسكر، وفي كلّ مجال يوجد فيه فم ينطق، وأذن تسمع، وعين تبصر... ومع كلّ ذلك بقي الإيمان بالله قائماً والإلحاد مهزوماً.
• ذلك بأن الله هو الحق، وأنّ ما يدعون من دونه الباطل .
ـ صدق الله العظيم، وأحسنت يا ولدي.
• سبحان الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن !
ـ سبحانه وتعالى . والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.قم يا ولدي قم، تصبح على خير.