العمارة العثمانية في بلاد الشام من خلال كتب الرحلات العربية
شهد أدب الرحلات العربية ازدهارًا ملحوظًا في العصر العثماني، بوصفه يمثل الجانب العملي الذي ظل حيًّا ومستمرًّا من جوانب علم الجغرافيا العربية، وكان من ملامح ذلك الازدهار: أنه شمل مختلف أنواع الجغرافيا، الطبيعية والبشرية، والاقتصادية والثقافية، بل والعمرانية، فتكلموا في مجال الجغرافيا الطبيعية على أشكال الأرض التي كانوا يمرون بها، وما كانوا يجتازونه من الجبال والهضاب، والوديان والسهول، ولفتت أنظارَهم ألوان التربة، وطبيعة الصخور والحجارة، كما شمل اهتمامهم بالجغرافيا البشرية ما كانوا يمرون به من مجتمعات، حضرية وريفية وبدَوية، وخصائص كل منها من العادات، وعبروا عن اهتمامهم بالجغرافيا الاقتصادية من خلال ملاحظات ذكية عن درجة خصوبة الأرض، وما ينبت فيها من نباتات مختلفة، ووفرة مواردها المائية أو قلتها؛ من الأنهار، والجداول، والآبار، فضلاً عن الأسواق وطرق التجارة والقوافل، كما أنهم أبدَوُا اهتمامًا شديدًا - بحكم كون معظمهم من العلماء - بالحياة الثقافية والعلمية في المدن التي كانوا ينزلون فيها، فنوهوا بمن كانوا يلتقون به من العلماء أمثالهم، وأشاروا إلى ما اطلعوا عليه من مؤلفاتهم، وما منحوه لهم، أو أخذوه منهم، من الإجازات العلمية.
ومن المهم أن نذكر أن ملاحظات أولئك الرحالين لم تكن اعتباطيةً تخلو من منهج ينتظمها، وتقاليد تتبعها، وإنما كانت تتبع قواعد عامة أو تقاليد كتابية أُرْسِيَتْ عبر العديد من كتب الرحلات السابقة، حتى أصبح تسجيل عالم ما لوقائع رحلته يعد من مكملات الغاية التي توخاها من رحلته نفسها، إن كانت لأداء مناسك الحج، أو لطلب العلم ولقاء العلماء، أو غير ذلك من شؤون، وصار اطلاع العلماء على رحلات سابقة قبل قيامهم برحلاتهم هم تقليدًا يمكن أن نلمحه لدى عدد من هؤلاء.
وصار من ثوابت تلك القواعد والتقاليد العناية بوصف ما يمر به الرحالة من المدن والقرى، وما تضمه من المنشآت المختلفة، وما يصادفه في طريقه من منشآت خدمية أخرى، بوصفها تمثل شواخص أثرية لافتة للنظر من ناحية، ومثيرة لنزعة الحنين إلى الماضي من ناحية أخرى، ولأنها تقدم من ناحية ثالثة فائدة عملية لمن تقع في أيديهم هذه الرحلة من القراء، لا سيما الرحَّالين التالين.
ويتناول البحث الذي نقوم به عرضًا تحليليًّا ومقارنًا لما احتوته نماذج من كتب الرحلات العربية، قام بها أصحابها في فترات مختلفة من العصر العثماني، ولغايات متنوعة، وهذه النماذج هي:
1- رحلة بدر الدين محمد بن محمد الغزي الدمشقي (المتوفى سنة 984هـ/ 1499م).
2- رحلة محمد كبريت المدني (المتوفى سنة 1070هـ/ 1659م).
3- رحلة فضل الله بن محب الله المحبي (المتوفى سنة 1082هـ/ 1671م).
4- رحلة إبراهيم بن عبدالرحمن الخياري (المتوفى سنة 1083هـ/ 1672م).
5- رحلة عبدالغني النابلسي (المتوفى سنة 1143هـ/ 1730م).
6- رحلة مصطفى بن كمال الدين البكري الدمشقي (المتوفى سنة 1162هـ ).
7- رحلة عبدالله السويدي (المتوفى سنة 1174هـ/ 1760م).
8- رحلة عبدالغني النابلسي (المتوفى سنة 1143هـ/ 1730م).
9- رحلة طه الباليساني (المتوفى سنة 1204هــ ).
10- رحلة عبدالقادر آل أبي السعود المقدسي (النصف الأول من القرن 13هـ/ 19م).
والملاحظ أن جميع هذه الرحلات هي لفئة العلماء، وأن تقاليد الكتابة فيها تستجيب لاهتماماتهم العلمية أصلاً.
فمحمد الغزي كان من كبار علماء دمشق، تلقى العلم على أيدي علمائها صغيرًا، وانتقل إلى القاهرة حيث واصل دراسته فيها، ثم عاد إلى دمشق ليتولى فيها مشيخة القراء في الجامع الأموي، والتدريس في كثير من مدارسها، وألف عددًا من الكتب المهمة، منها كتاب وصف فيه وقائع رحلته في بلاد الشام وبلاد الروم، سماها: (المطالع البدرية في المنازل الرومية)[1].
ومحمد كبريت المدني كان عالِمًا، له كتاب في وصف المدينة المنورة وتاريخها، وقد مكنته خبرته في هذا المجال من تسجيل ما شاهده من معالم في أثناء رحلته من المدينة إلى إستانبول سنة 1032هـ/ 1622م، سماها: (رحلة الشتاء والصيف)[2].
والمحبي كان قد ورث تقاليد أدب الرحلات عن رجال أسرته؛ فجدُّه وأبوه كانا قد سجلا وقائع رحلتيهما في كتب اطلع عليها هو وأفاد منها في رحلته التي قام بها سنة 1051هـ/ 1641م؛ حيث كانت معه في أثناء قيامه بها، وقد أطلق على رحلته عنوان: (الرحلة الرومية)؛ تمييزًا لها عن رحلة أخرى له سماها: (الرحلة المصرية)[3].
وإبراهيم بن عبدالرحمن الخياري من أسرة علمية، وتولى الخطابة في المسجد النبوي، ثم سافر إلى إستانبول ساعيًا لاستعادة منصبه الذي فقده، ووصف في طريق ذهابه وإيابه وقائع رحلته التي سماها: (تحفة الأدباء وسَلْوة الغرباء)[4].
ومصطفى البكري الدمشقي (المتوفى سنة 1162هـ)، كان صوفيًّا شاعرًا، مرهف الحس، تأثر بشيخه عبدالغني النابلسي في فهمه لمؤلفات ابن عربي، قام برحلات عديدة إلى القسطنطينية، والعراق، وحلب، وبلاد الشام، ومصر، والحجاز، منها رحلته إلى القدس التي سماها: (الخمرة الحسِّية في الرحلة القدسية).[5]
وأما عبدالله السويدي فقد كان علاَّمة عصره في العراق، ورائدًا في بعض مجالات التأليف[6]، وقد أراد أن يحييَ هذا النوع من الأدب فيما سجله من وقائع في أثناء رحلة انطلق فيها من بغداد لغرض أداء الحج، عن طريق بلاد الشام سنة 1157هـ/ 1744م، وأطلق عليها اسم: (النفحة المسكية في الرحلة المكية)[7].
وعبدالغني النابلسي الدمشقي كان من الفئة نفسها، عالِمًا أديبًا شاعرًا، قصد إستانبول في شأن من شؤونه، فمر ببلاد الشام، وأولَى اللقاء بالعلماء فيها اهتمامًا كبيرًا، لكنه تناول أيضًا وصف ما نزل به أو رآه من منشآت، وسمى رحلته: (الحقيقة والمجاز)[8].
وطه الباليساني شيخ صوفي، أخذ الطريقة القادرية عن رجالها في قريته في كردستان، ولأسباب غير مفهومة قام بعدد من الرحلات الطويلة، في العراق، والأناضول، وبلاد الشام، ومصر، والحجاز، استغرقت ثلاثة عقود ونيفًا، حتى استقر في دمشق ليكتب مختصرًا لوقائع تلك الرحلات[9].
ويعد أبو السعود المقدسي أنموذجًا آخر على تلك الفئة؛ فهو من أسرة علمية معروفة في القدس، ومع أنه لم يكن أديبًا بارزًا، لكنه أراد أن يتأسى بمن سبقه من الأدباء الذين أثروا رحلات سابقة، فكتب في أثناء رحلة قصد بها إستانبول سنة 1858 ما شاهده من منشآت مختلفة، وقد سقط أول هذه الرحلة؛ فضاع بذلك عنوانها الذي اختاره لها مؤلفها[10].
ومن أولئك الرحالين مَن قدَّم ملاحظات لا يستهان بها عن الجغرافيا الحضرية، فتكلم عن المدن والقصبات والقرى، وميز بينها تمييزًا حسنًا، وتحدث عما رآه فيها أو في الطرق المؤدية إليها من المنشآت الدينية والعسكرية والخدمية المختلفة، وهي:
1- الخانات.
2- الجوامع والمساجد.
3- المدارس والتكايا.
4- الأضرحة والمشاهد.
5- الحمامات.
6- البرك والأحواض والسبيلخانات.
7- القلاع والحصون.
الخانات:
تُعَد الخانات الواقعة على الطرق التجارية، أو تلك التي في المدن، أكثر المعالم التي اهتم بها الرحالون في ذلك العصر، ففيها يجد الرحالة المأوى الآمن، والمثوى المريح نسبيًّا، فضلاً عن الطعام والماء، كما يجد الكلأ لدابته، وتقدم تلك الخانات خدماتها بصفة مجانية غالبًا؛ حيث ينفَق عليها من أوقاف يرصدها عليها واقفوها من المحسنين، وأكثرهم من الولاة وأمثالهم من المسؤولين[11]، وكانت تلك الخانات تنشأ في آخر كل مرحلة من مراحل الطريق، فتكون بذلك محطات ضرورية لسالكي تلك الطرق، تمكِّنهم من مواصلة رحلتهم من مدينة إلى أخرى.
ويمكن أن نعُد محمد الغزي من أوائل الرحالين الذين أوْلَوا مثل هذه المنشآت اهتمامهم؛ فذكر مثلاً أن خان شيخون "مكان موحش مُعطِش، يُسقى فيه من بئر على بعير"، ونوَّه وهو في عقبة بقراص بنواحي حلب بأن "في آخرها خان ومقيل"[12][13].
وأشاد محمد كبريت المدني بالأبنية التي شاهدها في قرية سراقب، ومنها خانها[14]، ووصف خان مرعي بأنه: "بنيان عظيم، وحوله زراعات"[15]، وسجل إعجابه بخان القطيفة فقال: "بها الخان الذي هو للواردين وقاية وجُنَّة، وهو الخان الذي لا يُرى له عديل، ولا يدانيه في محاسنه مثيل.. "[16].
وسجل المحبي ملاحظات مهمة عنها، من ذلك قوله عن خان القطيفة، الواقع على مفترق طريقي دمشق - حلب، ودمشق - الرحبة، بأنه واحد من جملة من المنشآت الخيرية التي أنشأها في هذه البلدة والي دمشق سنان باشا (تولاها من سنة 994 إلى 997هـ/ 1585 - 1588م)، فقال: "وباني هذه الخيرات، ومُرتِّب تلك المبرَّات، المرحوم المغفور له: سنان باشا، الوزير الأعظم - رحمه الله تعالى - على ما أحسن في وضع بنيانه وأحكم، وهو صاحب الخيرات المأثورة في أكثر البلاد، وحاوي المساعي المشكورة بين العباد، من رائح وغاد"، ووصف ارتياحه خلال مكوثه في هذا الخان فقال: "ولما نزلنا في هذا الخان المذكور، حصل لنا فيه كمال السرور، وترحَّمتُ على من سنَّ الخير في ذلك المكان، ودعوت للنظر فيه بخير وإحسان"[17]، ووصف الخان الذي نزل فيه في قلعة المضيق إلى الشمال الغربي من مدينة حماة فقال: "فنزلت في خانها الحسن، وتأملت بناءه المستحسن، وهو خان منازله واسعة، وقبابه شاسعة، بناه صاحب المساعي الخيرية، والإحسانات المرضية، المرحوم مصطفى آغا آغاة دار السعادة، رزقه الله الحسنى وزيادة"[18].
ووصف خان الشغور بأنها قرية ليس فيها إلا هذا الخان، وهو مهدوم الجدران، وبالي الأطلال والأركان.. فنزلت على جانبه وزالت أتعاب أكداري"[19].
وحينما مر بقرية الزنبقية على الضفة الشرقية لنهر العاصي، وصف خانها بأنه: "مبني لأبناء السبيل من الترك والعرب، قيل: إن بانيه المرحوم سنان باشا عليه من الرحمة ما يشاء"[20].
ونوه إبراهيم الخياري ببعض ما مر به من الخانات، فوصف القنيطرة بأن فيها "خان قائم البناء، ظاهر السناء"، وأشاد بسعة رحابه[21]، ومثل هذا ما سجله عن خان رآه في مرحلة على طريق طبرية؛ إذ قال: إنه "الخان القائم البناء، المشرق السناء"، ومع ذلك فإنه لاحظ أن "فيه أماكن خربة"[22].
وكانت بعض الخانات من السعة بحيث ضمت جوامع تلقى فيها الخطبة أيام الجمع؛ ففي عيون التجار صلى الخياري في جامع وسط الخان مع خطيبه[23]، وقدم ملاحظات مفيدة عن خانات أخرى، فخان بلدة قاقون قرب الرملة "كبير الوضع" يقابل قلعتها، وخان بلدة بيت جبرين لها "خان خرب"[24].
وتحدث عبدالغني النابلسي عن خان نزل به عند باب مدينة حمص، فإذا به يشبه أن يكون مجمعًا من خانات عدة، ومرافق متنوعة، فقال: "هو خان كبير مشتمل على خانات، فإذا دخلت بابه رأيت صحنًا كبيرًا واسعًا، في أطرافه حجر لأبناء السبيل، وعن يمين الصحن باب كبير، فيه خان فيه أواوين وحجر أيضًا، وجدول ماء صغير متشعب من العاصي، وعن يساره صحن طويل يشقه جدول من العاصي عليه ناعورة صغيرة"[25].
ووصف خانًا في قرية النبك، فذكر اسم مؤسسه وتاريخ تأسيسه؛ إذ قال: إنه "الخان الذي بناه صالح باشا الوزير الأعظم، تغمده الله برحمته ورضوانه، في سنة أربع وسبعين بعد الألف"، يريد به صالح باشا الموستاري، وكان نائب الشام، (توفي سنة 1076هـ/ 1665م)، ووصف مشملاته، ووظائفه، وما ينفق عليه، وإدارته، ثم قال: "وعليه أوقاف كثيرة في دمشق الشام، وفيه وظائف وأجزاء تقرأ، وله ناظر بجميع أوقافه"[26].
وتحدث مصطفى البكري الدمشقي عن خان وحيد، يظهر أنه نزل فيه، وهو خان جب يوسف، ووصفه بأنه "خان ضيق"[27]، وسكت عن الخانات العديدة التي لا بد أنه نزل بها في أثناء رحلاته، ويمكن تفسير ذلك الموقف بسبب مروره بها في رحلات سابقة، فلم يعد فيها ما يلفت نظره.
وعلى الضد من هذا، نالت الخانات، لا سيما الضخمة منها، اهتمام عبدالله السويدي البغدادي؛ فهذا النوع من المنشآت لا وجود له في بلاده في عصره؛ لذا جاء وصفه إياها أكثر دقة وتفصيلاً، فحينما تحدث عن خان تومان، حدد موقعه بأنه على ثلاثة فراسخ من حلب، ونوه بمتانة بنيانه بأنه: "خان محكم رفيع"، وبسبب تسميته بأن: "امرأة اسمها تومان بَنَتْه"[28]، ولم يفُتْه أن يتطرق إلى المواد التي بنيت بها الخانات، فذكر عند حديثه عن خان في معرة النعمان أنه: "من أحسن الخانات، رفيع البناء، محكمة سطوحه، مغشية بصفائح الرصاص"، وسر التفاتته هذه أن الرصاص لم يكن من المواد الداخلة في البناء في العراق، وتطرق إلى ما يضمه الخان من منشآت أخرى فقال: "في وسطه قسطل ماء لأبناء السبيل، وفي وسطه مسجد ذو قبة شاهقة مطلية أيضًا بالرصاص"، وأن للخان نفسه "طاقات ورواقات في جميع دوره لأبناء السبيل"، وسجل كتابة تذكارية على بابه، فيها اسم باني الخان، فقال: "وله باب رفيعة ملبسة بالحديد، مكتوب على طاقها في الحجر:
هذا ما بنى حامي الدفاتر السلطانية مراد جلبي.
وقد ذكر عند دخوله حماة أنه: "في الجانب الغربي خان كبير، وقفه الوزير أسعد باشا ابن إسماعيل باشا والي دمشق الشام، المعروف بابن العظم لأبناء السبيل"، ونقل نص كتابة تذكارية على الخان، تتضمن ثلاثة أبيات تؤرخ لبنائه، هي:
نور هذا الخان قد أشرق من
نور ربي ليس يُطفيه العدا
دام وجه الحق من إنشائه
للورى مأوى فوفّى المقصدا
وبشرى سعده قد أرخوا
أسعد خان بمجد شيدا
وأسعد باشا هذا تولى حماة قبل أن يتولى دمشق، ويعد هذا الخان من أهم منشآته، ويحمل الشطر الأخير تاريخ تأسيسه، وهو سنة 1150هـ/ 1737م.
ووصف خانًا قريبًا من بلدة الرستن، فقال: إنه "خان قديم في وسطه جامع له قبة"[29]، ونزل في خان عند باب حمص، فوصف مخطط بنائه بقوله: إنه "خان كبير مشتمل على خانات، فإذا دخلت بابه رأيت صحنًا كبيرًا واسعًا، في أطرافه حجر لأبناء السبيل، وعن يمين الصحن باب كبير فيه خان، فيه أواوين وحجر وإصطبل، ومقابل الوجه باب كبير أيضًا فيه أواوين وحجر أيضًا، وجدول ماء صغير متشعب من العاصي، وعن يساره صحن طويل يشقه جدول من العاصي، وعليه ناعورة صغيرة"[30].
ومثل هذا قوله: إن في قرية حسية، على الرغم من صغرها، "خان كبير لأبناء السبيل"، وإن هذا الخان من السعة بحيث يشتمل على خان يخطب فيه، وإنه يضم فضلاً عن ذلك بركة ماء كبيرة[31].
ووصف خانًا في قرية النبَك فقال: "في داخله خانان للشتاء، وفيه جامع خطبة"[32]، وحينما نزل في القطيفة نزل في خانها، فأعجب بسعته وفخامة بنائه، فقال: "هو كبير واسع، وفي باطنه خان آخر.. وفيه أيضًا خان آخر للشتاء"، وأن في الخان "جامع كبير يخطب فيه"، وأن لهذا الجامع منارة، ولاحظ أن هذا الخان يضم "قلعة صغيرة وخانقاه"، بل إنه لم يتردد في تسجيل إعجابه بطهارة مرافق الخان الصحية، فقال: "وفيه مراحيض يجري الماء إليها بسواقي فيسوق النجاسات"، ولاحظ وجود بركة للماء فيه، وقدر مساحتها بعشر في عشر أذرع، وأن في صحن المراحيض بِرْكَتَيْ ماء حار[33]، فهو هنا لا يتحدث عن خان طريق، وإنما على مؤسسة خدمية كبيرة، تضم عددًا من الخانات، ومرافق دفاعية ودينية مختلفة.
ومما ذكره في رحلته خان يسمى: خان الزبيب، إلى الجنوب من عمان، وقال: "لعله كان يوضع فيه الزبيب"، وهذا الخان والقلعة إلى جواره هي من إنشاء السلطان مصطفى الثالث 1171 -1187هـ/ 1757 - 1773م.
وشغلت الخانات اهتمام طه الكردي الباليساني، فنوه بعدد منها، وكان مما ذكره خان قديم مر به في طريقه إلى بلدة البيرة، فوصفه بأنه "كبير واسع في فلاة من الأرض"، وأن "على بابه مسجد مهجور، بعضه خراب، وبعضه عامر، ومنارة محكمة البناء بالحجارة"، وأثارت هيئته رغبته في معرفة تاريخه، وهوية مؤسسه، فقال: "دخلته وتأملت بناءه، ورأيت على حجارته ومنارته تاريخ عمارته، واسم من عمره - رحمه الله - كان وزيرًا من وزراء آل عثمان، مر في زمانه بهذه الأرض، فأمر بعمارة هذا الخان والمسجد، جزاه الله تعالى عن الناس خيرًا، وشكر سعيه"[34].
وأشار إلى خان على باب الشط في البيرة، وآخر بعيد عن الشط[35]، ولاحظ مدى التشابه بين عمارة الخان وعمارة القلعة، فقال في حديثه عن معرة النعمان: إن فيها "خان عامر كالقلعة على الطريق، وفيه الناس"[36]، وقال في أثناء حديثه عن قرية عيشة: إن بناءه "كالقلعة، نصفه للمسافرين، ونصفه لأهلها وكبيرهم، وفي نصف المسافرين مسجد صغير، وله منارة صغيرة، وبجنب جدار المسجد حوض ماء عذب واسع، وأخبرونا أن الماء هذا بعيد نبعه، ساقه إلى هذا المكان المرحوم جناب سليمان آغا هو للناس الساكنين في هذا الخان، وهو عمر المسجد الذي فيه وحوض الماء، وله قصر فوق باب الخان، وله مخادع وشبابيك تطل على الطريق إلى جهة الشام"[37].
ووصف خان قطيفة بأنه: "كناية عن قلعة واسعة به براني وجواني"، وتحدث عن مشتملات الخان فقال: إن فيه "مسجد وحوض ماء، وفي دهليز الخان دكاكين يبيعون الشعير والخبز واللبن والبيض والدبس، وغير ذلك، على المسافرين"[38]، وأبدى إعجابه بخانين في سرمين، أحدهما مقابل للآخر، وقال: "وهذان الخانان في غاية الإتقان والبناء"، وأنهما: "على طرف البلد"[39]، وأشار إلى خان في قلعة بريج، وآخر في قرية حسة، وأثنى على دورهما في استتباب الأمن في الطريق، وقال: إن بسبب رئيس خان بريج "ما أحد من الناس يخاف من العرب، إن كان رائحًا إلى الشام، أو جاي (كذا) إلى الشام"[40]، وذكر أن في قرية قارة خانين: "الواحد خراب باقي منه بعض الجدران، والواحد ملصق بالقرية"، وحينما مر بقرية النبك لاحظ أن "بجانبها خان عظيم واسع محكم البناء، وفيه مسجد صغير، وله منارة صغيرة، ويجري تحت ذلك الخان نهر ماء معين صافي كالزلال، بارد حلو، يدور حجر الطاحون"[41].
وأشار عبدالقادر المقدسي إلى عدد من الخانات التي نزل فيها في طريق رحلته من نابلس إلى إسلامبول، ووصف بعضها وصفًا جيدًا، فقال عن خان قديم قرب جلجولية: إنه "كبير محكم البناء قديم، من آثار الإفرنج، والظاهر أنه كان كنيسة"[42]، فهذه الملاحظة ذكية كما ترى، وتدل على فهم لا بأس به لتطور العمارة في هذه البلاد، كما نوه بخانات أخرى نزل بها، مثل: خان اللد.
الجوامع والمساجد:
اهتم الرحالون بالجوامع والمساجد التي يمرون بها في أثناء رحلاتهم، ليس بوصفها أماكن عبادة فحسب، وإنما لما توفره من جو مريح للتطهر وللتأمل، وقضاء بعض الوقت متمتعين بدفء رواقاتها شتاءً، ومتفيئين في ظل سقائفها صيفًا، وكان (الاعتكاف) فيها سُنة محببة، حرص كثير من الرحالين على اتباعها، وهو الأمر الذي أتاح لهم الاطلاع على عمارة هذه المنشآت، وتأمل ما تضمه من عناصر جمالية، بل قراءة ما سجله منشئوها عليها من كتابات تذكارية تسجل تواريخ إنشائهم إياها، من ذلك أن الرحالة الغزي أشار إلى جامع البحر، أحد جوامع دمشق، وقال: إنه "يشقه نهر لطيف"[43]، ونوه عند مروره عقبة بقراص بأن: "هناك مسجد قديم البنيان"[44].
ولم يفُتِ المحبي في أثناء نزوله في القطيفة أن يشيد بما تضمه من مؤسسات خيرية أنشأها والي دمشق سنان باشا، من بينها: "جامع ذو مستحسن"[45]، ونوه بالجوامع التي دخلها في المدن التي على طريقه، ومنها جامع راس العين، فوصفه بأنه كبير رحيب، كما نوه بجامع حمص الكبير[46]، ولفت نظرَه منبرُه الأثري، فوصف ما انتهى إليه في عهده، فقال: "وقد رأيت أنا بجامع حمص منبرًا معظمًا قديمًا حسنًا مطعمًا، وكأنه تخلخل وتضعضع وتقلقل وتقنع، فسُمَّرت بعرضه دفة بيضاء ثقيلة خشنة عريضة طويلة غير مجلوة ولا مصقولة"[47].
ونوه إبراهيم الخياري بالمساجد التي مر بها، من ذلك أنه حينما وصف خانها أشار إلى وجود مسجد إلى جانبه "حصن قائم بناؤهما فائق، "، وهما من إنشاء والي دمشق سنان باشا[48].
ولاحظ أنه يوجد بلصق الخان الكائن على طريق القنيطرة "مسجد لطيف"[49]، وأن في عيون التجار "جامع حسن بمنارة مرتفعة".
وتطرق عبدالغني النابلسي إلى بعض المساجد المقامة عند الأضرحة التي كان يقصدها بالزيارة، وسكت عن غيرها، فقال في وصف الجامع الذي أمر بإنشائه السلطان سليم الأول عند قبر الشيخ الصوفي محيي الدين ابن عربي، بقوله: "ودخلنا إلى جامع السلطان الملك المنصور المؤيد سليم خان، عليه الرحمة والغفران، ونزلنا إلى حضرة الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر الشيخ محيي الدين بن عربي.."[50]، وذكر أن بالقرب من مزار الشيخ قُسَيم "مسجد لطيف"[51]، وأن في قرية النبك "مسجد يقال: إن أبا العباس الخضر رئي فيه"[52]، وأن عند ضريح كعب الأحبار "مسجد لطيف، وقبره تحت حائط ذلك المسجد القبلي"، وأن قبري الصحابيين وحشي وثوبان في حمص هما في "جامع كبير، فيه منبر ومنارة، يسمى جامع السر، أحدهما بجانب الآخر، وعليهما قبة واحدة صغيرة"[53]، وأنه وجد قبر من يدعى سعود المغربي في "مسجد هناك لطيف"[54]، وتحدث عن جامع الشرفاء، حيث دفن أحد الصالحين، وصرح بتسميته الأولى، فقال: هو "جامع يسمى سابقًا جامع الأكراد، وهو الآن مشهور بين أهل حمص بجامع الشرفاء، وفيه منبر ومنارة، وفيه قبر يقولون: إنه دُفن فيه الشيخ عمرو"[55]، وأن قبر أبي موسى الأشعري في "مسجد صغير هناك"، وأن قبر عكَّاشة بن محصن في "مسجد صغير فيه محراب"،[56] وقبر أبي يزيد البسطامي في "جامع بمحراب ورواقات وعمارات للخدام والمجاورين"[57]، وأن جامع إبراهيم بن أدهم "من أعظم الجوامع.. وله منبر ومنارة"[58]، وأن قبر الشيخ العليمي "في جامع هناك له مبارك، وعليه قبة وعنده منارة، وقد كان انهدم جامعه، فعمره الشيخ محمد والد الشيخ أبي الهدى المذكور، وعمر له منبرًا للخطبة"[59]، ووصف مزار الفضل بن العباس بأن "عنده جامع فيه قبة"، وأن "الجامع المبارك المسمى بالجامع الأبيض، وهو جامع كبير متهدم.. يقال: إن تحته خالٍ كالمسجد الأقصى، ويقال: إن نبي الله صالح عليه السلام مدفون هناك"[60]، ووصف مسجدًا مطلاًّ على نهر الغضبان وصفًا جميلاً، حدد فيه موقعه من النهر، وشكله العام، فقال: إنه "لطيف البناء، ظريف الفِناء، فيه رواق مطلٌّ على نهر جارٍ، فيه ماؤه سلسال، عذب رائق زلال، يسمى بنهر الغضبان، وهو تارة ناقص وتارة ملآن، وذلك المسجد مكتنف بجسرين عاليين مبنيين بالحجارة، يدخل الداخل من كل جسر منهما في باب من أبواب المدينة إلى جهة ذات عمارة"[61].
وحينما دخل مسجدًا في قلعة حسية، لاحظ وجود كتابات على الحائط القبلي "بخط بعض الناس"، وأن في آخر تعليقة منها: "كتبه عطاء الله القاضي بدمشق الشام"[62]، ولفت نظره تصميم الجامع الكبير في غزة، وتوصل إلى "أن أصله كان كنيسة"[63]، وقال: إن جامع شهاب الدين أحمد بن عثمان "جامع مبارك عظيم الجوانب والبنيان[64]"، وتوقف عند جامع الجاولي في غزة، فوصفه بأنه: "جامع كبير واسع، جميعه مبني بألواح الرخام وأحجار السماقي في أول الزمان، وهو خراب الآن، والرخام ساقط حول جدرانه وفي صحنه الخارج من عدم تقيد النظار عليه بعمارته ومرمته.. وأنه خرب اليوم، وهو منفصل عن العمران، وقد ردموا بابه، واستغنى الناس عن الصلاة فيه"[65]، وذكر أنه في خارج قلعة القدموس "جامع واسع عظيم، فيه محراب ومنبر ومنارة"[66].
وعُنِي عبدالله السويدي بذكر المساجد والجوامع التي مر بها في أثناء رحلته، فأظهر إعجابه الشديد بجامع السليمانية في دمشق، الذي "بناه المرحوم السلطان سليمان"، وعده من عجائب دمشق، بل "من عجائب الدنيا"، ووصفه بقوله: "هو جامع جليل، تحيط به البساتين من جوانبه الأربعة، في وسط صحنه بركة ماء واسعة، فيها خمس فوارات، وفيه مطبخ يطبخ فيه الطعام، وله حجر متعددة، سقوف قبابها مطلية بالرصاص، وكذا قبة الجامع، وله منارتان حسنتان.. إلا أن مصلاه صغير"[67].
وكان عبدالقادر المقدسي حريصًا أيضًا على ألا تفوته بركة الصلاة في مساجد المدن والقصبات والقرى حيثما مكنته الظروف من الإقامة فيها، وقد جاء وصفه لبعض هذه المساجد دقيقًا، من ذلك مثَلاً كلامه على جامع الرملة الكبير؛ إذ قال: "وجدته جامعًا محكم البناء، وله صحن واسع، وفي وسط الصحن قبة شاهقة، وهو ثلاثة أكوار ممتدة من المغرب إلى المشرق، وأما الكور الأوسط فإنه أعلى من اللذين من جانبيه، والمنبر من الرخام، وهو مقابل للباب، وفوق الباب سُدَّة المؤذنين" [68]، ولم يفُتْه أن يقارن بينه وبين جامع آخر في مدينة نابلس، من حيث التصميم، فقال: "وهذا الجامع يشبه جامع النصر الذي هو في مدينة نابلس في جميع بنائه وأكواره، وإحكامه؛ لأنهما كانا كنيستين في زمن الإفرنج، ولما فتح المسلمون بلادنا عملوا غالب الكنائس جوامع".
ومثل ذلك وصفه لجامع يافا بأنه: "مربع الأركان، وعلى دائر الصحن أروقة من كل الجهات، وفي كل رواق من الجهة الغربية حجرة لطلبة العلم، وفي وسط الصحن مزولة تعرف منها الأوقات[69]"، بل إنه نصَّ على هوية مؤسسه، وما كان عليه قبل عمارته، فقال: "وكان قد عمَّره وشيَّده محمد باشا أبو نبُّوت، وكان قبل عمارته آل إلى الخراب، ولما عمَّره المذكور زاد في صحنه، وأوقف عليه أوقافًا".
المدارس والتكايا:
لم تمثل المدرسة أولوية تذكر لدى الرحالين الأوائل الذين مروا بالمدن في بلاد الشام، ربما لغلبة اهتماماتهم الصوفية على وجدانهم، فلم يُشِرْ محمد الغزي إلا إلى مدرسة واحدة من مدارس حلب الكثيرة، هي المدرسة الشرفية، وهي إشارة عابرة، ومثله مصطفى البكري في رحلته إلى القدس؛ إذ لم يذكر من مدارس هذه المدينة إلا المدرسة الأسعدية التي بناها أسعد أفندي مفتي ديار الروم[70].
وبالمقابل، فإننا وجدنا عبدالله السويدي، الذي كان كبير مدرسي بغداد، يظهر اهتمامًا شديدًا بالمدارس، ومستوى ما كان يدرس فيها وبأوقافها المرصدة للإنفاق عليها، فقال عن المدرسة الملحقة بجامع السليمانية بدمشق: إنها "ذات حجر كثيرة، في صحنها بركة ماء، عشر في عشر، ذات فوارات خمس، وموضع التدريس قبة واسعة، تفتح شبابيكها على البساتين من الجوانب الأربعة، وجميع قباب الحجر وسطوحها مصفحة بصفائح الرصاص؛ بحيث إن الرصاص الذي فيها يقاوم مالاً عظيمًا (كذا، يريد يفوم بمال عظيم) لا يحصى، وسمعت ممن جاب البلاد أنه قال: ما في مملكة آل عثمان مثل هذه المدرسة"، ولكنه انتقد إدارتها بقوله: "لا عيب فيها سوى أن أصوات العلم فيها خامدة، ولا يصرف عشر العشر من أوقافها، وإنما يأكله الجهلة، نعوذ بالله من ذلك"[71].
وقد عُنِي العثمانيون بإنشاء التكايا في عدد من المدن التي امتدت إليها سلطتهم، لا سيما تكايا البكتاشية الخاصة بالضباط والجنود المنتسبين إلى أورطات الينكجرية، وتكايا المولوية، وكلاهما وجد انتشاره في الشام منذ دخول العثمانيين إليها، وقد أشار الرحالة الغزي إلى تكية المولوية في دمشق[72]، وذكر المحبي أن مما أنشأه والي دمشق الوزير سنان باشا في قرية القطيفة في شمالي دمشق "تكية لطيفة سامية"[73]، كما أشار إلى "زاوية القطب الرباني، سيدي وملاذي حضرة الشيخ عبدالقادر الكيلاني.. وفيها الآن جماعة من ذريته وولده"[74].
ووصف الرحالة إبراهيم الخياري التكية التي في قرية سعسع الواقعة على الطريق بين دمشق والقنيطرة فقال: إنها عامرة "جار لها بعض المرتب، ويتبطن المنزل نهر عذب"[75]، وكان الغزي قد ذكر أن هذه التكية هي من إنشاء سنان باشا والي دمشق المتقدم.
وذكر عبدالغني النابلسي أن في قرية النبك "تكية للمسافرين"[76]، أنشأها صالح باشا الموستاري نائب الشام، وهو مصطلح جديد، ربما كان يعني دارًا مخصصة للإقامة والتعبد فترات أطول مما تتيحه الخانات عادة، ونوه بالزاوية القادرية في حماة، وذكر أنها: "مطلة على نهر العاصي"[77]، كما أشار إلى زاوية المغاربة في جنوب طرسوس، حيث دفن أحد صلحائهم[78].
وأشار طه الكردي الباليساني إلى الزاوية التي عمرها والي دمشق أسعد باشا العظم، وكانت "قبة قهوته الكائنة خارج باب الفراديس على نهر الشام المسمى برده".
الأضرحة والمشاهد:
كانت قبور الأولياء والصالحين تمثل قيمة رُوحية وأخلاقية عالية في مجتمع ذلك العصر؛ فهي تقصد لزيارتها أولاً، وقراءة سورة الفاتحة على أرواح أصحابها، والدعاء عندها، تبركًا بقدر أولئك المدفونين فيها، وكان الرحالون يقصدونها لكل تلك الأسباب، بل كانت هي سببًا لرحلاتهم أحيانًا، أمثال: مصطفى بن كمال الدين البكري، وعبدالغني النابلسي، ويعد الأخير أنموذجًا لأولئك الرحالين؛ فهو قد صرح في مقدمته أن هدف رحلته هو التبرك بزيارة أصحاب الأضرحة ليس إلا، وحقق هذا الهدف فعلاً؛ فقد أحصى كل قبر في البلاد التي مر بها، وتجشم العناء الكبير في زيارتها، والتبرك بها، حتى لو استقر عنده أن منها ما لم يكن لأصحابها، وإنما هي منسوبة إليهم، وهكذا فإنه وصف غالبًا تلك الأضرحة، وبدأ بقبر جده إسماعيل، فعين أن من عمرها هو "المرحوم درويش باشا صاحب الجامع العظيم المشهور في دمشق الشام"، وأنه "أول من دفن فيها في القبر الكبير، الذي له شباك من الحجر المنحوت، مطل على الطريق"[79]، وذكر أن قبر عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق "عُمِّرت عليه عمارة مشهورة عند أهل الشام"، وسجل إعجابه الشديد بالعمارة التي أقامها السلطان سليم الأول على قبر الصوفي الشيخ ابن عربي، ووصف هيئة هذا القبر من تلك العمارة، فكشف عن أن للشيخ قبرين "قبر مسامت لأرض الجامع المذكور، يدخل إليه من باب في داخل الجامع، معقود عليه القبة الشريفة، وعليه هيبة وجلالة منيفة، وقليل من الناس من يعرفه ويزوره منه، وكان الناس قديمًا يزورونه منه، ثم رأوا في ذلك حرجًا من غلق الأبواب التي في داخل الجامع، فعدلوا عنه إلى القبر الثاني الذي هو الآن مشهور به على مسامتة ذلك القبر الذي في المكان الحالي، والقبر الثاني ينزل إليه بدرج من خارج الجامع المذكور، وعليه قبة معقود بالأحجار يسامت أرض الجامع"[80]، وذكر أن مزار الشيخ قسيم "عليه قبة قد بنيت"[81]، وأن مزار الشيخ حابس "عليه عمارة لطيفة الطول والعرض، وليس له في داخل قبته قبر معين على وجه الأرض"[82]، وأن سعد بن أبي وقاص "مدفون في داخل جامع صغير، عليه قبة صغيرة"[83]، وأن قبر مسعود المغربي "عليه قبة معقودة"، وأن قبر الشيخ محمد السرجاوي "عليه قبة صغيرة"، وأن قبر السيدة تاجة "قبر متهدم عليه بعض عمارة"، وأن قبر والدة إبراهيم بن أدهم "قبالتها محراب كبير عالٍ، وعليها عمارة أصلاً"، وأن مزار عبدالله المغاوري "مزار على شط البحر، وعليه قبة صغيرة"، وعند حديثه عن مزار الشيخ الأوزاعي ذكر أن من عمرته "امرأة من بيت سبفا"، ووصف داخله بأن "عليه قبة وفيه محراب.. وعلى الجانب الأيسر من المحراب طاقة صغيرة تدل على قبر الشيخ، ومدفون تحت الحائط القبلي، وقبره ظاهر إلى الخارج"[84]، وذكر أن قبر عثمان الكردي في "قبة بيضاء عظيمة" [85]، وأن مقام صيدون "فيه قبره، وعليه قبة مبنية"[86]، وأن على قبر نبي الله صالح "قبة مبنية تطأطئ من خلالها الرؤوس"[87]، وأن قبر الشيخ محمد العلمي "في داخل قبة، وعنده عمارة عظيمة، وجامع شريف، بمنارة عالية فوق الجبل"[88]، وأن قبر الشيخ ريحان "في داخل قبة بناها الشيخ خير الدين المفتي"[89]، ووصف مقام علي بن عليم "في ساحة واسعة تحيط بها جدران أربع، ولها باب مقفل في غير أيام الزوراء"، وقال: إن "القبر الشريف مبني بالرخام، وحوله تأزير منيف في جانب من تلك الساحة السماوية، وفي قبلتها عقد من القبو غربًا يشرق فيه المحراب"[90]، ومثل ذلك كثير[91].
الحمامات:
تعد الحمامات التي كان يُنشئها الواقفون في المدن، أو في الخانات التي في الطرق التجارية، من المنشآت المهمة التي أفاد منها الرحالون في أثناء انتقالهم بين المدن والقرى والمفاوز، ففيها يمكن للرحالة أن ينفض عنه وعثاء الطرق وغبارها، بل أن يجد فيها المياه المسخنة في الشتاء، وما يحتاجه من راحة في الصيف، وكان إنشاء مثل هذه المرافق الخدمية يجري غالبًا ملحقًا بالخانات الكبيرة في الطرق؛ حيث يؤمها الرحالون مجانًا، أو مستقلة في المدن التي يمكن التمتع بخدماتها لقاء شيء من المال، من ذلك أن الرحالة محمد كبريت المدني أشاد بحمام مصطفى باشا في دمشق، فعده من محاسن الشام، وقال: "إنه لا نظير له في تلك الأقطار، ولا مداني؛ وذلك لما اشتمل عليه من حسن الصنعة، ومحاسن المباني"[92]، وأبدى إعجابه بما في بلدة سراقب من الحمامات[93].
ووصف عبدالغني النابلسي حمامًا دخله في حماة فقال: إنه بقرب الجسر، وقال: "تنعمنا بأنواع الأنعام، ولم تخل من طرائف التلاحين"[94]، وأن في قلعة طرابلس "حمام لطيف، عذب الماء، نقي نظيف"[95].
البِرَك والأحواض والسقايات:
للبرك وأحواض المياه والسقايات أهمية بالغة في رحلات الرحالين؛ فهي توفر الماء الصالح للشرب، أو للحفظ في أوانٍ خاصة، لينقل على ظهور الدواب، ذكر محمد الغزي أن بظاهر حمص على نحو ميل: "بركتها المعظمة التي تصاد منها السمك الكبار"[96]، وذكر محمد كبريت المدني أن في قرية سراقب "حمامات"[97].
وقد لفتت نظر الرحالة إبراهيم الخياري بعض تلك المشاريع، فقال عن منطقة تقع على الطريق بين القنيطرة وعين التجار بأنها تضم الجُبَّ الذي ألقي فيه النبي يوسف، ووصف هذا الجُبَّ بأنه: "مبني بالحجارة المنحوتة.. في أعلاه قبة مرتفعة ذات أركان أربعة وأبواب..، والقبة فوق الجب تمنع سقوط المطر ونحوه بها"[98]، ووصف البركة التي بالقرب من بيت لحم بأنها: "بركة عظيمة، ويقال: إن قريبًا منها بركتان أخريان، وإن ماء بيت المقدس ينصرف إليه من هذه"[99]، ووصف مصطفى البكري هذه البرك بقوله: إن عددها ثلاث برك، كل واحدة عليا أكبر من أختها السفلى، وثمة بركة بجانب جُبِّ يوسف، ووصفها بأنها: "بركة واسعة الجوانب"[100].
وكان المؤسسون حريصين على تزويد الخانات والقلاع بمصادر المياه، وفي هذا ذكر الخياري أن القلعة الكائنة في ناحية عيون التجار يحيطها سور يضم منشآت خدمية وبيوت "وماء عذب يستقي النازلون منه"[101]، وأنه يوجد في مدينة الرملة "بركة عظيمة عند منزل الحجاج تمتلئ من ماء المطر "[102].
وأضاف عبدالغني النابلسي أن الماء يجري "في طريق له بين تلك الجبال والأودية مغطى بالبنيان عليه، حتى يصل إلى حرم بيت المقدس، ويخرج من الكأس الرخام الذي هو لديه"[103]، ووصف النابلسي بركة في جنوب طرسوس تسمى بركة البداوي بأنها: "بركة كبيرة فيها أسماك كثيرة، وقد أخبرنا أن سمكها لا يصاد، وكل من صاده وأكل منه يمرض، وذلك ببركة الشيخ البداوي المدفون هناك على حافة البركة"[104]، وأشار إلى بركة عند تكية المولوية في جبل لبنان "يجري إليها الماء في نهر هناك عالٍ في ذيل ذلك الجبل، يمر في الجهة العالية من تلك التكية.. وفي ذلك الوادي طواحين على تلك الأنهار دائرة"[105]، وحينما زار مدرسة الأوزاعي رأى هناك "الحمام الذي مات فيه الأوزاعي"، واستدرك قائلاً: "وهو الآن خراب وقد تهدم بعضه"[106].
وعُنِي عبدالله السويدي بقراءة ما كان يكتب على السقايات، أو السبيلخانات، من كتابات تؤرخ لها، من ذلك أنه حينما دخل خان أسعد باشا العظم في حماة، سجل كتابة على طاقها تتمثل بثلاثة أبيات من الشعر، يحمل آخرها تاريخ التأسيس، وهي:
خليلي، قف جنب السبيل فقد ندا
واشرب بماء السلسبيل مبردا
وادعُ لمن أنشأه دعوة صالح
بدوام ملك لا يزال مؤبدا
بالسعد والأفراح قد أرخته
فالأجر يبقى والثواب الأسعدا
كما أنه نوه بعيون للماء وبرك، منها عين الزرقاء وبركة القطراني، وقد قال فيها: إنها "بركة عظيمة مشرفة على الخراب، تمتلئ من ماء المطر"[107].
القلاع والحصون:
تغيَّرت وظائف القلاع والحصون في بلاد الشام في العصر العثماني عنها في العصور السابقة؛ فلم تعُد مهمتها الدفاع عن البلاد ضد غزو خارجي محتمل، وإنما لحماية الداخل من أخطار قطاع الطرق، والخارجين عن القانون من زعامات القبائل الثائرة، ومن هنا فقد تداخلت مهامها مع خانات الطريق، فباتت تمثل محطات يأوي إليها المسافرون من تجار ورحالين؛ لما توفره من أمن، قوامه: حصانة المكان من جهة، ووجود قوى عسكرية وظفت لهذا الغرض، وقد عُنيت الدولة العثمانية بتأسيس هذه القلاع في الفلوات الموحشة، لا سيما على طريق الحج، وتجهيزها بالجنود اللازمين لحمايتها وما يحيط بها، وإبدالهم بغيرهم في أوقات مناسبة.
وقد عبر المحبي عن شعوره بالأمن حين قدم إلى قلعة حسية بقوله: "فقدمناها ونحن من اللصوص في خشية"[108]، وذكر أن في مكان يسمى عيون التجار "قلعة عامرة على تل مرتفع"[109]، وأن في قاقون قرب الرملة "قلعة على تلٍّ عالٍ"[110]، وقال عن القلنسوة: إنها "قلعة.. بها واقعة مشهورة"[111].
وإذا لم تكن القلعة تتخذ وظيفة الخان، ففي الأقل تبنى الخانات قريبة منها لتكون في حماها، وفي هذا يذكر الخياري في وصفه منطقة قاقون أنه على يسار المارِّ فيها قلعة، وعلى يمينه خان، وأن بيت جبرين بها "قلعة وخان خرب"، مما أكد اقتران القلعة بالخان في مهمة إيواء المسافرين وحمايتهم.
ووضَّح عبدالله السويدي مهام هذه القلاع حين ذكر وهو في طريقه إلى الحج منطقة المزاريب، فقال: إن "قلعتها حول عين، منخفض واديها، تجري فيه السيول"، وأنه أقام فيها أيامًا، وقال عن القطراني: إن "فيها قلعة صغيرة، فيها حراس، وعادة الحجاج يضعون أمتعتهم من زاد وغيره فيها، ليأخذوها إذا رجعوا"[112]، وكانت هذه القلعة قد أمر بإنشائها السلطان سليمان القانوني سنة 967هـ/ 1559م؛ لحماية الحجاج، وذكر مثل ذلك عن قلعة عنزة؛ إذ قال: إنها "قلعة ينزلها الحاج الشامي، وفيها حرس وبركة تمتلئ من المطر، وعادة الحجاج [أنهم] يودِعون بعض أمتعتهم فيها ليأخذوها إذا رجعوا"[113]، وقد تسمى القلعة قصرًا؛ فقد ذكر السويدي أن حول عين الزرقاء "قلعة صغيرة، تسمى بقصر شبيب، وفيها حراس يتعاقبون كل عام"[114]، وهذه القلعة يعود بناؤها إلى العصر العثماني.
خاتمة:
قدم الرحالون المسلمون الذين سافروا عبر بلاد الشام معلومات مهمة، عبرت عن اختلاف ثقافتهم، والغاية من رحلاتهم، وتشمل هذه المعلومات:
1- تعيين مواقع المنشآت في المدن، أو في الطرق الخارجية.
2- تسجيل النصوص التذكارية التي دونها المؤسسون على تلك المنشآت تخليدًا لما قاموا به من محاسن الأعمال النافعة، وبعض هذه النصوص قد زال فيما بعد.
3- الوصف العام لشكل المنشآت الخارجي؛ ارتفاعها، وفخامة مظهرها، وما أضيف إليها من القباب والمآذن.
4- وصف دواخل تلك المنشآت من الحجر والأواوين والقباب والأعمدة، وغير ذلك.
5- ما كانت تقدمه تلك المنشآت من خدمات عامة، لا سيما الخانات والسقايات، وطبيعة إدارتها من خلال سلوك متولي أوقافها، والقائمين عليها.
6- تعيين مؤسسي تلك المنشآت من الوزراء، والأمراء، والسلاطين، والصدور العظام.
7- حالة المنشأ في وقت زيارته، إن كان عامرًا أو خربًا، آهلاً أو متروكًا.
8- أصل المنشأ إن كان مقامًا أو كنيسة أو غير ذلك، وما أحيط به من كرامات وبركات.
وهكذا، فإن أدب الرحلات العربية يقدم مادة غنية عن المعالم العمرانية في بلاد الشام إبان العصر العثماني، فيه من التوثيق، والوصف، والملاحظة، ما من شأنه أن يكون موضع عناية الباحثين في هذا الضرب من فنون الأدب.
[1]حققها المهدي عبد الرواضية، دار السويدي، أبو ظبي، 2004، ورمزنا لها في هذا البحث باسم: (الغزي)؛ التماسًا للاختصار.
[2]حققه محمد سعيد الطنطاوي، 1385، ورمزنا لها في هذا البحث باسم: (كبريت).
[3]حققنا الرحلتين، وجمعنا بينهما في كتاب واحد سميناه: (الرحلتان الرومية والمصرية)، دمشق 2012، ورمزنا لها في هذا البحث باسم: (المحبي).
[4]المحبي: خلاصة الأثر ج1 ص21، ونفحة الريحانة ج4 ص366، حققها د. رجاء محمود السامرائي في ثلاثة أجزاء، بغداد، 1979 - 1982، ورمزنا لها في هذا البحث باسم: (الخياري).
[5]حققها د. محمد الحزماوي، ونشر مقتبسات منها على الإنترنت، وهو ما اعتمدناه في هذا البحث، ولم يثبت المحقق أرقام صفحات المخطوط لنشير إليها، ورمزنا لها في هوامش هذا البحث باسم (البكري).
[6]إن أفضل ترجمة له هي ما كتبه في مقدمة كتابه: (النفحة المسكية)، وينظر أيضًا محمد خليل المرادي: سلك الدرر ج3 ص86، وفصلنا القول في ترجمته في مقدمتنا لكتابه هذا، ط2، بيروت 2012، ص5 - 71، ورمزنا لها باسم (السويدي).
[7]حققنا هذه الرحلة، الطبعة الأولى، المجمع الثقافي، أبو ظبي، 2001، والطبعة الثانية، بيروت، الدار العربية للموسوعات، بيروت 2012، وقد رمزنا لها في هوامش هذا البحث باسم: (السويدي).
[8]نشرها بالتصوير وقدم لها: أحمد عبدالحميد هريدي، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986، وحققها: رياض عبدالحميد مراد، دار المعرفة 1410هـ، وقد اعتمدنا هنا النسخة المصورة.
[9]حققنا هذه الرحلة ونشرناها باسم: (رحلة طه الكردي الباليساني في العراق وبلاد الشام والأناضول ومصر والحجاز)، الطبعة الأولى، مديرية الثقافية الكردية، بغداد 2001، ودار مؤكرياني، أربيل 2008، واعتمدنا الطبعة الأخيرة في إحالاتنا إليها، وقد رمزنا لها في الهوامش باسم: (الباليساني).
[10]حققنا هذه الرحلة وسميناها: (رحلة من نابلس إلى إسلامبول)؛ حيث لم يكن لها عنوان، وهي في طريقها إلى النشر إن شاء الله، ونشرنا دراسة عنها على موقع (الألوكة) المبارك.
[11]كان الاهتمام بتأمين الطرق التجارية يمثل في العصر العثماني ضرورة سياسية، فضلًا عن ضرورتها الاقتصادية؛ ذلك أن تهديد تلك الطرق المستمر من قِبل قطاع الطرق كان يمثل مسًّا بهيبة الدولة، ويضر بمصالحها، فكان (تطبيع) الوضع على الأرض في مثل هذه الطرق المقفرة يعني استقرار النظام السياسي برمته؛ ولذا فقد اتجه كثير من الواقفين - من الولاة والأمراء والقادة - إلى إنشاء الخانات الحصينة على طول تلك الطرق، وفي الغالب فإن تلك الخانات كانت تقترن ببناء وحدات خدمية متكاملة، تشمل: ثكنة لمبيت الجند، جامعًا، ومدرسة، وحمامًا، ومنشآت أخرى، وهذا أدى إلى تحول تلك المحطات إلى نوى عمرانية، أخذت بالتحول إلى حواضر سكنية مزدهرة؛ ينظر: محمد الأرناؤوط: الوقف في العالم الإسلامي،